صفحة جزء
[ ص: 116 ] النوع الحادي والثلاثون

معرفة الأمثال

الكائنة فيه

وقد روى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن القرآن نزل على خمسة أوجه : حلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ، فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال .

[ ص: 117 ] وقد عده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن ، فقال : ثم معرفة ما ضرب فيه من الأمثال الدوال على طاعته ، المبينة لاجتناب معصيته ، وترك الغفلة عن الحظ والازدياد من نوافل الفضل [ انتهى ] .

وقد صنف فيه من المتقدمين الحسين بن الفضل وغيره ; وحقيقته إخراج الأغمض إلى الأظهر ; وهو قسمان : ظاهر وهو المصرح به ، وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه ، وحكمه حكم الأمثال .

[ ص: 118 ] وقسمه أبو عبد الله البكراباذي إلى أربعة أوجه : أحدها ; إخراج ما لا يقع عليه الحس إلى ما يقع عليه ، وثانيها ; إخراج ما لا يعلم به ببديهة العقل إلى ما يعلم بالبديهة ، وثالثها ; إخراج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة ، ورابعها ; إخراج ما لا قوة له من الصفة إلى ما له قوة [ انتهى ] .

وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة : التذكير ، والوعظ ، والحث ، والزجر والاعتبار ، والتقرير وترتيب المراد للعقل ، وتصويره في صورة المحسوس ; بحيث يكون نسبته للفعل كنسبة المحسوس إلى الحس . وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر ، وعلى المدح والذم ، وعلى الثواب والعقاب ، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره ، وعلى تحقيق أمر بإبطال أمر ، قال تعالى : وضربنا لكم الأمثال ( إبراهيم : 45 ) فامتن علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد ، وقال تعالى : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ( الروم : 58 ) وقال : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( العنكبوت : 43 ) .

والأمثال مقادير الأفعال ، والمتمثل كالصانع الذي يقدر صناعته ، [ ثم يعربه ] كالخياط يقدر الثوب على قامة المخيط ، ثم يفريه ، ثم يقطع ، وكل شيء له قالب ومقدار ، وقالب الكلام ومقداره الأمثال .

وقال الخفاجي سمي مثلا ; لأنه ماثل بخاطر الإنسان أبدا ، أي شاخص ، فيتأسى به ويتعظ ، ويخشى ويرجو ، والشاخص : المنتصب . وقد جاء بمعنى الصفة ، كقوله [ ص: 119 ] تعالى : ولله المثل الأعلى ( النحل : 60 ) أي الصفة العليا ، وهو قول لا إله إلا الله ، وقوله : مثل الجنة التي وعد المتقون ( الرعد : 35 ) أي صفتها .

ومن حكمته تعليم البيان : وهو من خصائص هذه الشريعة ، والمثل أعون شيء على البيان .

فإن قلت : لماذا كان المثل عونا على البيان ، وحاصله قياس معنى بشيء ، من عرف ذلك المقيس فحقه الاستغناء عن شبيهه ، ومن لم يعرفه لم يحدث التشبيه عنده معرفة ؟ !

والجواب أن الحكم والأمثال تصور المعاني تصور الأشخاص ; فإن الأشخاص والأعيان أثبت في الأذهان ، لاستعانة الذهن فيها بالحواس ، بخلاف المعاني المعقولة ; فإنها مجردة عن الحس ، ولذلك دقت ، ولا ينتظم مقصود التشبيه والتمثيل إلا بأن يكون المثل المضروب مجربا مسلما عند السامع .

وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى ; إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والشاهد بالغائب ، فالمرغب في الإيمان مثلا إذا مثل له بالنور تأكد في قلبه المقصود ، والمزهد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه .

وفيه أيضا تبكيت الخصم ، وقد أكثر تعالى في القرآن وفى سائر كتبه من الأمثال ، وفي سور الإنجيل : سورة الأمثال .

قال الزمخشري : التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني ، وإدناء المتوهم من المشاهد ; فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله ، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك ، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إلا بأمر استدعته حال الممثل له ; ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور ، وأن الباطل لما كان بضده تمثل له بالظلمة ، وكذلك جعل بيت العنكبوت مثلا في الوهن والضعف [ وجعل أخس قدرا من الذباب وضربت لهذا البعوضة ] .

[ ص: 120 ] والمثل هو المستغرب ، قال الله تعالى : ولله المثل الأعلى ( النحل : 60 ) ، وقال تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون ( الرعد : 35 ) ; ولما كان المثل السائر فيه غرابة استعير لفظ المثل للحال ، أو الصفة ، أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها غرابة .

أما استعارته للحال ، فكقوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( البقرة : 17 ) أي حالهم العجيب الشأن كحال الذي استوقد نارا .

وأما استعارته للوصف فكقوله تعالى : ولله المثل الأعلى ( النحل : 60 ) أي الوصف الذي له شأن ، وكقوله : مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ( الفتح : 29 ) ، وكقوله : كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ( البقرة : 264 ) ، وقوله : كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ( العنكبوت : 41 ) وقوله سبحانه : كمثل الحمار يحمل أسفارا ( الجمعة : 5 ) .

وأما استعارته للقصة فكقوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون ( الرعد : 35 ) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ; ثم أخذ في بيان عجائبها .

لا يقال : إن في هذه الأقسام الثلاثة تداخلا ، فإن حال الشيء هي وصفه ، ووصفه هو حاله ، لأنا نقول : الوصف يشعر ذكره بالأمور الثابتة الذاتية أو قاربها من جهة اللزوم للشيء وعدم الانفكاك عنه ، وأما الحال فيطلق على ما يتلبس به الشخص مما هو غير ذاتي له ولا لازم ، فتغايرا . وإن أطلق أحدهما على الآخر فليس ذلك إطلاقا حقيقيا ، وقد يكون الشيء مثلا له في الجرم ، وقد يكون ما تعلقه النفس ويتوهم من الشيء مثلا ، كقوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( البقرة : 17 ) ; معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم ، كالذي يتحصل في نفس الناظر من أمر المستوقد ; قاله ابن عطية : وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله : مثل الجنة ( الرعد : 35 ) ، وقوله : ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) لأن ما يحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه [ ص: 121 ] شيء ; وذلك المتحصل هو المثل الأعلى ; في قوله تعالى : ولله المثل الأعلى ( النحل : 60 ) ، وقد جاء : أنه لا إله إلا الله ( محمد : 19 ) ففسر بجهة الوحدانية .

وقال مجاهد في قوله تعالى : وقد خلت من قبلهم المثلات ( الرعد : 6 ) هي الأمثال ، وقيل : العقوبات .

وقال الزمخشري : المثل في الأصل بمعنى المثل ; أي النظير ، يقال : مثل ، ومثل ، ومثيل ، كشبه ، وشبه ، وشبيه . ثم قال : ويستعار للحال ، أو الصفة ، أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة .

وظاهر كلام أهل اللغة أن المثل - بفتحتين - الصفة ، كقوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( البقرة : 17 ) ، وكذا : مثل الجنة ( الرعد : 235 ) . وما اقتضاه كلامه من اشتراط الغرابة مخالف أيضا لكلام اللغويين . وما قاله من أن المثل والمثل بمعنى ، ينبغي أن يكون مراده باعتبار الأصل وهو الشبه ، وإلا فالمحققون كما قاله ابن العربي على أن المثل - بالكسر - عبارة عن شبه المحسوس ، وبفتحها عبارة عن شبه المعاني المعقولة ، فالإنسان مخالف للأسد في صورته مشبه له في جراءته وحدته ، فيقال للشجاع : أسد ; أي يشبه الأسد في الجرأة ، ولذلك يخالف الإنسان الغيث في صورته ، والكريم من الإنسان يشابهه في عموم منفعته .

وقال غيره : لو كان المثل والمثل سيان للزم التنافي بين قوله : ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) ، وبين قوله : ولله المثل الأعلى ( النحل : 60 ) فإن الأولى نافية له ، والثانية مثبتة له .

وفرق الإمام فخر الدين بينهما بأن المثل هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الماهية ، والمثل هو الذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية .

[ ص: 122 ] وقال حازم في كتاب " منهاج البلغاء " : وأما الحكم والأمثال ، فإما أن يكون الاختيار فيها بجري الأمور على المعتاد فيها ، وإما بزوالها في وقت عن المعتاد ; عن جهة الغرابة أو الندور فقط ; لتوطن النفس بذلك على ما لا يمكنها التحرز منه ; إذ لا يحسن منها التحرز من ذلك ، ولتحذر ما يمكنها التحرز منه ويحسن بها ذلك ، ولترغب فيما يجب أن يرغب فيه ، وترهب فيما يجب أن ترهبه ، وليقرب عندها ما تستبعده ، ويبعد لديها ما تستغربه ; وليبين لها أسباب الأمور ، وجهات الاتفاقات البعيدة الاتفاق بها ; فهذه قوانين الأحكام والأمثال قلما يشذ عنها من جزئياتها شيء .

