صفحة جزء
[ ص: 237 ] الثاني عشر : وهو قول أهل التحقيق : إن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال ، لا بكل واحد عن انفراده ; فإنه جمع كله ، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع ، بل وغير ذلك مما لم يسبق .

فمنها الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم ، سواء المقرين والجاحدين ، ثم إن سامعه إن كان مؤمنا به يداخله روعة في أول سماعه وخشية ، ثم لا يزال يجد في قلبه هشاشة إليه ، ومحبة له ، وإن كان جاحدا وجد فيه مع ذلك الروعة نفورا وعيا ; لانقطاع مادته بحسن سمعه .

ومنها ; أنه لم يزل ولا يزال غضا طريا في أسماع السامعين ، وعلى ألسنة القارئين .

ومنها ; ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إياه في صورة كلام هو مخاطبة من الله لرسوله تارة ، ومخاطبة أخرى لخلقه ، لا في صورة كلام يستمليه من نفسه من قد قذف الوحي في قلبه ، وأوحى إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه ، فهو يأتي بالمعاني التي ألهمها بألفاظه التي يكسوها إياه ، كما يشاهد من الكتب المتقدمة .

ومنها ; جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين ، لا يجتمعان غالبا في كلام البشر ; لأن الجزالة من الألفاظ التي لا توجد إلا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة ، والعذوبة منها ما يضادها من السلاسة والسهولة ، فمن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد الفخامة والروعة في الأسماع ، مثل الفصحاء من الأعراب ، وفحول الشعراء منهم ، ومن نحا نحو الثانية قصد كون الكلام في السماع أعذب وأشهى وألذ ، مثل أشعار المخضرمين ومن داناهم من المولدين المتأخرين . وترى ألفاظ القرآن قد جمعت في نظمه كلتا الصفتين ، وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز .

ومنها جعله آخر الكتب غنيا عن غيره ، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى [ ص: 238 ] بيان يرجع فيه إليه ، كما قال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ( النمل : 76 )

التالي السابق


الخدمات العلمية