صفحة جزء
الثالث : الشرط

ويتعلق به قواعد :

القاعدة الأولى : المجازاة إنما تنعقد بين جملتين : أولاهما فعلية ، لتلائم الشرط ، مثل قوله - تعالى - : ومن يعمل من الصالحات ( طه : 112 ) ، فمن يرد الله أن يهديه ( الأنعام : 125 ) ، إن كنت جئت بآية ( الأعراف : 106 ) ، استقر مكانه ( الأعراف : 143 ) ، نرينك بعض الذي نعدهم ( الرعد : 40 ) ، يأتينكم مني هدى ( البقرة : 38 ) .

وثانيهما : قد تكون اسمية ، وقد تكون فعلية جازمة ، وغير جازمة ، أو ظرفية ، أو شرطية ، كما يقال : فأولئك يدخلون الجنة ( مريم : 60 ) ، شرح الله صدره للإسلام ( الزمر : 22 ) ، فأت بآية ( الشعراء : 154 ) ، فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) ، إلينا مرجعهم ( يونس : 70 ) ، فمن تبع هداي ( البقرة : 38 ) .

[ ص: 454 ] فإذا جمع بينهما ، وبين الشرط اتحدتا جملة واحدة ، نحو قوله : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ( النساء : 124 ) ، وقوله - سبحانه - : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ( الأنعام : 125 ) ، وقوله : إن كنت جئت بآية فأت بها ( الأعراف : 106 ) وقوله : فإن استقر مكانه فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) ، وقوله : وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ( يونس : 46 ) وقوله : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( طه : 123 ) فالأولى من جملة المجازاة تسمى شرطا ، والثانية تسمى جزاء .

ويسمي المناطقة الأول مقدما والثاني تاليا . فإذا انحل الرباط الواصل بين طرفي المجازاة عاد الكلام جملتين كما كان . فإن قيل : فمن أي أنواع الكلام تكون هذه الجملة المنتظمة من الجملتين . قلنا : قال صاحب المستوفى : العبرة في هذا بالتالي ؛ إن كان التالي قبل الانتظام جازما كانت هذه الشرطية جازمة - أعني خبرا محضا - ولذلك جاز أن توصل بها الموصولات ؛ كما في قوله - تعالى - : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ( الحج : 41 ) .

وإن لم يكن جازما لم تكن جازمة ، بل إن كان التالي أمرا ، فهي في عداد الأمر ، كقوله - تعالى - : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ( الأعراف : 106 ) وإن كانت رجاء فهي في عداد الرجاء ، كقوله - تعالى - : فإن استقر مكانه فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) أي فهذا التسويف بالنسبة إلى المخاطب . فإن جعلت " سوف " بمعنى أمكن كان الكلام خبرا صرفا .

فأما الفاء التي تلحق التالي معقبة فللاحتياج إليها حيث لا يمكن أن يرتبط التالي بذاته [ ص: 455 ] ارتباطا ؛ وذلك إن كان افتتح بغير الفعل ، كقوله : فأينما تولوا فثم وجه الله ( البقرة : 115 ) وقوله - سبحانه - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( الأنعام : 160 ) لأن الاسم لا يدل على الزمان فيجازى به .

وكذلك الحرف إن كان مفتتحا بالأمر ، كقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ( الحجرات : 6 ) لأن الأمر لا يناسب معناه الشرط ، فإن كان مفتتحا بفعل ماض أو مستقبل ارتبط بذاته ، نحو قولك : إن جئتني أكرمتك ، ونحو قوله - تعالى - : إن تنصروا الله ينصركم ( محمد : 7 ) وكذا قوله : وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ( الأنعام : 70 ) لأن هذه كالجزء من الفعل ، وتخطاها العامل ، وليست كـ " إن " في قوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( الكهف : 57 ) .

فإن قيل : فما الوجه في قوله - تعالى - : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ( التحريم : 4 ) وقوله : ومن عاد فينتقم الله منه ( المائدة : 95 ) قلنا : الأظهر أن يكون كل واحد منهما محمولا على الاسم ، كما أن التقدير : " فأنتما قد صغت قلوبكما " و " فهو ينتقم الله منه " يدلك على هذا أن " صغت " لو جعل نفسه الجزاء للزم أن يكتسب من الشرط معنى الاستقبال ، وهذا غير مسوغ هنا ، ولو جاز لجاز أن تقول : أنتما إن تتوبا إلى الله صغت - أو - فصغت قلوبكما . لكن المعنى : إن تتوبا فبعد صغو من قلوبكما ، ليتصور فيه معنى الاستقبال ، مع بقاء دلالة الفعل على الممكن ، وأن " ينتقم " لو جعل وحده جزاء لم يدل على تكرار الفعل كما هو الآن ، والله أعلم بما أراد .

