صفحة جزء
ويلتحق بالتأكيد الصناعي أمور :

أحدها : تأكيد الفعل بالمصدر ، ومنه قوله - تعالى - : جزاؤكم جزاء موفورا ( الإسراء : 63 ) . وقوله - تعالى - : وكلم الله موسى تكليما ( النساء : 164 ) ، وسلموا تسليما ( الأحزاب : 56 ) وقوله - تعالى - : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ( الطور : 9 و 10 ) [ ص: 492 ] وهي تمر مر السحاب ( النمل : 88 ) . فدكتا دكة واحدة ( الحاقة : 14 ) ، إذا زلزلت الأرض زلزالها ( الزلزلة : 1 ) ، فيكيدوا لك كيدا ( يوسف : 5 ) وهو كثير .

قالوا : وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين ؛ فقولك : ضربت ضربا بمنزلة قولك : ضربت ضربت ، ثم عدلوا عن ذلك ، واعتاضوا عن الجملة بالمفرد .

وليس منه قوله - تعالى - : وتظنون بالله الظنون ( الأحزاب : 10 ) بل هو جمع ظن ، وجمع لاختلاف أنواعه ، قاله ابن الدهان .

ثم اختلفوا في فائدته ، فقيل : إنه يرفع المجاز عن الفاعل ، فإنك تقول : ضرب الأمير اللص ، ولا يكون باشر بل أمر به ؛ فإن قلت : ضربا ، علم أنه باشر .

وممن نص على ذلك ثعلب في " أماليه " ، وابن عصفور في شرح الجمل الصغير .

والصواب أنه إنما يرفع الوهم عن الحديث لا عن المحدث عنه ؛ فإذا قلت : ضرب الأمير ، احتمل مجازين : أحدهما إطلاق الضرب على مقدماته ، والثاني : إطلاق الأمير على أمره ، فإذا أردت رفع الأول أتيت بالمصدر ، فقلت : ضربا ، وإن أردت الثاني قلت : نفسه أو عينه .

ومن هذا يعلم ضعف استدلال أصحابنا على المعتزلة في إثبات كلام الله [ ص: 493 ] لموسى في قوله - تعالى - : وكلم الله موسى تكليما ( النساء : 164 ) فإنه لما أريد كلام الله نفسه ، قال : ( تكليما ) ودل على وقوع الفعل حقيقة ؛ أما تأكيد فاعله فلم يتعرض له . ولقد سخف عقل من تأوله على أنه كلمه بأظفار المحن ؛ من الكلم ؛ وهو الجرح لأن الآية مسوقة في بيان الوحي .

ويحكى أنه استدل بعض علماء السنة على بعض المعتزلة في إثبات التكليم حقيقة بالآية من جهة أن المجاز لا يؤكد ، فسلم المعتزلي له هذه القاعدة ، وأراد دفع الاستدلال من جهة أخرى ، فادعى أن اللفظ إنما هو ( وكلم الله موسى ) بنصب لفظ الجلالة ، وجعل موسى فاعلا بـ " كلم " وأنكر القراءة المشهورة وكابر ، فقال السني : فماذا تصنع بقوله - تعالى - : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ( الأعراف : 143 ) فانقطع المعتزلي عند ذلك .

قال ابن الدهان : ومما يدل على أن التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر :


قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ويوم اللوى حتى قسرت الهوى قسرا

قلت : وكذا قوله : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا ( النمل : 50 ) وأما قوله - تعالى - : ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ( نوح : 9 ) فمفعول ( أسررت ) محذوف ، أي الدعاء والإنذار ونحوه .

فإن قلت : التأكيد ينافي الحذف ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن المصدر لم يؤت به هنا للتأكيد ، وإن كان بصورته ؛ لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما أتي به لأجل الفواصل ، ولهذا لم يؤت بمصدر ( أعلنت ) وهو مثله .

[ ص: 494 ] والثاني : أن " أسر " وإن كان متعديا في الأصل ، إلا أنه هنا قطع النظر عن مفعوله ، وجعل نسيا ، كما في قوله : فلان يعطى ويمنع . فصار لذلك كاللازم ، وحينئذ فلا منافاة بين المجيء به بالمصدر لو كان .

