صفحة جزء
فائدة

سئل الغزالي عن معنى قوله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( النساء : 82 ) فأجاب - رضي الله عنه - بما صورته : الاختلاف لفظ مشترك بين معان ، وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه ، بل نفي الاختلاف عن [ ص: 178 ] ذات القرآن ، يقال : هذا كلام مختلف ، أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة ; إذ هو مختلف أي بعضه يدعو إلى الدين ، وبعضه يدعو إلى الدنيا . أو هو مختلف النظم ; فبعضه على وزن الشعر ، وبعضه منزحف ، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة ، وبعضه على أسلوب يخالفه ، وكلام الله تعالى منزه عن هذه الاختلافات ، فإنه على منهاج واحد في النظم ، مناسب أوله آخره ، وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة ، فليس يشتمل على الغث والسمين ، ومسوق لمعنى واحد ، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى ، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين ، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات ; إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم ، ثم اختلاف في درجات الفصاحة ، بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة ، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة ; لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون ( الشعراء : 225 ) ، فتارة يمدحون الدنيا ، وتارة يذمونها ، وتارة يمدحون الجبن ، فيسمونه حزما ، وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا ، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة ، وتارة يذمونها ويسمونها تهورا ، ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات ; لأن منشأ هذه الاختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال ، والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ، ويتعذر عليه عند الانقباض ، ولذلك تختلف أغراضه ، فيميل إلى الشيء مرة ، ويميل عنه أخرى ، فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة ، فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة ، وهي مدة نزول القرآن ، فيتكلم على غرض واحد ، وعلى منهج واحد ، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرا تختلف أحواله ، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجد فيه اختلاف كثير ، فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس ، لا في نفس القرآن ، وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ( البقرة : 26 ) ، فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف ; وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى ; فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا ، وهي أشد أنواع الاختلاف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية