صفحة جزء
فصل

كتاب الله بحر عميق ، وفهمه دقيق ، لا يصل إلى فهمه إلا من تبحر في العلوم ، وعامل الله [ ص: 290 ] بتقواه في السر والعلانية ، وأجله عند مواقف الشبهات .

واللطائف والحقائق لا يفهمها إلا من ألقى السمع وهو شهيد ، فالعبارات للعموم وهي للسمع ، والإشارات للخصوص ، وهي للعقل ، واللطائف للأولياء ، وهي المشاهدة ، والحقائق للأنبياء ، وهي الاستسلام .

ولكل وصف ظاهر وباطن ، وحد ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد إحكام الحلال والحرام ، والمطلع - أي الإشراق - من الوعد والوعيد ؛ فمن فهم هذه الملاحظة بان له بسط الموازنة ، وظهر له حال المعاينة .

وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منه ظهر وبطن .

ثم فوائده على قدر ما يؤهل له سمعه ، فمن سمعه من التالي ، ففائدته فيه علم إحكامه ، ومن سمعه كأنما يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤه على أمته بموعظته وتبيان معجزته ، وانشراح صدره بلطائف خطابه ، ومن سمعه كأنما سمعه من جبريل عليه السلام ، يقرؤه على النبي - صلى الله عليه وسلم - يشاهد في ذلك مطالعات الغيوب ، والنطق إلى ما فيه من الوعود ، ومن سمع الخطاب فيه من الحق فني عنده وامحت صفاته ، وصار موصوفا بصفات التحقيق عن مشاهدة علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين .

وقد قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها . وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن .

قال ابن سبع في " شفاء الصدور " : هذا الذي قاله أبو الدرداء وابن مسعود لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر ، وقد قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم ، وما بقي من فهمها أكثر .

وقال آخر : القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم ؛ إذ لكل كلمة علم ، ثم يتضاعف ذلك أربعة ، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن ، وحد ومطلع .

[ ص: 291 ] وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله - تعالى - وصفاته ، وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله ، فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ، ومتسعا بالغا ، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل ، والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ، والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة . ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ، ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا ، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر .

ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر ، فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب ، فظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم ، وما لا بد فيها من استماع كثير ؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب ، فما كان الرجوع فيه إلى لغتهم فلا بد من معرفتها أو معرفة أكثرها إذ الغرض بما ذكرناه التنبيه على طريق الفهم ليفتح بابه ، ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم القرآن وظاهره ؛ على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له كما لا نهاية للمتكلم به ؛ فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر ، ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئا .

ومن أحاط بظاهر التفسير - وهو معنى الألفاظ في اللغة - لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني ، ومثاله قوله - تعالى - : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( الأنفال : 17 ) فظاهر تفسيره واضح ، وحقيقة معناه غامضة ؛ فإنه إثبات للرمي ، ونفي له ، وهما متضادان في الظاهر ، ما لم يفهم أنه رمى من وجه ، ولم يرم من وجه ، ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه الله - عز وجل - .

وكذلك قال : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ( التوبة : 14 ) فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله - تعالى - هو المعذب ، وإن كان - تعالى - هو المعذب بتحريك أيديهم ، فما معنى أمرهم بالقتال .

[ ص: 292 ] فحقيقة هذا تستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات ، فلا بد أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة ، ويفهم وجه ارتباط القدرة بقدرة الله - تعالى - حتى تتكشف وتتضح ، فمن هذا الوجه تفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير .

التالي السابق


الخدمات العلمية