ثم التأكيد بالمصدر تارة يجيء من لفظ الفعل كما سبق ، وتارة يجيء من مرادفه ، كقوله - تعالى - : إني دعوتهم جهارا ( نوح : 8 ) فإن الجهار أحد نوعي الدعاء وقوله : ليا بألسنتهم ( النساء : 46 ) فإنه منصوب بقوله : يحرفون الكلم ( النساء : 46 ) لأن ( ليا ) نوع من التحريف .

ويحتمل أن يكون منه : أتأخذونه بهتانا ( النساء : 20 ) لأن البهتان ظلم ، والأخذ على نوعين : ظلم وغيره .

وزعم الزمخشري قوله : نافلة لك ( الإسراء : 79 ) وضع موضع " تهجدا " ؛ لأن التهجد عبادة زائدة ، فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد .

وقوله : وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ( النساء : 122 ) قيل : كان الأصل تكرار الصدق بلفظه ، فاستثقل التكرار للتقارب ، فعدل إلى ما يجاريه خفة ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحد ، خفة ووزنا ، إحرازا للتناسب .

وأما قوله : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ( نوح : 17 و 18 ) ففائدة ( إخراجا ) أن المعاد في الأرض هو الذي يخرجكم منها بعينه ، دفعا لتوهم من يتوهم أن المخرج منها أمثالهم ؛ وأن المبعوث الأرواح المجردة .

فإن قيل : هذا يبطل بقوله - تعالى - : أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) فإنه أكد بالمصدر ، وليس المراد حقيقة النبات .

قلت : لا جرم حيث لم يرد الحقيقة هنا لم يؤكده بالمصدر الحقيقي القياسي ؛ بل عدل به إلى غيره ، وذلك لأن مصدر أنبت الإنبات ، والنبات اسمه لا هو ، كما قيل في الكلام والسلام اسمان للمصدر الأصلي الذي هو التكليم والتسليم ؛ وأما قوله : [ ص: 495 ] وتبتل إليه تبتيلا ( المزمل : 8 ) وإن لم يكن جاريا على تبتل لكنه ضمن معنى بتل نفسك تبتلا .

ومثله قوله - تعالى - : سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( الإسراء : 43 ) قال أبو البقاء : هو موضع تعاليا لأنه مصدر قوله : ( وتعالى ) ويجوز أن يقع مصدرا في موضع آخر من معناه ، وكذا قال الراغب . قال : وإنما عدل عنه ؛ لأن لفظ التفاعل من التكلف ، كما يكون من البشر .

وأما قوله : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ( الطور : 9 و 10 ) فقال بعضهم : الجملة الفاعلية تحتمل المجاز في مفرديها جميعا ، وفي كل منهما ؛ مثاله هاهنا أنه يحتمل إن المجاز في ( تمور ) وأنها ما تمور ، بل تكاد ، أو يخيل إلى الناظر أنها تمور ، ويحتمل أن المجاز في السماء وأن المور الحقيقي لسكانها وأهلها لشدة الأمر .

وكذلك الكلام في : وتسير الجبال سيرا ( الطور : 10 ) فإذا رفع المجاز عن أحد جزأي الجملة نفي احتماله في الآخر ، فلم تحصل فائدة التأكيد .

وأجيب بهذه القاعدة وهي أن ( مورا ) في تقدير تمور ، فكأنه قال : تمور السماء ، تمور السماء . وتسير الجبال ، تسير الجبال . فأكد كلا من الجزأين بنظيره ، وزال الإشكال .

وأما قوله - تعالى - : إلا أن يشاء ربي شيئا ( الأنعام : 80 ) فيحتمل أن يكون ( شيئا ) من تأكيد الفعل بالمصدر ، كقوله : بعت بيعا ويجوز أن يكون الشيء بمنزلة الأمر والتبيان ؛ [ ص: 496 ] والمعنى : إلا أن يشاء ربي أمرا ، أو وضع موضع المصدر . وانظر كيف ذكر مفعول المشيئة . وقول البيانيين : إنه يجب حذفه إذا كان عاما ، وأما قوله - تعالى - : دكا دكا ( الفجر : 21 ) فالمراد به التتابع ، أي دكا بعد دك ، وكذا قوله : صفا صفا ( الفجر : 22 ) أي صفا يتلوه صف ، ولو اقتصر على الواحد لا يحتمل صفا واحدا .

