صفحة جزء
فصل

قال ابن العربي : إنما صارت آية الكرسي أعظم لعظم مقتضاها ، فإن الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته ، وهى في آي القرآن كـ قل هو الله أحد في سوره ، إلا أن سورة الإخلاص تفضلها بوجهين : أحدهما أنها سورة وهذه آية ، فالسورة أعظم من الآية ، لأنه وقع التحدي بها ، فهي أفضل من الآية التي لم يتحد بها . والثاني أن سورة الإخلاص اقتضت التوحيد في خمسة عشر حرفا وآية الكرسي اقتضت التوحيد في خمسين [ ص: 74 ] حرفا فظهرت القدرة في الإعجاز بوضع معنى معبر عنه مكتوب ، مدده السبعة الأبحر ، لا ينفد ، عدد حروفه خمسون كلمة ، ثم يعبر عن معنى الخمسين كلمة خمسة عشر كلمة ; وذلك كله بيان لعظم القدرة والانفراد بالوحدانية .

وقال أبو العباس أحمد بن المنير المالكي : كان جدي رحمه الله يقول : اشتملت آية الكرسي على ما لم يشتمل عليه اسم من أسماء الله تعالى ; وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ، ومستكنا في بعض ، ويظهر للكثير من العادين فيها ستة عشر إلا على [ بصير ] حاد البصيرة لدقة استخراجه : 1 - ( الله ) ، 2 - ( هو ) ، 3 - ( الحي ) ، 4 - ( القيوم ) ، 5 - ضمير ( لا تأخذه ) ، 6 - ضمير ( له ) ، 7 - ضمير ( عنده ) ، 8 - ضمير ( إلا بإذنه ) ، 9 - ضمير ( يعلم ) ، 10 - ضمير ( علمه ) ، 11 - ضمير ( شاء ) ، 12 - ضمير ( كرسيه ) ، 13 - ضمير ( يؤوده ) ، 14 - ( وهو ) ، 15 - ( العلي ) ، 16 - ( العظيم ) فهذه عدة الأسماء .

وأما الخفي في الضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله : ( حفظهما ) فإنه مصدر مضاف إلى المفعول ، وهو الضمير البارز ، ولا بد له من فاعل ، وهو ( الله ) ويظهر عند فك المصدر ; فتقول ، " ولا يؤوده أن يحفظهما هو " .

قال : وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي قد رام الزيادة على هذا [ ص: 75 ] العدد لما أخبرته عن الجد ، فقال : يمكن أن تعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحدة منها باثنين ، لأن كل واحد منها يحمل ضميرا ضرورة كونه مشتقا ، وذلك الضمير إنما يعود إلى الله وهو باعتبار ظهورها اسم ، وقد اشتملت على آخر مضمر ، فتكون جملة العدد على هذا أحدا وعشرين اسما ، فأجريت معه وجها لطيفا ، وهو أن الاسم المشتق لا يحتمل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح ، وهذه الصفات كلها أسماء الله تعالى ، ثم ولو فرضناها محتملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزل ، فالمشتق إنما يقع على موصوفه باعتبار تحمله ضميره ، ألا تراك إذا قلت : زيد كريم ، وجدت كريما ، إنما يقع على زيد لأن فيه ضميره ; حتى لو جردت النظر إليه لم تجده مختصا بزيد ، بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس ، ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار اشتماله على ضميره ، فليس المشتق إذا مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه ، فلا يمكن أن يحل له حكم الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين ألبتة . قال : فرضي عن هذا البحث وصوبه .

وقال الغزالي : في قوله صلى الله عليه وسلم : إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر ، وهو مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، فجعلت قلب القرآن لذلك ، واستحسنه فخر الدين الرازي . قال الجويني : سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام .

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : آل حم ديباج القرآن .

وقال ابن عباس : لكل شيء لباب ولباب القرآن آل حم - أو قال : الحواميم .

وقال مسعر بن كدام : كان يقال لهن العرائس .

روى ذلك كله أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن .

[ ص: 76 ] وقال حميد بن زنجويه : حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث ، فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات ، فقال : عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب ، فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هذه الروضات الدمثات ، مثل آل حم في القرآن . أورده البغوي .

وروى أبو عبيد عن بعض السلف - منهم محمد بن سيرين - كراهة أن يقال : الحواميم وإنما يقال : آل حم .

وفي الترمذي عن ابن عباس ، قال : قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله قد شبت ؟ قال : شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت .

خص هذه السور بالشيب لأنهن أجمع لكيفية القيامة وأهوالها من غيرهن ، ولهذا قال في حديث آخر : من أحب أن يرى القيامة رأي العين ، فليقرأ : إذا الشمس كورت ( التكوير : 1 ) .

وروى الترمذي من حديث ابن عباس ومن حديث أنس : إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربعه . وقال في كل منهما غريب .

[ ص: 77 ] وقد تكلم ابن عبد البر على حديث : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) تعدل ثلث القرآن ، وحكى خلاف الناس فيه ; فقيل : لأنه سمع شخصا يكررها تكرار من يقرأ ثلث القرآن ، فخرج الجواب على هذا . وفيه بعد عن ظاهر الحديث . قيل : لأن القرآن يشتمل على قصص وشرائع وصفات ، وقل هو الله أحد كلها صفات ، فكانت ثلثا بهذا الاعتبار . واعترض على ذلك باستلزام كون آية الكرسي وآخر الحشر ثلث القرآن ولم يرد فيه . وقيل تعدل في الثواب ، وهو الذي يشهد له ظاهر الحديث .

قلت : ضعف ابن عقيل هذا وقال : لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات .

ثم قال ابن عبد البر : على أني أقول : السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم . ثم أسند إلى إسحاق بن منصور ، قلت لأحمد بن حنبل قوله صلى الله عليه وسلم : ( قل هو الله أحد ) [ ص: 78 ] تعدل ثلث القرآن ، ما وجهه ؟ فلم يقم لي فيها على أمر . وقال لي إسحاق بن راهويه : معناه أن الله لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضا فضلا في الثواب لمن قرأه تحريضا على تعلمه لا أن من قرأ : قل هو الله أحد ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن جميعه ، هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة .

قال أبو عمر : وهذان إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة .

قلت : وأحسن ما قيل فيه إن القرآن قسمان : خبر وإنشاء ، والخبر قسمان : خبر عن الخالق ، وخبر عن المخلوق ، فهذه ثلاثة ، وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق ، فهي بهذا الاعتبار ثلث القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية