صفحة جزء
[ ص: 256 ] النوع الأربعون

في بيان معاضدة السنة للقرآن

اعلم أن القرآن والحديث أبدا متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة ; حتى إن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر ، ويبين إجماله .

ثم منه ما هو ظاهر ، ومعه ما يغمض ، وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف : الإمام أبو الحكم بن برجان في كتابه المسمى بـ " الإرشاد " ، وقال : ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن ، أو فيه أصله ، قرب أو بعد ، فهمه من فهمه ، وعمه عنه من عمه ، قال الله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء ( الأنعام : 38 ) .

ألا تسمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الرجم : لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى . وليس في نص كتاب الله الرجم .

وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بكتاب الله ، ولكن الرجم فيه تعريض مجمل في قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب ( النور : 8 ) .

وأما تعيين الرجم من عموم ذكر العذاب ، وتفسير هذا المجمل ، فهو مبين بحكم الرسول وأمره به ; وموجود في عموم قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ( الحشر : 7 ) وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله ( النساء : 80 ) .

[ ص: 257 ] وهكذا حكم جميع قضائه ، وحكمه على طرقه التي أتت عليه ، وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ، ويبلغ منه الراغب فيه حيث بلغه ربه تبارك وتعالى ; لأنه واهب النعم ، ومقدر القسم .

وهذا البيان من العلم جليل ، وحظه من اليقين جزيل ، وقد نبهنا صلى الله عليه وسلم على هذا المطلب في مواضع كثيرة من خطابه .

منها : حين ذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه في الجنة فقال : فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتم عليه . ثم قال : اقرءوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ( السجدة : 17 ) .

ومنها : قالوا يا رسول الله : ألا نتكل وندع العمل ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ( الليل : 5 - 10 ) .

ووصف الجنة ، فقال : فيها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ، ولا يقطعها . ثم قال : اقرءوا إن شئتم : وظل ممدود ( الواقعة : 30 ) .

[ ص: 258 ] فأعلمهم مواضع حديثه من القرآن ، ونبههم على مصداق خطابه من الكتاب ، ليستخرج علماء أمته معاني حديثه طلبا لليقين ، ولتستبين لهم السبيل ، حرصا منه عليه السلام على أن يزيل عنهم الارتياب ، وأن يرتقوا في الأسباب . ثم بدأ رضي الله عنه بحديث : ( إنما الأعمال بالنيات ) ، وقال : موضعه نصا في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ( الإسراء : 18 ) إلى قوله : فأولئك كان سعيهم مشكورا ( الإسراء : 19 ) .

ونظيرها في هود ( الآية : 15 ) والشورى ( الآية : 20 ) .

وموضع التصريح به قوله : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ( البقرة : 225 ) و بما عقدتم الأيمان ( المائدة : 89 ) .

وأما التعريض فكثير ، مثل قوله : الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ( النساء : 139 ) ، من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ( فاطر : 10 ) قد علم الله عز وجل أنهم كانوا يريدون الاعتزاز ، لأن الإنسان مجبول على طلب العزة ; فمخطئ أو مصيب . فمعنى الآية والله أعلم : بلغ هؤلاء المتخذين الكافرين أولياء من دون الله من ابتغاء العزة بهم ، أنهم قد أخطئوا مواضعها وطلبوها في غير مطلبها ، فإن كانوا يصدقون أنفسهم في طلبها فليوالوا الله جل جلاله ، وليوالوا من والاه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ( المنافقون : 8 ) . فكان ظاهر آية النساء تعريضا لظاهر آية المنافقين ، وظاهر آية سورة المنافقين تعريضا بنص الحديث المروي .

ومن ذلك حديث جبريل في الإيمان والإسلام ، بين فيه أن الشهادة بالحق والأعمال [ ص: 259 ] الظاهرة هي الإسلام ، وأن عقد القلب على التصديق بالحق هو الإيمان ، وهو نص الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة في " مسنده " : الإسلام ظاهر والإيمان في القلب موضعه من القرآن : وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ( آل عمران : 83 ) وقوله : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ( المجادلة : 22 ) ونظائرها : وأيدهم بروح منه ( المجادلة : 22 ) قال : وبنيت هاتين الصفتين على الصفات العليا صفات الله - تعالى ظهورها - من الأسماء الحسنى : اسم السلام ، واسم المؤمن .

ومن ذلك حديث ضمام بن ثعلبة : أفلح إن صدق ، في قوله : ما على المحسنين من سبيل ( التوبة : 91 ) .

وقوله صلى الله عليه وسلم : من قال لا إله إلا الله حرمه الله على النار ، في قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ( الأنعام : 82 ) وهو مفهوم من قوله : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ( الصافات : 35 ) فأخبر أنهم دخلوا النار من [ ص: 260 ] أجل استكبارهم وإبائهم من قول : لا إله إلا الله ، مفهوم هذا أنهم إذا قالوها مخلصين بها حرموا على النار .

وقوله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه في قوله تعالى : حديث ضيف إبراهيم المكرمين ( الذاريات : 24 ) وقوله : والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ( النساء : 36 ) وهذه الأربع كلمات جمعن حسن الصحبة للخلق ; لأن من كف شره وأذاه ، وقال خيرا أو صمت عن الشر وأفضل على جاره ، وأكرم ضيفه ، فقد نجا من النار ، ودخل الجنة إذا كان مؤمنا بالله وسبقت له الحسنى ، فإن العاقبة مستورة ، والأمور بخواتيمها ; ولهذا قيل : لا يغرنكم صفاء الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات .

وقوله : رأس الكفر نحو المشرق في قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى الآية ( الأنعام : 75 و 76 ) فأخبر أن الناظر في ملكوت الله لا بد له من ضروب الامتحان ، وأن الهداية يمنحها الله للناظر بعد التبري منها والمعصوم من عصمه الله ، قال الله تعالى : إني ذاهب إلى ربي سيهدين ( الصافات : 99 ) وقال : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب ( مريم : 49 ) وطلوع الكواكب نحو المشرق ومن هناك إقبالها ، وذلك أشرف لها وأكبر لشأنها عند المفتونين ، وغروبها إدبارها ، وطلوعها بين قرني الشيطان من [ ص: 261 ] أجل ذلك ليزينها لهم ، قال - تعالى - : وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم ( النمل : 24 ) ولما كان في مطلع النيرات من العبر بطلوعها من هناك وظهورها - عظمت المحنة بهن ، ولما في الغروب من عدم تلك العلة التي تتبين هناك بتزيين العدو لها ، وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله :وتغرب بين قرني الشيطان .

ولأجل ما بين معنى الإقبال والإدبار كان باب التوبة مفتوحا من جهته إلى يوم تطلع الشمس منه ، ألا تسمع إلى قوله - تعالى - : وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ( الكهف : 90 ) أي وقعت عقولهم عليها ، وحجبت بها عن حالتها ، مع قوله : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ( فصلت : 37 ) .

وفي قوله عند طلوعها : هذا ربي ( الأنعام : 76 ) وعند غروبها : لا أحب الآفلين ( الأنعام : 76 ) ، لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( الأنعام : 77 ) ما يبين تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : رأس الفتنة والكفر نحو المشرق ، وإن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب .

ومن ذلك بدء الوحي في قوله - سبحانه - : أتى أمر الله فلا تستعجلوه ( النحل : 1 ) إلى قوله : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ( النحل : 2 ) .

[ ص: 262 ] وقول خديجة : والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وقوله - تعالى - : ادع لنا ربك بما عهد عندك ( الأعراف : 134 ) وقوله : فلولا أنه كان من المسبحين ( الصافات : 143 ) وفي هذا بين - صلى الله عليه وسلم - أصحاب الغار الثلاثة ، إذ قال بعضهم لبعض : ليدع كل واحد منكم بأفضل أعماله لعل الله - تعالى - أن يفرج عنا .

وقول ورقة : يا ليتني حي إذ يخرجك قومك إلخ ، وقوله - تعالى - : لنخرجنك ياشعيب ( الأعراف : 88 ) وقوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ( إبراهيم : 13 ) .

وكذلك قوله : " لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي " من قوله - تعالى - : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ( الذاريات : 52 و 53 ) ومن ذلك حديث المعراج ، . . . . . . . . [ ص: 263 ] مصداقه في سورة الإسراء وفي صدر سورة النجم .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به من مفهوم قوله - تعالى - : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ( النحل : 123 ) .

وبتصديق كلمة الله ، اتبعه كونا وملة ، وهكذا حاله حيث جاءت صدقا وعدلا فتطلب صدق كلماته بترداد تلاوتك لكتابه ، ونظرك في مصنوعاته ، فهذا هو قصد سبيل المتقين ، وأرفع مراتب الإيمان ، قال - تعالى - : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ( الأعراف : 158 ) وقال لزكريا : أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ( آل عمران : 39 ) ولما كان عيسى عليه السلام من أسمى كلماته لم يأت يوم القيامة بذنب لطهارته وزكاته .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله لا ينام . في قوله : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) .

وقوله : ولا ينبغي له أن ينام . من قوله : القيوم ( البقرة : 255 ) وفسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله : يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ومصداقه أيضا قوله تعالى : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ( آل عمران : 26 ) .

[ ص: 264 ] ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : الصلوات الخمس كفارات لما بينهن وقال : الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام . ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما في قوله - تعالى - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( الأنعام : 160 ) ، فهذا رمضان بعشرة أشهر العام ، ويبقى شهران داخلان في كرم الله - تعالى - وحسن معاملته .

قلت : قد جاء في حديث آخر : وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر ، مع قوله - تعالى - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها انتهى .

وقال في الجمعة : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( الآية : 9 ) وكذلك قال في الصوم : وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ( البقرة : 184 ) أشار إلى سر في الجمعة ، وفضل عظيم ، أراهما الزيارة والرؤية في الجنة ، فإنها تكون في يوم الجمعة . وكذلك أشار في الصيام بقوله : إن كنتم تعلمون ( البقرة : 184 ) إلى سر في الصيام ، وهو حسن عاقبته وجزيل عائدته ، فنبه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك .

وقوله وقد رأى أعقابهم تلوح لم يصبها الماء : ويل للأعقاب من النار في مفهوم [ ص: 265 ] فاغسلوا ( المائدة : 6 ) في معنى قوله : لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) وغسل هو قدميه وعمهما غسلا .

وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( النور : 63 ) مع قوله : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ( النساء : 14 ) .

وقوله : إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من كل خطيئة نظر إليها بعينيه الحديث ، من قوله - تعالى - : ولكن يريد ليطهركم ( المائدة : 6 ) أي من ذنوبكم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ( المائدة : 6 ) أي ترقون في درجة الشكر فيتقبل أعمالكم القبول الأعلى ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة فله الشكر ، والشكر درجات ؛ وإنما يتبين بأن يبقى من العمل بعد الكفارة فضل ، وهو النافلة ، وهو المسمى بالباقيات الصالحات ، لمن قلت ذنوبه ، وكثرت صالحاته ، فذلك الشكر ، ومن كثرت ذنوبه وقلت صالحاته فأكلتها الكفارات ، فذلك المرجو له دخول الجنة ، ومن زادت ذنوبه فلم تقم صالحاته بكفارة ذنوبه ، فذلك المخوف عليه ، إلا أن يشاء ربي شيئا ( الأنعام : 80 ) .

قوله - صلى الله عليه وسلم - : أنتم الغر المحجلون يوم القيامة في قوله - تعالى - : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم ( الحديد : 12 ) .

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء وهذا كله داخل في قوله - تعالى - : وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ( المائدة : 6 ) وجاءت لام كي هاهنا [ ص: 266 ] إشعارا ووعدا وبشارة لهم بنعم أخرى واردة عليهم من الشرائع لم تأت بعد ، ولذلك قال يوم الإكمال في حجة الوداع : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ( المائدة : 3 ) .

ومن ذلك حديث الأذان وكيفيته بقوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، من قوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ( آل عمران : 18 ) . ) وتكرارها في قوله : لا إله إلا هو ( آل عمران : 18 ) .

وقوله : أشهد أن محمدا رسول الله ، في قوله - تعالى - : محمد رسول الله ( الفتح : 29 ) ، وما محمد إلا رسول ( آل عمران : 144 ) مع قوله : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ( النساء : 166 ) وتكرار الشهادة للرسول في معنى قوله : وكفى بالله شهيدا مع قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ( الأحزاب : 41 ) والتنبيه أول الكثرة ، ولأنها عبارة شرعت للإعلام ، فتكرارها آكد فيما شرعت له .

وأما إسراره بهما - يعني بالشهادتين - فمن مفهوم قوله : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ( الأعراف : 205 ) وأما إجهاره بهما ففي قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ( الجمعة : 9 ) والنداء الإعلام ، ولا يكون إلا بنهاية الجهر .

وقوله : " حي على الصلاة " في قوله : وإذا ناديتم إلى الصلاة ( المائدة : 58 ) ، إذا نودي للصلاة ( الجمعة : 9 ) .

وقوله : " حي على الفلاح " في قوله : اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( الحج : 77 ) .

[ ص: 267 ] وقوله : الصلاة خير من النوم ، في قوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ( الذاريات : 55 ) ، وقوله : ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ( الأنفال : 20 ) .

وقوله : " الله أكبر ، الله أكبر " من قوله : ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ( البقرة : 185 ) .

وقوله : لا إله إلا الله ( القتال : 19 ) كررها وختم بها في قوله : واذكروه كما هداكم ( البقرة : 198 ) ، وأفضل الذكر لا إله إلا الله فختم بما بدأ به لقوله : هو الأول والآخر ( الحديد : 3 ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : صلوا علي فإنه من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا في قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( الأنعام : 160 ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ثم سلوا الله لي الوسيلة في قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( الإسراء : 79 ) ، ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ( المائدة : 35 ) .

وقوله : حلت له شفاعتي يوم القيامة في قوله : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ( النساء : 85 ) .

[ ص: 268 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل به ، كلما دعا لأخيه بشيء قال الملك : آمين ولك بمثله ، في قوله - تعالى - : اهدنا الصراط المستقيم ( الفاتحة : 6 ) إلى آخر السورة ، هذا دعاء من يأتي به لنفسه ولجماعة المسلمين بظهر الغيب ، تقول الملائكة في السماء : آمين ، وقد قال - تعالى - : ولعبدي ما سأل .

ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن إبراهيم حرم مكة وأنا حرمت المدينة وقوله - تعالى - : لا أقسم بهذا البلد ( البلد : 1 ) يريد مكة ، ثم قال : وأنت حل بهذا البلد ( البلد : 2 ) يمكن أن يريد به المدينة ، ويكون في الآية تعريض بحرمة البلدين ، حيث أقسم بهما ، وتكراره البلد مرتين دليل على ذلك ، وجعل الاسمين لمعنيين أولى من أن يكونا لمعنى واحد ، وأن يستعمل الخطاب في البلدين أولى من استعماله في أحدهما ؛ بدليل وجود الحرمة فيهما .

ومن ذلك حديث الدجال . قلت : وقع سؤال بين جماعة من الفضلاء في أنه : ما الحكمة في أنه لم يذكر الدجال في القرآن ؟ ! وتلمحوا في ذلك حكما ، ثم رأيت هذا الإمام قال : إن في القرآن تعريضا بقصته في قصة السامري ، وقوله - سبحانه - : وإن لك موعدا لن تخلفه ( طه : 97 ) [ ص: 269 ] وقوله في سورة الإسراء في قوله : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما ( الإسراء : 4 و 5 ) فذكر الوعد الأول ، ثم ذكر الكرة التي لبني إسرائيل عليه ، ثم ذكر الآخرة فقال : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم ( الإسراء : 7 ) الآية ثم قال : وإن عدتم عدنا ( الإسراء : 8 ) وفيه إشارة إلى خروج عيسى .

وكذلك هو في الآيات الأول من سورة الكهف في قوله : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ( الآية : 8 ) والدجال مما على الأرض ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ الآيات من أول سورة الكهف عصمه الله من فتنة الدجال يريد والله أعلم : من قرأها بعلم ومعرفة . وهو أيضا في المفهوم من قوله : محمد رسول الله ( الفتح : 29 ) ، وخاتم النبيين ( الأحزاب : 40 ) .

ومن الأمر بمجاهدة المشركين والمنافقين قوله - صلى الله عليه وسلم - : تخرج الأرض أفلاذ كبدها ، ويحسر الفرات عن جبل من ذهب في قوله - تعالى - : وأخرجت الأرض أثقالها ( الزلزلة : 2 ) فإن الأرض تلقي ما فيها من الذهب والفضة ، حتى يكون آخر ما تلقي الأموات أحياء .

ومصداقه أيضا في عموم قوله : يخرج الخبء في السماوات والأرض ( النمل : 25 ) فتوجه القرآن إلى الإخبار عن إخراجها الأموات أحياء ، وتوجه الحديث إلى الإخبار عن إخراجها كنوزها ومعادنها .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : حتى تعود أرض العرب مروجا في قوله - تعالى - : [ ص: 270 ] حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ( يونس : 24 ) الآية .

وذلك يكون عند إتمام كلمة الحق : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ( محمد : 38 ) وقد تولوا ، وقوله : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ( الجمعة : 3 ) يومئذ تظهر العاقبة ، ويلقي الأمر بجرانه ، وتضع الحرب أوزارها ، ويكون ذلك علما على الساعة ، وآية على قرب الانقراض .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في مثل الدنيا : إن مما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها في قوله - تعالى - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( العلق : 6 و 7 ) وقوله : أنما الحياة الدنيا لعب ( الحديد : 20 ) .

ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين في مفهوم قوله - تعالى - : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( البقرة : 183 ) إلى أن الصوم ينتهي نفعه إلى اكتساب التقوى ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : الصيام جنة ، ولا يكون ذلك إلا بضعف حزب الشيطان ، فتغلق عنه أبواب المعاصي ؛ وهى أبواب جهنم ، وتفتح له أبواب الطاعة والقربات ، وهي أبواب الجنات .

[ ص: 271 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : تسحروا فإن في السحور بركة من آثار قوله - تعالى - : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ( البقرة : 187 ) ومن بركة حضوره الذي هو وقت نزوله - جل وعلا - إلى سماء الدنيا كل ليلة ، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يبتغي البركة في موضع خطاب ربه ، وفي موضع حضوره أو ذكره ، أو اسم من أسمائه ، ومن هنا وقع التعبد باسم المبارك ، واسم القدوس .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ، فقد أفطر الصائم في قوله - تعالى - : ثم أتموا الصيام إلى الليل ( البقرة : 187 ) وقوله : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( البقرة : 187 ) والبركة في اتباع مجاري خطابه ، وإن كان الخطاب حكمه حكم إباحة ؛ كما أن البركة في اتباع السنة والاقتداء ؛ ولهذا كان أكثر الصحابة لا يصلون المغرب إلا على فطر ، وكانوا يؤخرون السحور إلى بزوغ الفجر ابتغاء البركة في ذلك ، والخير الموعود به .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين في معنى قوله حكاية عن خليله : والذي هو يطعمني ويسقين ( الشعراء : 79 ) والمعنى بما يفتح الله لخاصته من خلقه الذين لا يطعمون ، إنما غذاؤهم التسبيح والتهليل والتحميد .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصعب بن جثامة : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ، في مفهوم [ ص: 272 ] قوله - تعالى - : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( المائدة : 95 ) والآكل راض والراضي شريك .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حنظلة : لو أنكم تدومون على ما كنتم عندي لصافحتكم الملائكة ولكن ساعة وساعة في قوله : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ( يونس : 12 ) وقوله : ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ( النحل : 53 و 54 ) .

