صفحة جزء
القسم الأول : التوكيد الصناعي

وهو قسمان : لفظي ومعنوي ، فاللفظي : تقرير معنى الأول بلفظه أو مرادفه ؛ فمن المرادف : فجاجا سبلا ( الأنبياء : 31 ) ، ( ضيقا حرجا ) ( الأنعام : 125 ) في قراءة كسر الراء . وغرابيب سود ( فاطر : 27 ) . وجعل الصفار منه قوله - تعالى - : فيما إن مكناكم فيه ( الأحقاف : 26 ) على القول بأن كلاهما للنفي .

واللفظي : يكون في الاسم النكرة بالإجماع ، نحو : قوارير قوارير ( الإنسان : 15 و 16 ) وجعل ابن مالك وابن عصفور منه : دكا دكا ( الفجر : 21 ) و صفا صفا ( الفجر : 22 ) وهو مردود ؛ لأنه جاء في التفسير أن معنى ( دكا دكا ) [ دكا ] ( الفجر : 21 ) بعد دك ، وأن الدك كرر عليها حتى صار هباء منثورا ، وأن معنى صفا صفا أنه تنزل ملائكة كل سماء يصطفون صفا بعد صف ، محدقين بالإنس والجن . وعلى هذا فليس الثاني منهما تكرارا للأول ؛ بل المراد به التكثير ؛ نحو : جاء القوم رجلا رجلا ، وعلمته الحساب بابا بابا .

وقد ذكر ابن جني في قوله - تعالى - : إذا وقعت الواقعة ( الواقعة : 1 ) ، إذا رجت ( الواقعة : 4 ) أن ( رجت ) بدل من ( وقعت ) ، وكررت ( إذا ) تأكيدا لشدة امتزاج المضاف بالمضاف إليه .

ويكون في اسم الفعل كقوله - تعالى - : هيهات هيهات لما توعدون ( المؤمنون : 36 ) وفي الجملة ، نحو : فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ( الانشراح : 5 و 6 ) [ ص: 487 ] ولكون الجملة الثانية للتوكيد سقطت من مصحف ابن مسعود ، ومن قراءته . والأكثر فصل الجملتين بـ " ثم " كقوله : وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ( الانفطار : 17 و 18 ) ، كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( التكاثر : 3 و 4 ) .

يكون في المجرور كقوله : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ( هود : 108 ) والأكثر فيه اتصاله بالمذكور .

وزعم الكوفيون أنه لا يجوز الفصل بين التوكيد المؤكد ، قال الصفار في شرح سيبويه : والسماع يرده قال - تعالى - : وهم بالآخرة هم كافرون ( هود : 19 ) فإن " هم " الثانية تأكيد للأولى . وقوله : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ( هود : 108 ) وقوله : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ( البقرة : 89 ) ألا ترى أن قبله ولما جاءهم كتاب ( البقرة : 89 ) فأكد ( لما ) وبينهما كلام ، وأصله : يستفتحون على الذين كفروا ( البقرة : 89 ) فكرر للطول الذي بين " لما " وجوابها . وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ( المؤمنون : 35 ) في أحد القولين لأنه أكد " أن " بعد ما فصل .

وقوله - تعالى - : إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ( الجاثية : 3 ) .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ريب أنهم اجتمعوا في الهلاك ، وإن قوم موسى اجتمعوا في النجاة .

ومنه قوله - تعالى - حكاية عن يوسف : وأتوني بأهلكم أجمعين ( يوسف : 93 ) فلم يرد بهذا أن يجتمعوا عنده ، وإن جاءوا واحدا بعد واحد ؛ وإنما أراد اجتماعهم في المعنى إليه ، وألا يتخلف منهم أحد ، وهذا يعلم من السياق والقرينة .

ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة لفظا ومعنى أن قوله : كلهم ( الحجر : 30 ) [ ص: 488 ] يفيد الشمول والإحاطة ، فلا بد أن يفيد ( أجمعون ) قدرا زائدا على ذلك ، وهو اجتماعهم في السجود ؛ وأما المعنى فلأن الملائكة لم تكن ليتخلف أحد منهم عن امتثال الأمر ولا يتأخر عنده ، ولا سيما وقد وقت لهم بوقت وحد لهم بحد ، وهو التسوية ونفخ الروح ، فلما حصل ذلك سجدوا كلهم عن آخرهم في آن واحد ، ولم يتخلف منهم أحد ؛ فعلى هذا يخرج كلام المبرد الزمخشري .

وما نقل عن بعض المتكلمين أن السجود لم يستعمل على الكل بدليل قوله : أأستكبرت أم كنت من العالين ( ص : 75 ) مردود ؛ بل " العالون " المتكبرون ؛ وفي رسائل إخوان الصفاء أن العالين هم العقول العاقة التي لم تسجد ، وهذا تحريف ، ولم يقم دليل على إثبات العقول التي تدعيها الفلاسفة .

[ ص: 489 ] ووقع خلاف في أن إبليس من الملائكة أم لا ؟ والتحقيق أنه ليس منهم عنصرا ، ففي صحيح مسلم : خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من النار ، وخلق آدم مما وصف لكم وهو منهم حكما لدخوله في الخطاب بالأمر بالسجود معهم ، ولو كان من غيرهم لم يدخل معهم .

وأما قوله : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ( الحجر : 59 ) فلم يذكر قبله ( ( كلهم ) ) لما لم يكن المراد كل واحد واحد من الآية لم تحسن الزيادة في التأكيد ، بدليل الاستثناء بعده من قوله : إلا امرأته ( الحجر : 60 ) .

[ ص: 490 ] ومنها قصد تحقيق المخبر به كقوله - تعالى - : إني جاعل ( البقرة : 30 ) فأكد بإن وباسم الفاعل ؛ مع أنهم ليسوا بشاكين في الخبر .

ومثله : إنك ميت وإنهم ميتون ( الزمر : 30 ) . وقال حاكيا عن نوح : إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ( نوح : 27 ) .

ومنها قصد إغاظة السامع بذلك الخبر ؛ كقوله : إنك لمن المرسلين ( يس : 3 ) .

ومنها ؛ الترغيب كقوله : فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( البقرة : 54 ) أكده بأربع تأكيدات ، وهي : إن ، وضمير الفصل ، والمبالغتان مع الصفتين له ، ليدل على ترغيب الله العبد في التوبة ، فإنه إذا علم ذلك طمع في عفوه ، وقوله : لا تحزن إن الله معنا ( التوبة : 40 ) .

ومنها ؛ الإعلام بأن المخبر به كله من عند المتكلم كقوله : فإما يأتينكم مني هدى ( البقرة : 38 ) دون الاقتصار على ( يأتينكم هدى ) قال المفسرون : فيه إشارة إلى أن الخير كله منه .

وعليه قوله : قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ( يونس : 57 ) ، قد جاءكم برهان من ربكم ( النساء : 174 ) .

ومنها ؛ التعريض بأمر آخر ، كقوله - تعالى - : رب إني ظلمت نفسي ( القصص : 16 ) وقول موسى : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ( القصص : 24 ) وقوله - تعالى - : قالت رب إني وضعتها أنثى ( آل عمران : 36 ) تعريضا بسؤال قبولها فإنها كانت تطلب للنذر ذكرا .

تنبيهان

الأول : قالوا : إنما يؤتى به للحاجة للتحرز عن ذكر ما لا فائدة له ، فإن كان المخاطب ساذجا ألقي إليه الكلام خاليا عن التأكيد ، وإن كان مترددا فيه حسن تقويته بمؤكد ، وإن كان منكرا وجب تأكيده . ويراعى في القوة والضعف بحسب حال المنكر ؛ كما في قوله - تعالى - [ ص: 491 ] عن رسل عيسى : ربنا يعلم ( يس : 16 ) الآية ، وذلك أن الكفار نفوا رسالتهم بثلاثة أشياء ؛ أحدها : قولهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ( يس : 15 ) والثاني : قولهم : وما أنزل الرحمن من شيء ( يس : 15 ) والثالث : قولهم : إن أنتم إلا تكذبون ( يس : 15 ) فقوبلوا على نظيره بثلاثة أشياء ؛ أحدها : قولهم : ربنا يعلم ( يس : 16 ) ووجه التأكيد فيه أنه في معنى قسم ، و الثاني : قوله : إنا إليكم لمرسلون ( يس : 16 ) والثالث : قوله - تعالى - : وما علينا إلا البلاغ المبين ( يس : 17 ) .

وقد ينزل المنكر كغير المنكر ، وعكسه ، وقد اجتمعا في قوله - تعالى - : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( المؤمنون : 15 و 16 ) أكدت الأمانة تأكيدين وإن لم ينكروا ، لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة منزلة من ينكر الموت ، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أكثر ؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا يتكرر ويتردد فيه ، حثا لهم على النظر في أدلته الواضحة .

الثاني : قال التنوخي في أقصى القريب : إذا قصدوا مجرد الخبر أتوا بالجملة الفعلية ، وإن أكدوا فبالاسمية ، ثم بإن ، ثم بها ، وباللام . وقد تؤكد الفعلية بقد ، وإن احتيج بأكثر جيء بالقسم مع كل من الجملتين ؛ وقد تؤكد الاسمية باللام فقط ؛ نحو : لزيد قائم ، وقد تجيء مع الفعلية مضمرة بعد اللام ، وحاصله أن الخطاب على درجات : قام زيد ، ثم لقد قام . فإنه جعل الفعلية كأنها دون الاسمية - ثم إن زيدا قائم ، ولزيد قائم .

التالي السابق


الخدمات العلمية