[ ص: 456 ] الثانية : أصل الشرط والجزاء أن يتوقف الثاني على الأول ، بمعنى أن الشرط إنما يستحق جوابه بوقوعه هو في نفسه ، كقولك : إن زرتني أحسنت إليك ، فالإحسان إنما استحق بالزيارة ، وقولك : إن شكرتني زرتك ، فالزيارة إنما استحقت بالشكر هذا هو القاعدة .

وقد أورد على هذا آيات كريمات :

ومنها قوله - تعالى - : إن تعذبهم فإنهم عبادك ( المائدة : 118 ) وهم عباده عذبهم أو رحمهم ، وقوله : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( المائدة : 118 ) وهو العزيز الحكيم ، غفر لهم ، أو لم يغفر لهم .

وقوله : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ( التحريم : 4 ) وصغو القلوب هنا لأمر قد وقع ، فليس بمتوقف على ثبوته .

والجواب أن هذه في الحقيقة ليست أجوبة ، وإنما جاءت عن الأجوبة المحذوفة لكونها أسبابا لها .

فقوله : فإنهم عبادك ( المائدة : 118 ) الجواب في الحقيقة فتحكم فيمن يحق لك التحكم فيه ، وذكر العبودية التي هي سبب القدرة .

وقوله : وإن تغفر ( المائدة : 118 ) فالجواب فأنت متفضل عليهم ، بألا تجازيهم بذنوبهم ، فكمالك غير مفتقر إلى شيء ، فإنك أنت العزيز الحكيم .

وقال صاحب المستوفى : اعلم أن المجازاة لا يجب فيها أن يكون الجزاء موقوفا على الشرط أبدا ، ولا أن يكون الشرط موقوفا على الجزاء أبدا ، بحيث يمكن وجوده ، ولا أن تكون نسبة الشرط دائما إلى الجزاء نسبة السبب إلى المسبب ، بل الواجب فيها أن يكون الشرط بحيث إذا فرض حاصلا لزم مع حصوله حصول الجزاء ؛ سواء كان الجزاء قد يقع ، لا من جهة وقوع الشرط ، كقول الطبيب : من استحم بالماء البارد احتقنت الحرارة باطن جسده ؛ لأن احتقان الحرارة قد يكون لا عن ذلك ، أو لم يكن كذلك ؛ كقولك : إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا .

[ ص: 457 ] وسواء كان الشرط ممكنا في نفسه كالأمثلة السابقة ، أو مستحيلا كما في قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( الزخرف : 81 ) . وسواء كان الشرط سببا في الجزاء ووصلة إليه ، كقوله - تعالى - : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ( محمد : 36 ) أو كان الأمر بالعكس ، كقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله ( النساء : 79 ) أو كان لا هذا ولا ذاك ، فلا يقع إلا مجرد الدلالة على اقتران أحدهما بالآخر ، كقوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( الكهف : 57 ) إذ لا يجوز أن تكون الدعوة سببا للضلال ومفضية إليه ، ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة .

وقد يمكن أن يحمل على هذا قوله - تعالى - : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ( الممتحنة : 2 ) وعلى هذا ما يكون من باب قوله - تعالى - : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ( آل عمران : 140 ) فإن التأويل : إن يمسسكم قرح فمع اعتبار قرح قد مسهم قبل . والله أعلم بمراده .

الثالثة : أنه لا يتعلق إلا بمستقبل ؛ فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى ، كقولك : إن مت على الإسلام دخلت الجنة ، ثم للنحاة فيه تقديران :

أحدهما : أن الفعل يغير لفظا لا معنى ، فكان الأصل : إن تمت مسلما تدخل الجنة ، فغير لفظ المضارع إلى الماضي ، تنزيلا له منزلة المحقق .

والثاني : أنه تغير معنى ، وإن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال ، وبقي لفظه على حاله .

والأول أسهل ، لأن تغيير اللفظ أسهل من تغيير المعنى .

وذهب المبرد إلى أن فعل الشرط إذا كان لفظ " كان " بقي على حاله من المضي ؛ لأن كان جردت عنده للدلالة على الزمن الماضي فلم تغيرها أدوات الشرط . وقال : إن " كان " مخالفة في هذا الحكم لسائر الأفعال ، وجعل منه قوله - تعالى - : إن كنت قلته ( المائدة : 116 ) ، وإن كان قميصه ( يوسف : 27 ) .