فمنه قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( البقرة : 17 ) .

وقوله : أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ( البقرة : 19 ) .

وقوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ( البقرة : 26 ) .

وقوله : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ( العنكبوت : 41 ) .

وقوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا ( الجمعة : 5 ) .

وقوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا ( التحريم : 10 ) إلى قوله : ومريم ابنت عمران ( التحريم : 12 ) الآيات .

وقوله : كمثل صفوان عليه تراب ( البقرة : 264 ) الآية .

وقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ( النور : 39 ) ، ثم قال : أو كظلمات في بحر لجي ( النور : 40 ) الآية .

[ ص: 123 ] وقوله تعالى : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ( النحل : 92 ) .

فهذه أمثال قصار وطوال مقتضبة من كلام الكشاف .

فإن قلت : في بعض هذه الأمثلة تشبيه أشياء بأشياء لم يذكر فيها المشبهات ، وهلا صرح بها كما في قوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون ( غافر : 58 ) .

قلت : كما جاء ذلك تصريحا فقد جاء مطويا ، ذكره على طريق الاستعارة ، كقوله تعالى : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ( فاطر : 12 ) ، وكقوله : ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان ( الزمر : 29 ) .

والصحيح الذي عليه علماء البيان أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة المقربة لا يتكلف لكل واحد شيء بقدر شبهه به ; بناء على أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض تشبهها بنظائرها ، كما جاء في بعض الآيات من القرآن . وقد تشبه أشياء قد تضامت وتلاحقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها ، وذلك كقوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ( الجمعة : 5 ) فإن الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار الذي يحمل أسفار الحكمة ، وليس له من حملها إلا الثقل والتعب من غير فائدة ، وكذلك قوله تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ( الكهف : 45 ) ; المراد : قلة ثبات زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضرة .

وقد ضرب الله تعالى لما أنزله من الإيمان والقرآن مثلين ; مثله بالماء ، ومثله بالنار ، فمثله بالماء لما فيه من الحياة وبالنار لما فيه من النور والبيان ; ولهذا سماه الله روحا لما فيه من الحياة وسماه نورا لما فيه من الإنارة ، ففي سورة الرعد قد مثله بالماء ، فقال : [ ص: 124 ] أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ( الآية : 17 ) الآية ، فضرب الله الماء الذي نزل من السماء فتسيل الأودية بقدرها ، كذلك ما ينزله من العلم والإيمان ، فتأخذه القلوب كل قلب بقدره ، والسيل يحتمل زبدا رابيا ، كذلك ما في القلوب يحتمل شبهات وشهوات ، ثم قال : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ( الرعد : 17 ) ; وهذا المثل بالنار التي توقد على الذهب والفضة والرصاص والنحاس ، فيختلط بذلك زبد أيضا كالزبد الذي يعلو السيل ، قال الله تعالى : فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( الرعد : 17 ) ، كذلك العلم النافع يمكث في القلوب بالتوحيد وعبادة الله وحده .

روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال : هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد يقول كما اضمحل هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته وكذلك يضمحل الباطل عن أهله .

وفي الحديث الصحيح إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس واستقوا وزرعوا ، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، وذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .

وقد ضرب الله للمنافقين مثلين : مثلا بالنار ، ومثلا بالمطر ، فقال : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( البقرة : 17 ) الآية ، يقال : أضاء الشيء وأضاءه غيره فيستعمل لازما ومتعديا ، فقوله : أضاءت ما حوله ( البقرة : 17 ) هو متعد لأن المقصود أن تضيء النار ما [ ص: 125 ] حول من يريدها حتى يراها ، وفي قوله في البرق : كلما أضاء لهم ( البقرة : 20 ) ذكر اللازم ; لأن البرق بنفسه يضيء بغير اختيار الإنسان ، فإذا أضاء البرق سار ، وقد لا يضيء ما حول الإنسان ، إذ يكون البرق وصل إلى مكان دون مكان ، فجعل سبحانه المنافقين كالذي أوقد نارا ، فأضاءت ، ثم ذهب ضوءها ، ولم يقل انطفأت ، بل قال : ذهب الله بنورهم ( البقرة : 17 ) وقد يبقى مع ذهاب النور حرارتها فتضر . وهذا المثل يقتضي أن المنافق حصل له نور ثم ذهب كما قال الله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ( المنافقون : 3 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية