صفحة جزء
الرابع عشر : خطاب الواحد بلفظ الجمع . كقوله - تعالى - : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ( المؤمنون : 51 ) إلى قوله : فذرهم في غمرتهم حتى حين ( المؤمنون : 54 ) فهذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ، إذ لا نبي معه قبله ولا بعده . وقوله - تعالى - : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( النحل : 126 ) خاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم ؛ بدليل قوله : واصبر وما صبرك إلا بالله ( النحل : 127 ) الآية .

وقوله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ( النور : 22 ) الآية ؛ خاطب بذلك أبا بكر الصديق لما حرم مسطحا رفده حين تكلم في حديث الإفك .

وقوله - تعالى - : فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا ( هود : 14 ) والمخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا ، لقوله : قل فأتوا ( هود : 13 ) .

وقوله - تعالى - : ففررت منكم لما خفتكم ( الشعراء : 21 ) .

وجعل منه بعضهم قوله - تعالى - : قال رب ارجعون ( المؤمنون : 99 ) ؛ أي ارجعني ؛ وإنما خاطب الواحد المعظم بذلك ، لأنه يقول : نحن فعلنا ، فعلى هذا الابتداء خوطبوا بما في الجواب .

وقيل : ( رب ) استغاثة و ( ارجعون ) خطاب الملائكة ، فيكون التفاتا أو جمعا لتكرار [ ص: 362 ] القول ؛ كما قال : " قفا نبك " . وقال السهيلي : هو قول من حضرته الشياطين وزبانية العذاب ، فاختلط ولا يدري ما يقول من الشطط ، وقد اعتاد أمرا يقوله في الحياة ، من رد الأمر إلى المخلوقين .

ومنه قوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ( الزخرف : 32 ) الآية ، وهذا مما لا تشريك فيه .

وقال المبرد في الكامل : لا ينبغي أن يستعمل ضمير الجمع في واحد من المخلوقين على حكم الاستلزام ؛ لأن ذلك كبر ، وهو مختص به - سبحانه .

ومن هذا ما حكاه الحريري في شرح " الملحة " عن بعضهم أنه منع من إطلاق لفظة " نحن " على غير الله - تعالى - من المخلوقين ، لما فيها من التعظيم ، وهو غريب . وحكى بعضهم خلافا في نون الجمع الواردة في كلامه - سبحانه وتعالى ، فقيل : جاءت للعظمة يوصف بها - سبحانه ، وليس لمخلوق أن ينازعه فيها ؛ فعلى هذا القول يكره للملوك استعمالها في قولهم : نحن نفعل كذا ، وقيل في علتها : إنها كانت تصاريف أقضيته تجري على أيدي خلقه تنزل أفعالهم منزلة فعله ، فلذلك ورد الكلام مورد الجمع ، فعلى هذا تجوز مباشرة النون لكل من لا يباشر بنفسه .

فأما قول العالم : نحن نبين ، ونحن نشرح ، فمسموح له فيه ؛ لأنه يخبر بنون الجمع عن نفسه وأهل مقالته .

[ ص: 363 ] وقوله - تعالى - : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( الأنعام : 130 ) والمراد الإنس ؛ لأن الرسل لا تكون إلا من بني آدم . وحكى بعضهم فيه الإجماع ، لكن عن الضحاك أن من الجن رسولا اسمه يوسف ، لقوله - تعالى - : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( فاطر : 24 ) واحتج الجمهور بقوله : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ( الأنعام : 9 ) ليحصل الاستئناس ، وذلك مفقود في الجن ، وبقوله - تعالى - : إن الله اصطفى آدم ونوحا ( آل عمران : 33 ) الآية ، وأجمعوا أن المراد بالاصطفاء النبوة .

وأجيب عن تمسك الضحاك بالآية بأن البعضية صادقة بكون الرسل من بني آدم ، ولا يلزم إثبات رسل من الجن بطريق إثبات نفر من الجن يستمعون القرآن من رسل الإنس ، ويبلغونه إلى قومهم ، وينذرونهم ، ويصدق على أولئك النفر من حيث إنهم رسل الرسل . وقد سمى الله رسل عيسى بذلك حيث قال : إذ أرسلنا إليهم اثنين ( يس : 14 ) .

وفي " تفسير القرآن " لقوام السنة إسماعيل بن محمد بن الفضل الجوزي قال قوم : من الجن رسل ، للآية .

وقال الأكثرون : الرسل من الإنس ، ويجئ من الجن ، كقوله في قصة بلقيس : فناظرة بم يرجع المرسلون ( النمل : 35 ) والمراد به واحد ؛ بدليل قوله : ارجع إليهم ( النمل : 37 ) وفيه نظر ، من جهة أنه يحتمل أن يكون الخطاب لرئيسهم ؛ فإن العادة جارية لا سيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا ، وقرأ ابن مسعود : ( ارجعوا إليهم ) أراد الرسول ومن معه .

[ ص: 364 ] وقوله : أولئك مبرءون مما يقولون ( النور : 26 ) يعني عائشة وصفوان .

وقوله - تعالى - : كذبت قوم نوح المرسلين ( الشعراء : 105 ) والمراد بالمرسلين : نوح ، كقولك : فلان يركب الدواب ويلبس البرود ، وما له إلا دابة وبرد . قاله الزمخشري .

وقوله - تعالى - : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ( التوبة : 66 ) قال قتادة : هذا رجل كان لا يمالئهم على ما كانوا يقولون في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسماه الله - سبحانه وتعالى - طائفة . وقال البخاري : ويسمى الرجل طائفة .

وقوله : لا بيع فيه ولا خلال ( إبراهيم : 31 ) والمراد " خلة " ؛ بدليل الآية الأخرى ( البقرة : 254 ) والموجب للجمع مناسبة رءوس الآي .

فائدة

وأما قوله - تعالى - : واجعلنا للمتقين إماما ( الفرقان : 74 ) فجوز الفارسي فيه تقديرين : أحدهما : أن " إماما " هنا جمع ، لأنه المفعول الثاني لجعل ، والمفعول الأول جمع ، والثاني هو الأول ، فوجب أن يكون جمعا ، وواحده " آم " لأنه قد سمع هذا في واحده ، قال - تعالى - : ولا آمين البيت الحرام ( المائدة : 2 ) فهذا جمع " آم " مسلما وقياسه على حد قيام وقائم ، فأما أئمة فجمع إمام الذي هو مقدر على حد عنان وأعنة ، وسنان وأسنة ، والأصل أيمة ، فقلبت الياء .

والثاني : أنه جمع لإمام ؛ لأن المعنى أئمة ، فيكون إمام على هذا واحدا ، وجمعه أئمة .

وقال ابن الضائع : قيدت عن شيخنا الشلوبين فيه احتمالين غير هذين : أن يكون [ ص: 365 ] مصدرا كالإمام ، وأن يكون من الصفات المجراة مجرى المصادر في ترك التثنية والجمع كحسب . ويحتمل أن يكون محمولا على المعنى ، كقولهم : دخلنا على الأمير وكسانا حلة ، والمراد كل واحد حلة ، وكذلك هو و " اجعل كل واحد منا إماما " .

التالي السابق


الخدمات العلمية