[ ص: 458 ] والجمهور على المنع ، وتأولوا ذلك ، ثم اختلفوا :

فقال ابن عصفور والشلوبيني وغيرهما : إن حرف الشرط دخل على فعل مستقبل محذوف ، أي " إن " أكن كنت قلته ، أي إن أكن فيما يستقبل موصوفا بأني كنت قلته فقد علمته ، ففعل الشرط محذوف مع هذا ، وليست كان المذكورة بعدها هي فعل الشرط .

قال ابن الضائع : وهذا تكلف لا يحتاج إليه ، بل ( كنت ) بعد ( إن ) مقلوبة المعنى إلى الاستقبال ، ومعنى ( إن كنت ) إن أكن ، فهذه التي بعدها هي التي يراد بها الاستقبال ، لا أخرى محذوفة ، وأبطلوا مذهب المبرد بأن " كان " بعد أداة الشرط في غير هذا الموضع قد جاءت مرادا بها الاستقبال ، كقوله - تعالى - : وإن كنتم جنبا فاطهروا ( المائدة : 6 ) .

وقد نبه في التسهيل في باب الجوازم على أن فعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى ، واختار في كان مذهب الجمهور ، إذ قال : ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى بلفظ " كان " أو غيرها إلا مؤولا .

واستدرك عليه " لو " و " لما " الشرطيتين ، فإن الفعل بعدهما لا يكون إلا ماضيا ، فتعين استثناؤه من قوله : لا يكون إلا مستقبل المعنى .

وأما قوله - تعالى - : إنا أحللنا لك أزواجك ( الأحزاب : 50 ) إلى إن وهبت فوقع فيها " أحللنا " المنطوق به أو المقدر ، على القولين ، جواب الشرط مع كون الإحلال قديما ، فهو ماض . وجوابه أن المراد : إن وهبت فقد حلت [ ص: 459 ] فجواب الشرط حقيقة الحل المفهوم من الإحلال لا الإحلال نفسه ، وهذا كما أن الظرف من قولك : قم غدا ، ليس هو لفعل الأمر ، بل للقيام المفهوم منه .

وقال البيانيون : يجيء فعل الشرط ماضي اللفظ لأسباب :

منها ؛ إيهام جعل غير الحاصل كالحاصل ، كقوله - تعالى - : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ( الإنسان : 20 ) .

ومنها إظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه ، كقولهم : إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك ، وعليه قوله - تعالى - : إن أردن تحصنا ( النور : 33 ) أي امتناعا من الزنا جيء بلفظ الماضي ، ولم يقل يردن إظهارا ، لتوفير رضا الله ورغبة في إرادتهن التحصين .

ومنها التعريض ، بأن يخاطب واحدا ومراده غيره ، كقوله - تعالى - : لئن أشركت ليحبطن عملك ( الزمر : 65 ) .

الرابعة : جواب الشرط أصله الفعل المستقبل ، وقد يقع ماضيا لا على أنه جواب في الحقيقة ، نحو : إن أكرمتك فقد أكرمتني اكتفاء بالموجود عن المعدوم .

ومثله قوله - تعالى - : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ( آل عمران : 140 ) ومس القرح قد وقع بهم ، والمعنى : إن يؤلمكم ما نزل بكم فيؤلمهم ما وقع ، فالمقصود ذكر الألم الواقع لجميعهم فوقع الشرط ، والجزاء على الألم .

وأما قوله - تعالى - : إن كنت قلته فقد علمته ( المائدة : 116 ) فعلى وقوع الماضي موقع المستقبل فيهما ، دليله قوله - تعالى - : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي : إن كنت قلته ( المائدة : 116 ) تكن قد علمته ، وهو عدول إلى الجواب إلى ما هو أبدع منه كما سبق .

وأما قوله - تعالى - : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ( يوسف : 17 ) فالمعنى [ ص: 460 ] - والله أعلم - ما أنت بمصدق لنا ، ولو ظهرت لك براءتنا ، بتفضيلك إياه علينا ، وقد أتوه بدلائل كاذبة ولم يصدقهم ، وقرعوه بقولهم : إنك لفي ضلالك القديم ( يوسف : 95 ) ، وإجماعهم على إرادة قتله ، ثم رميهم له في الجب أكبر من قولهم : ولو كنا صادقين ( يوسف : 17 ) ، عندك .

