صفحة جزء
السادس : النفي

هو شطر الكلام كله ، لأن الكلام إما إثبات أو نفي ، وفيه قواعد :

[ ص: 475 ] الأولى : في الفرق بينه وبين الجحد ، قال ابن الشجري : إن كان النافي صادقا فيما قاله ، سمي كلامه نفيا ، وإن كان يعلم كذب ما نفاه كان جحدا ؛ فالنفي أعم ، لأن كل جحد نفي من غير عكس ، فيجوز أن يسمى الجحد نفيا ؛ لأن النفي أعم ولا يجوز أن يسمى النفي جحدا .

فمن النفي : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( الأحزاب : 40 ) ومن الجحد نفي فرعون وقومه لآيات موسى - عليه السلام ، قال الله - تعالى - : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ( النمل : 13 ، 14 ) أي وهم يعلمون أنها من عند الله .

وكذلك إخبار الله عمن كفر من أهل الكتاب : ما جاءنا من بشير ولا نذير ( المائدة : 19 ) فكذبهم الله بقوله : انظر كيف كذبوا على أنفسهم ( الأنعام : 24 ) . وقوله : يحلفون بالله ما قالوا ( التوبة : 74 ) فأكذبهم الله بقوله : ولقد قالوا كلمة الكفر ( التوبة : 74 ) .

قال : ومن العلماء من لا يفرق بينهما ، والأصل ما ذكرته .

الثانية : زعم بعضهم أن من شرط صحة النفي عن الشيء ، صحة اتصاف المنفي عنه بذلك الشيء ، ومن ثم قال بعض الحنفية : إن النهي عن الشيء يقتضي الصحة ، وذلك باطل بقوله - تعالى - : وما الله بغافل عما يعملون ( البقرة : 144 ) ، وما كان ربك نسيا ( مريم : 64 ) ، لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) ، وهو يطعم ولا يطعم ( الأنعام : 14 ) [ ص: 476 ] ونظائره . والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا ، وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه ، فنفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه .

الثالثة : المنفي ما ولي حرف النفي ، فإذا قلت : ما ضربت زيدا ، كنت نافيا للفعل الذي هو ضربك إياه ، وإذا قلت : ما أنا ضربته ، كنت نافيا لفاعليتك للضرب . فإن قلت : الصورتان دلتا على نفي الضرب ، فما الفرق بينهما ؟ قلت : من وجهين :

أحدهما : أن الأولى نفت ضربا خاصا ، وهو ضربك إياه ، ولم تدل على وقوع ضرب غيرك ولا عدمه ، إذ نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ولا ثبوته ، والثانية : نفت كونك ضربته ، ودلت على أن غيرك ضربه بالمفهوم .

الثاني : أن الأولى دلت على نفي ضربك له بغير واسطة ، والثانية دلت على نفيه بواسطة ، وأما قوله : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ( المائدة : 117 ) .

الرابعة : إذا كان الكلام عاما ونفيته ، فإن تقدم حرف النفي أداة العموم ، كان نفيا للعموم ، وهو لا ينافي الإثبات الخاص ، فإذا قلت : لم أفعل كل ذا ، بل بعضه " استقام ، وإن تقدم صيغة العموم على النفي ، فقلت : كل ذا لم أفعله كان النفي عاما ، ويناقضه الإثبات الخاص ، وحكى الإمام في نهاية الإيجاز ، عن الشيخ عبد القاهر أن : نفي العموم يقتضي خصوص الإثبات ، فقوله : لم أفعل كله يقتضي أنه فعل بعضه . قال : وليس كذلك إلا عند من يقول بدليل الخطاب ، بل الحق أن نفي العموم كما لا يقتضي عموم النفي لا يقتضي خصوص الإثبات .

الخامسة : أدواته كثيرة ؛ قال الخويي : وأصلها لا وما ؛ لأن النفي إما [ ص: 477 ] في الماضي وإما في المستقبل ؛ والاستقبال أكثر من الماضي أبدا ، و " لا " أخف من " ما " فوضعوا الأخف للأكثر .

ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيا واحدا مستمرا ، وإما أن يكون نفيا فيه أحكام متعددة ، وكذلك النفي في المستقبل ، فصار النفي على أربعة أقسام ، واختاروا له أربع كلمات : " ما " ، " لم " ، " لن " ، " لا " . وأما " إن " و " لما " فليسا بأصليين .

فما ، ولا ، في الماضي والمستقبل متقابلان ، ولم ، ولن في الماضي والمستقبل متقابلان ، و " لم " كأنه مأخوذ من لا ، وما ؛ لأن " لم " نفي للاستقبال لفظا ، فأخذ اللام من " لا " التي هي لنفي الأمر في المستقبل والميم من ما التي هي لنفي الأمر في الماضي ، وجمع بينهما إشارة إلى أن في " لم " المستقبل والماضي ، وقدم اللام على الميم إشارة إلى أن " لا " هو أصل النفي ، ولهذا ينفى بها في أثناء الكلام ، فيقال : لم يفعل زيد ولا عمرو ، ولن أضرب زيدا ولا عمرا .

أما " لما " فتركيب بعد تركيب ، كأنه قال : لم وما لتوكيد معنى النفي في الماضي وتفيد الاستقبال أيضا ، ولهذا تفيد لما الاستمرار كما قال الزمخشري ، إذا قلت : ندم زيد ولم ينفعه الندم ، أي حال الندم لم ينفعه ، وإذا قلت : ندم زيد ولما ينفعه الندم ؛ أي حال الندم ، واستمر عدم نفعه .

قلت : وقال الفارسي : إذا نفي بها الفعل اختصت بنفي الحال ، ويجوز أن يتسع فيها فينفى بها الحاضر ، نحو : ما قام وما قعد .

قال الخويي : والفرق بين النفي بلم وما ، أن النفي بما ، كقولك : ما قام زيد ؛ معناه أن وقت الإخبار هذا الوقت ؛ وهو إلى الآن ما فعل ، فيكون النفي في الماضي ، وأن النفي بـ " لم " كقولك : لم يقم تجعل المخبر نفسه بالعرض متكلما في الأزمنة الماضية ، ولأنه يقول في كل زمان في تلك الأزمنة : أنا أخبرك بأنه لم يقم .

وعلى هذا فتأمل السر في قوله [ ص: 478 ] تعالى : لم يتخذ ولدا ( الإسراء : 111 ) وفي موضع آخر : ما اتخذ الله من ولد ( المؤمنون : 91 ) لأن الأول في مقام طلب الذكر والتشريف به للثواب ، والثاني في مقام التعليم ، وهو لا يفيد إلا بالنفي عن جميع الأزمنة .

وكذلك قوله : ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ( مريم : 28 ) وقوله : ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ( مريم : 20 ) فإن مريم كأنها قالت : إني تفكرت في أزمنة وجودي ومثلتها في عيني لم أك بغيا ، فهو أبلغ في التنزيه ؛ فلا يظن ظان أنها تنفي نفيا كليا مع أنها نسيت بعض أزمنة وجودها ، وأما هم لما قالوا : وما كانت أمك بغيا ما كان يمكنهم أن يقولوا : نحن تصورنا كل زمان من أزمنة وجود أمك ، وننفي عن كل واحد منها كونها بغيا ؛ لأن أحدا لا يلازم غيره ، فيعلم كل زمان من أزمنة وجوده ، وإنما قالوا لها : إن أمك اشتهرت عند الكل ، حتى حكموا عليها حكما واحدا عاما ، أنها ما بغت في شيء من أزمنة وجودها .

وكذلك قوله - تعالى - : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ( الأنعام : 131 ) وقوله : وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ( القصص : 59 ) فإنه - سبحانه - لما قال : ( بظلم ) كان سبب حسن الهلاك قائما ، وأما الظلم فكان يتوقع في كل زمن الهلاك ؛ سواء كانوا غافلين أم لا ؛ لكن الله برحمته يمسك عنهم في كل زمان وافقته غفلتهم . وأما قوله : وأهلها غافلون وإن جد الظلم لكن لم يبق سببا مع الإصلاح ، فبقي النفي العام بعدم تحقيق المقتضى في كل زمان .

وكذلك قوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( القصص : 59 ) لأنه لما لم يذكر الظلم لم يتوقع الهلاك ، فلم يبق متكررا في كل زمان .

وكذلك قوله : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( الأنفال : 53 ) ، وقوله : وما كان الله معذبهم ( الأنفال : 33 ) ذكر عند ذكر النعمة لم يكن إشارة إلى الحكم في كل زمان تذكيرا بالنعمة ، وقال [ ص: 479 ] تعالى : وما كان الله معذبهم ( الأنفال : 33 ) نفيا واحدا عاما عند ذكر العذاب ؛ لئلا يتكرر ذكر العذاب ؛ ويتكرر ذكر النعمة لا للمنة بل للتنبيه على سعة الرحمة .

وكذلك قال - تعالى - : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ( الأحزاب : 4 ) وقال : وما جعل عليكم في الدين من حرج ( الحج : 78 ) ، ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ( المائدة : 103 ) وقوله - تعالى - : لم نجعل له من قبل سميا ( مريم : 7 ) وقال - تعالى - : ولم يجعلني جبارا شقيا ( مريم : 32 ) وقال - تعالى - : لم نجعل لهم من دونها سترا ( الكهف : 90 ) في جميع مواضع " ما " حصل المذكور أمورا لا يتوقع تجددها ، وفي جميع المواضع لم يحصل توقع تجدد المذكور .

فاستمسك بما ذكرنا واجعله أصلا ؛ فإنه من المواهب الربانية .

التالي السابق


الخدمات العلمية