فذكر - تعالى - اللجأ إليه عندما يلحق الإنسان الضر ، وهو ذكر صوري ، فلو كان الذكر بينهم على الدوام ، لم تفارقهم الملائكة السياحون الملازمون حلق الذكر ، كما قال - تعالى - عنهم : يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( الأنبياء : 20 ) ولو قربوا من الملائكة هذا القرب لبدت لهم عيانا ، ولأكرمهم الله منه بحسن الصحبة وجميل الألفة .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : يبعث كل عبد على ما مات عليه في قوله - تعالى - : سواء محياهم ومماتهم ( الجاثية : 21 ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان منهم ثم يبعثون على أعمالهم في قوله - تعالى - : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( الأنفال : 25 ) .

[ ص: 273 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة في قوله - تعالى - : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ( النساء : 85 ) ومع قوله : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ( النحل : 25 ) .

وقوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ( العنكبوت : 13 ) مع ما جاء من نبأ ابني آدم .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في جواب من سأله : أي الصدقة أعظم ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم والحديث في قوله - تعالى - : قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ( إبراهيم : 31 ) .

وقوله : اليد العليا خير من اليد السفلى في قوله - تعالى - : والله الغني وأنتم الفقراء ( محمد : 38 ) .

وقد جاء : أن اليد السفلى الآخذة ، والعليا هي المعطية ، وشاهده قوله - تعالى - : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ( الحديد : 11 ) .

[ ص: 274 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن الله - تعالى - : من يقرض غير عديم ولا ظلوم ووجه ذلك أن العطية من أيدينا مفتقرة إلى من يضع فيها حقا وجب عليها ، ويطهرها بذلك من ذنوبها وأنجاسها ، ولولا اليد الآخذة ما قدر صاحب المال على صدقة .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من يرد الله به خيرا يفقهه في قوله - تعالى - : وإلهكم إله واحد ( البقرة : 163 ) إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون ( البقرة : 164 ) .

وقوله : انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( الأنعام : 65 ) وقوله : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ( الحشر : 14 ) ووصف من لم يفهم عن المخلوقات بقوله : ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( الإسراء : 44 ) ثم أعلم - سبحانه - سعة مغفرته لمن في الأرض الذين لا يسبحونه ولا يفقهون تسبيح المسبحين من خلقه ، ثم أعلم بالعلة التي لأجلها حرموا الفقه عن ربهم ، وأن ذلك هو ختم عقوبة الإعراض بقوله : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ( الإسراء : 45 و 46 ) الآية .

وبالجملة فالقرآن كله لم ينزله - تعالى - إلا ليفهمه ، ويعلم ويفهم ، ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون ، والذين يعلمون ، والذين يفقهون ، والذين يتفكرون ، والذين يتدبرون ، ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب .

وكذلك ما خلق الله الدنيا إلا مثالا [ ص: 275 ] للآخرة ؛ فمن فقه عن ربه - عز وجل - مراده منها ؛ فقد أراح نفسه وأجم فكره من هذه الجملة . وفي هذا النوع من الفقه أفنى أولو الألباب أعمارهم ، وفي تعريفه أتعبوا قلوبهم ، وواصلوا أفكارهم .

رزقنا الله من فضله العظيم نورا نمشي به في الظلمات ، وفرقانا نفرق به بين المتشابهات .

التالي السابق


الخدمات العلمية