الخامسة : أدوات الشرط حروف ، وهي " إن " وأسماء مضمنة معناها ، ثم منها ما ليس بظرف كـ : من ، وما ، وأي ، ومهما ، وأسماء هي ظروف : أين ، وأينما ، ومتى ، وحيثما ، وإذما .

وأقواها دلالة على الشرط دلالة " إن " لبساطتها ، ولهذا كانت أم الباب .

وما سواها فمركب من معنى " إن " وزيادة معه ، فمن معناه كل في حكم " إن " ، " وما " معناه كل شيء " إن " ، و " أينما " ، و " حيثما " يدلان على المكان وعلى " إن " ، و " إذما " ، و " متى " ، يدلان على الشرط والزمان .

وقد تدخل " ما " على " إن " وهي أبلغ في الشرط من " إن " ، ولذلك تلتقي بالنون المبني عليها المضارع ، نحو : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم ( الأنفال : 58 ) وقوله - تعالى - : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ( الإسراء : 23 ) .

ومما ضمن معنى الشرط " إذا " ، وهي كـ " إن " ، ويفترقان في أن " إن " تستعمل في المحتمل المشكوك فيه ، ولهذا يقبح : إن احمر البسر كان كذا ، وإن انتصف النهار آتك ، وتكون " إذا " للجزم ، فوقوعه إما تحقيقا ، نحو : إذا طلعت الشمس كان كذا ، أو اعتبارا كما سنذكره .

قال ابن الضائع : ولذلك إذا قيل : إذا احمر البسر فأنت طالق ، وقع الطلاق في الحال عند مالك ؛ لأنه شيء لا بد منه : وإنما يتوقف على السبب الذي قد يكون وقد لا يكون ، وهذا هو الأصل فيهما .

وقد تستعمل إن في مقام الجزم لأسباب :

[ ص: 461 ] 1 - منها أن تأتي على طريقة وضع الشرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرا لتبيين مشروطه تحقيقا ، كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد ( الزخرف : 81 ) ، وقوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله ( الأنبياء : 22 ) ، وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة ( الإسراء : 42 ) .

2 - ومنها أن تأتي على طريق تبيين الحال ، على وجه يأنس به المخاطب ، وإظهارا للتناصف في الكلام ، كقوله - تعالى - : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ( سبأ : 50 ) .

3 - ومنها تصوير أن المقام لا يصلح إلا بمجرد فرض الشرط ، كفرض الشيء المستحيل ، كقوله - تعالى - : ولو سمعوا ما استجابوا لكم ( فاطر : 14 ) والضمير للأصنام ، ويحتمل منه ما سبق في قوله - تعالى - : إن كان للرحمن ولد ( الزخرف : 81 ) .

4 - ومنها لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب مدلول الشرط ، وأنه واجب الانتفاء ، حقيق ألا يكون ، كقوله - تعالى - : ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ) ( الزخرف : 5 ) فيمن قرأ بكسر " إن " ، فاستعملت " إن " في مقام الجزم ، بكونهم " مسرفين " لتصور أن الإسراف ينبغي أن يكون منتفيا ، فأجراه لذلك مجرى المحتمل المشكوك .

5 - ومنها تنبيه المخاطب وتهييجه ، كقوله - تعالى - : كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ( البقرة : 172 ) والمعنى عبادتكم لله تستلزم شكركم له ، فإن كنتم ملتزمين عبادته فكلوا من رزقه واشكروه ، وهذا كثيرا ما يورد في الحجاج والإلزام ، تقول : إن كان لقاء الله حقا فاستعد له . وكذا قوله - تعالى - : إن كنتم بآياته مؤمنين ( الأنعام : 118 ) .

[ ص: 462 ] 6 - ومنها التغليب ، كقوله - تعالى - : إن كنتم في ريب من البعث ( الحج : 5 ) ، وقوله - تعالى - : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ( البقرة : 23 ) فاستعمل . " إن " مع تحقق الارتياب منهم ؛ لأن الكل لم يكونوا مرتابين ، فغلب غير المرتابين منهم على المرتابين ؛ لأن صدور الارتياب من غير الارتياب مشكوك في كونه ، فلذلك استعمل " إن " على حد قوله : إن عدنا في ملتكم ( الأعراف : 89 ) .

واعلم أن " إن " لأجل أنها لا تستعمل إلا في المعاني المحتملة كان جوابها معلقا على ما يحتمل أن يكون وألا يكون ، فيختار فيه أن يكون بلفظ المضارع المحتمل للوقوع وعدمه ، ليطابق اللفظ والمعنى ، فإن عدل عن المضارع إلى الماضي لم يعدل إلا لنكتة ، كقوله - تعالى - : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ( الممتحنة : 2 ) فأتى الجواب مضارعا ، وهو " يكونوا " وما عطف عليه ، وهو " يبسطوا " مضارعا أيضا ، وأنه قد عطف عليه " ودوا " بلفظ الماضي ، وكان قياسه المضارع ؛ لأن المعطوف على الجواب جواب ، ولكنه لما لم يحتمل ودادتهم لكفرهم من الشك فيها ما يحتمله أنهم إذا ثقفوهم صاروا لهم أعداء ، وبسطوا أيديهم إليهم بالقتل وألسنتهم بالشتم أتى فيه بلفظ الماضي ؛ لأن ودادتهم في ذلك مقطوع بها وكونهم أعداء وباسطي الأيدي والألسن بالسوء مشكوك لاحتمال أن يعرض ما يصدهم عنه ، فلم يتحقق وقوعه .

وأما إذا فلما كانت في المعاني المحققة غلب لفظ الماضي معها لكونه أدل [ ص: 463 ] على الوقوع باعتبار لفظه في المضارع ، قال - تعالى - : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ( الأعراف : 131 ) بلفظ الماضي مع " إذا " في جواب الحسنة حيث أريد مطلق الحسنة ، لا نوع منها ، ولهذا عرفت تعريف العهد ، ولم تنكر كما نكر المراد به نوع منها في قوله - تعالى - : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ( النساء : 78 ) وكما نكر الفعل حيث أريد به نوع في قوله - تعالى - : ولئن أصابكم فضل من الله ( النساء : 73 ) وبلفظ المضارع مع " إن " في جانب السيئة ، وتنكيرها بقصد النوع .

وقال - تعالى - : وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ( الروم : 36 ) لفظ الماضي مع " إذا " والمضارع مع " أن " إلا أنه نكرت الرحمة ليطابق معنى الإذاقة بقصد نوع منها ، والسيئة بقصد النوع أيضا .

ومن ذلك قوله - تعالى - : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ( الإسراء : 67 ) أتى بإذا لما كان مس الضر لهم في البحر محققا ، بخلاف قوله - تعالى - : لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ( فصلت : 49 ) فإنه لم يقيد مس الشر هاهنا ، بل أطلقه .

وكذلك قوله - تعالى - : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ( الإسراء : 83 ) فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الضر له ، فكان الإتيان بإذا أدل على المقصود من أن بخلاف قوله - تعالى - : وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ( فصلت : 51 ) فإنه لقلة صبره وضعف احتماله في موقع الشر أعرض ، والحال في الدعاء ، فإذا تحقق وقوعه كان يؤوسا ، وأما قوله : إن امرؤ هلك ( النساء : 176 ) مع أن الهلاك محقق ، لكن جهل وقته ، فلذلك جيء " بإن " . ومثله قوله - تعالى - : [ ص: 464 ] أفإن مات أو قتل ( آل عمران : 144 ) فأتى بإن المقتضية للشك ، والموت أمر محقق ، ولكن وقته غير معلوم فأورد مورد المشكوك فيه ، المتردد بين الموت والقتل .

وأما قوله - تعالى - : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ( الفتح : 27 ) مع أن مشيئة الله محققة ، فجاء على تعليم الناس كيف يقولون ، وهم يقولون في كل شيء على جهة الاتباع ، لقوله - تعالى - : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ( الكهف : 23 ، 24 ) ، فيقول الرجل في كل شيء إن شاء الله ؛ على مخبر به مقطوعا أو غير مقطوع ، وذلك سنة متبعة .

ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويحتمل أن تكون للإبهام في وقت اللحوق متى يكون .

تنبيه : سكت البيانيون عما عدا " إذا " و " إن " وألحق صاحب " البسيط " وابن الحاجب " متى " بإن ، قال : لا تقول : متى طلعت الشمس ؟ مما علم أنه كائن ؛ بل تقول : متى تخرج أخرج . وقال الزمخشري في الفصل بين [ ص: 465 ] " متى " و " إذ " : إن متى للوقت المهم ، وإذا للمعين ؛ لأنهما ظرفا زمان ، ولإبهام متى جزم بها دون إذا .

السادسة : قد يعلق الشرط بفعل محال يستلزمه محال آخر ، وتصدق الشرطية دون مفرديها ؛ أما صدقها فلاستلزام المحال ، وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما .

وعليه قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( الزخرف : 81 ) .

وقوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) .

وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون ( الإسراء : 42 ) الآية .

وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران : أحدهما بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى ، والثاني أن اللازم منتف ، فالملزوم كذلك .

وقد تبين بهذا أن الشرط يعلق به المحقق الثبوت ، والممتنع الثبوت ، والممكن الثبوت .

السابعة : الاستفهام إذا دخل على الشرط كقوله - تعالى - أفإن مات أو قتل انقلبتم ( آل عمران : 144 ) وقوله - تعالى - : أفإن مت فهم الخالدون ( الأنبياء : 34 ) ونظائره : فالهمزة في موضعها ، ودخولها على أداة الشرط . والفعل الثاني الذي هو جزاء الشرط ليس جزاء للشرط ، وإنما هو المستفهم عنه ، والهمزة داخلة عليه تقديرا ، فينوى به التقديم ، وحينئذ فلا يكون جوابا ، بل الجواب محذوف ، والتقدير عنده : أأنقلبتم على أعقابكم أن مات محمد ؟ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته .

[ ص: 466 ] ويقول يونس : قال كثير من النحويين : إنهم يقولون ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ؛ لأن الغرض إنما هو : أتنقلبون إن مات محمد .

وقال أبو البقاء : قال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط ، تقديره : أتنقلبون إن مات محمد ، لأن الغرض التنبيه أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط ، ومذهب سيبويه الحق لوجهين : أحدهما : أنك لو قدمت الجواب لم يكن للفاء وجه ؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزورني فإن زرتك ، ومنه قوله : أفإن مت فهم الخالدون ( الأنبياء : 34 ) والثاني : أن الهمزة لها صدر الكلام ، وإن لها صدر الكلام وقد وقعا في موضعهما ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب ؛ لأنهما كالشيء الواحد . انتهى .

وقد رد النحويون على يونس بقوله : أفإن مت فهم الخالدون ( الأنبياء : 34 ) لا يجوز في ( فهم ) أن ينوى به التقديم ؛ لأنه يصير التقدير : أفهم [ ص: 467 ] الخالدون فإن مت ؟ وذلك لا يجوز ، لئلا يبقى الشرط بلا جواب ؛ إذ لا يتصور أن يكون الجواب محذوفا يدل عليه ما قبله ؛ لأن الفاء المتصلة بإن تمنعه من ذلك ؛ ولهذا يقولون : أنت ظالم إن فعلت ، ولا يقولون : أنت ظالم فإن فعلت ، فدل ذلك على أن أدوات الاستفهام إنما دخلت لفظا وتقديرا على جملة الشرط والجواب .

الثامنة : إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء ، ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جواب ، نحو : أقوم إن قمت ، وأنت طالق إن دخلت الدار ؛ فلا تقدير عند الكوفيين ، بل المقدم هو الجواب ، وعند البصريين ، دليل الجواب .

والصحيح هو الأول ؛ لأن الفاء لا تدخل عليه ، ولو كان جوابا لدخلت ؛ ولأنه لو كان مقدما من تأخير لما افترق المعنيان ، وهما مفترقان ، ففي التقدم بني الكلام على الخبر ثم طرأ التوقف ، وفي التأخير بني الكلام من أوله على الشرط ؛ كذا قاله ابن السراج ، وتابعه ابن مالك ، وغيره .

ونوزعا في ذلك ؛ بل مع التقديم الكلام مبني على الشرط ، كما لو قال : له علي عشرة إلا درهما ، فإنه لم يقر بالعشرة ، ثم أنكر منها درهما ، ولو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء ، ثم زعم ابن السراج أن ذلك لا يقع إلا في الضرورة ، وهو مردود بوقوعه في القرآن كقوله : واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ( البقرة : 172 ) . وقوله : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( الأنعام : 118 ) ، وقوله : بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ( آل عمران : 118 ) .

[ ص: 468 ] التاسعة : إذا دخل على أداة الشرط واو الحال لم يحتج إلى جواب ، نحو : أحسن إلى زيد وإن كفرك ، واشكره وإن أساء إليك ؛ أي أحسن إليه كافرا لك ، واشكره مسيئا إليك .

فإن أجيب الشرط كانت الواو عاطفة ؛ لا للحال ، نحو : أحسن إليه ، وإن كفرك ، فلا تدع الإحسان إليه واشكره وإن أساء إليك فأقم على شكره . ولو كانت الواو هنا للحال لم يكن هناك جواب .

قال ابن جني : وإنما كان كذلك ؛ لأن الحال فضلة ، وأصل وضع الفضلة أن تكون مفردا ، كالظرف والمصدر ، والمفعول به ، فلما كان كذلك لم يجب الشرط إذا وقع في موقع الحال ؛ لأنه لو أجيب لصار جملة ؛ والحال إنما هي فضلة ، فالمفرد أولى بها من الجملة ، والشرط وإن كان جملة ، فإنه يجري عندهم مجرى الآحاد من حيث كان محتاجا إلى جوابه احتياج المبتدأ إلى الخبر .

العاشرة : الشرط والجزاء لا بد أن يتغايرا لفظا ، وقد يتحدان فيحتاج إلى التأويل ، كقوله : إلا من تاب وآمن ( الفرقان : 70 ) والآية التي تليها : ومن تاب وعمل صالحا ( الفرقان : 71 ) ثم قال : فإنه يتوب إلى الله متابا ( الفرقان : 71 ) فقيل على حذف الفعل : أي من أراد التوبة ، فإن التوبة معرضة له لا يحول بينه وبينها حائل . ومثله : فإذا قرأت القرآن ( النحل : 98 ) أي أردت ، ويدل لهذا تأكيد التوبة بالمصدر .

وأما قوله - تعالى - : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ( يوسف : 75 ) فقال الزمخشري : يجوز أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي [ ص: 469 ] خبره على إقامة الظاهر مقام المضمر ، والأصل : " جزاؤه من وجد في رحله ، فهو هو " فوضع الجزاء موضع هو .

وقوله : من يهد الله فهو المهتدي ( الأعراف : 178 ) قدره ابن عباس : من يرد الله هدايته . فلا يتحد الشرط والجزاء .

ومثله قوله - تعالى - : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( المائدة : 67 ) وقد سبق فيها أقوال كثيرة .

وقد يتقاربان في المعنى ، كقوله - تعالى - : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( آل عمران : 192 ) وقوله : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ( آل عمران : 185 ) وقوله : ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ( محمد : 38 ) .

والنكتة في ذلك كله تفخيم الجزاء ، والمعنى : أن الجزاء هو الكامل البالغ النهاية ؛ يعني : من يبخل في أداء ربع العشر ، فقد بالغ في البخل ، وكان هو البخيل في الحقيقة .

الحادية عشرة : في اعتراض الشرط على الشرط ، وقد عدوا من ذلك آيات شريفة ، بعضها مستقيم وبعضها بخلافه .

الآية الأولى قوله - تعالى - : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ( الواقعة : الآية 88 ، 89 ) الآية ، قال الفارسي : قد اجتمع هنا شرطان ، وجواب واحد ، فليس يخلو : إما أن يكون جوابا لأما ، أو لإن دون أما ، ولا يجوز أن يكون جوابا لهما ؛ لأنا لم نر شرطين لهما جواب واحد ؛ ولو كان هذا لجاز شرط واحد له جوابان : ولا يجوز أن يكون جوابا ؛ لأن دون " أما " لأن " أما " لم تستعمل بغير جواب ، فجعل جوابا لأما ، فتجعل " أما " وما بعدها جوابا لإن . وتابعه ابن مالك في كون الجواب لأما .

وقد سبقهما إليه إمام الصناعة سيبويه ، ونازع بعض المتأخرين في عد هذه الآية [ ص: 470 ] من هذا ، قال : وليس من الاعتراض أن يقرن الثاني بفاء الجواب لفظا ؛ نحو : إن تكلم زيد ، فإن أجاد فأحسن إليه ؛ لأن الشرط الثاني ، وجوابه جواب الأول . أو يقرن بفاء الجواب تقديرا كهذه الآية الشريفة ؛ لأن الأصل عند النحاة : مهما يكن من شيء ، فإن كان المتوفى من المقربين فجزاؤه روح ، فحذف مهما وجملة شرطها ، وأنيب عنها أما ، فصار أما ، فإن كان مفردا من ذلك لوجهين :

أحدهما : أن الجواب لا يلي أداة الشرط بغير فاصل .

وثانيهما : أن الفاء في الأصل للعطف ؛ فحقها أن تقع بين سببين ، وهما المتعاطفان فلما أخرجوها من باب العطف ، حفظوا عليها المعنى الآخر ، وهو التوسط ، فوجب أن يقدم شيء مما في حيزها عليها إصلاحا للفظ ، فقدمت جملة الشرط الثاني لأنها كالجزاء الواحد ، كما قدم المفعول في قوله - تعالى - : فأما اليتيم فلا تقهر ( الضحى : 9 ) فصار : فأما إن كان من المقربين فروح ( الواقعة : 88 ، 89 ) فحذفت الفاء التي في جواب " إن " لئلا يلتقي فاءان . فتلخص أن جواب أما ليس محذوفا ، بل مقدما بعضه على الفاء ، فلا اعتراض .

الآية الثانية ؛ قوله - تعالى - عن نوح : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ( هود : 34 ) وإنما يكون من هذا لو كان ولا ينفعكم نصحي ( هود : 34 ) مؤخرا بعد الشرطين : أو لازما أن يقدر كذلك ، وكلا الأمرين منتف .

أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ( هود : 34 ) جملة تامة ، أما على مذهب الكوفيين فمن شرط مؤخر وجزاء مقدم ، وأما على مذهب البصريين فالمقدم دليل الجزاء ، والمدلول عليه محذوف فيقدر بعد شرطه ، فلم يقع الشرط الثاني معترضا ؛ لأن [ ص: 471 ] المراد بالمعترض ما اعترض بين الشرط وجوابه ، وهنا ليس كذلك ؛ فإن على مذهب الكوفيين لا حذف والجواب مقدم ، وعلى قول البصريين الحذف بين الشرطين .

وهنا فائدة ، وهي أنه لما عدل عن " إن نصحت " إلى : إن أردت أن أنصح ؟ وكأنه - والله أعلم - أدب مع الله - تعالى ، حيث أراد الإغواء . وقد أحسن الزمحشري فلم يأت بلفظ الاعتراض في الآية ؛ بل سماه مرادفا ؛ هو صحيح ، وقال : إن قوله - تعالى - : إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله : ولا ينفعكم نصحي . وجعل ابن مالك تقدير الآية : إن أردت أنصح لكم مرادا ذلك منكم . لا ينفعكم نصحي ، وهو يجعله من باب الاعتراض ، وفيه ما ذكرنا .

الآية الثالثة ؛ قوله - تعالى - : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ( الأحزاب : 50 ) الآية ، وهي كالتي قبلها ، لتقدم الجزاء أو دليله على الشرطين ، فالاحتمال فيها كما قدمنا . وقال الزمخشري : شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة الاستنكاح ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت نفسها لك ، وأنت تريد أن تنكحها ؛ لأن إرادته هي قبول الهبة ، وما به تم .

وحاصله أن الشرط الثاني مقيد للأول . ويحتمل أن يكون من الاعتراض ، كأنه قال : إن وهبت نفسها ، إن أراد النبي ، أحللناها ، فيكون جوابا للأول ، ويقدر جواب الثاني محذوفا .

الآية الرابعة ؛ قوله - تعالى - : ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ( يونس : 84 ) . وغلط من جعلها من الاعتراض ؛ لأن الشرط الأول اقترن بجوابه ، ثم أتى بالثاني بعد ذلك ، وإذا ذكر جواب الثاني تاليا له ، فأي اعتراض هنا ؟ ! لهذا قال المجوزون لهذه المسألة : إن الجواب المذكور للأول ، وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ، والتقدير في الآية : إن كنتم مسلمين فإن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ، فحذف الجواب لدلالة السابق عليه .

[ ص: 472 ] الآية الخامسة قوله - تعالى - : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ( محمد : 36 و 37 ) وكلام ابن مالك يقتضي أنها من الاعتراض ؛ وليس كذلك ، بل عطف فعل الشرط على فعل آخر .

الآية السادسة ؛ قوله - تعالى - : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ( الفتح : 25 ) إلى قوله : ( لعذبنا ) وهذه الآية هي العمدة في هذا الباب ، فالشرطان وهما ( لولا ) و ( لو ) قد اعترضا ، وليس معهما إلا جواب واحد ، وهو متأخر عنهما ، وهو ( لعذبنا ) .

الآية السابعة ؛ قوله - تعالى - : إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ( البقرة : 180 ) ، وهذه تأتي على مذهب الأخفش ، فإنه يزعم أن قوله - تعالى - : ( الوصية ) على تقدير الفاء ، أي فالوصية ، فعلى هذا يكون مما نحن فيه ، فأما إذا رفعت ( الوصية ) بـ ( كتب ) فهي كالآيات السابقة في حذف الجوابين .

التالي السابق


الخدمات العلمية