وأما قوله - تعالى - : إذا زلزلت الأرض زلزالها ( الزلزلة : 1 ) فإن إضافة الزلزال إليها يفيد معنى ذاتها ، وهو زلزالها المختص بها ، المعروف منها ، المتوقع كما تقول : غضب زيد غضبه ، وقاتل زيد قتاله ، أي غضبه الذي يعرف منه ، وقتاله المختص به ، كقوله :


أنا أبو النجم وشعري شعري

واعلم أن القاعدة في المصدر والمؤكد أن يجيء اتباعا لفعله ، نحو : وكلم الله موسى تكليما ( النساء : 164 ) وقد يخرج عنها ، نحو قوله - تعالى - : وتبتل إليه تبتيلا ( المزمل : 8 ) وقوله - تعالى - : فإني أعذبه عذابا ( المائدة : 115 ) وقوله - تعالى - : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ( الحديد : 11 ) وقوله - تعالى - : أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) ولم يقل تبتلا وتعذيبا وإقراضا وإنباتا .

واختلف في ذلك على أقوال :

أحدها : أنه وضع الاسم منها موضع المصدر .

والثاني : أنه منصوب بفعل مضمر يجرى عليه المصدر ؛ ويكون ذلك الفعل الظاهر دليلا على المضمر ، فالمعنى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) فنبتم نباتا ، وهو [ ص: 497 ] قول المبرد ، واختاره ابن خروف ، وزعم أنه مذهب سيبويه ، وكذا قال ابن يعيش ، ونازعه ابن عصفور .

والثالث : أنها منصوبة بتلك الأفعال الظاهرة ، وإن لم تكن جارية عليها .

والرابع : التفصيل بين أن يكون معنى الفعل غير معبر بمعنى مصدر ذلك الفعل الظاهر فهو منصوب بفعل مضمر ، يدل عليه ذلك الفعل الظاهر ، كقوله - تعالى - : والله أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) أي ونبتم ؛ أي وساغ إضماره ؛ لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا ، ولا يجوز في غير ذلك أن ينصب بالظاهر ؛ لأن الغرض من المصدر تأكيد الفعل الذي نصبه ، أو تبيين معناه . وإذا كان المصدر مغايرا لمعنى الفعل الظاهر لم يحصل بذلك الغرض المقصود ؛ لأن النبات ليس بمعنى الإنبات ، وإذا لم يكن بمعناه ، فكيف يؤكده أو يبينه .

وأما قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ( البقرة : 282 ) فإنما ذكر قوله : ( بدين ) مع ( تداينتم ) يدل عليه لوجوه :

أحدها : ليعود الضمير في ( فاكتبوه ) عليه إذ لو لم يذكره لقال : فاكتبوا [ ص: 498 ] الدين ، ذكره الزمخشري ؛ وهو ممنوع لأنه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من ( تداينتم ) لأنه يدل على الدين .

الثاني : أن ( تداينتم ) مفاعلة من الدين ، ومن الدين ، فاحتيج إلى قوله : ( بدين ) ليبين أنه من الدين لا من الدين . وهذا أيضا فيه نظر ؛ لأن السياق يرشد إلى إرادة الدين .

الثالث : أن قوله : ( بدين ) إشارة إلى امتناع بيع الدين بالدين ، كما فسر قوله - صلى الله عليه وسلم - ، هو بيع الكالئ بالكالئ ، ذكره الإمام فخر الدين .

وبيانه أن قوله - تعالى - : ( تداينتم ) مفاعلة من الطرفين ، وهو يقتضي وجود الدين من الجهتين ، فلما قال : بدين ، علم أنه دين واحد من الجهتين .

الرابع : أنه أتي به ليفيد أن الإشهاد مطلوب ، سواء كان الدين صغيرا أو كبيرا ؛ كما سبق نظيره في قوله - تعالى - : فإن كانتا اثنتين ( النساء : 176 ) ويدل على هذا هاهنا قوله بعد ذلك : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ( البقرة : 282 ) .

الخامس : أن ( تداينتم ) مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة ، وذكر الدين لتمييز المراد ، قال الحماسي :

[ ص: 499 ]

ولم يبق سوى العدوا     ن دناهم كما دانوا

ونظير هذه الآية في التصريح بالمصدر مع ظهوره فيما قبله ، قوله - تعالى - : فتقبلها ربها بقبول حسن ( آل عمران : 37 ) وقوله - تعالى - : فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ( التوبة : 111 ) وقوله : سأل سائل ( المعارج : 1 ) فيقال : ما الحكمة في التصريح بالمصدر فيهما ، أو بضميره مع أنه مستفاد مما قبله ؟

وقد يجيء التأكيد به لمعنى الجملة ، كقوله - تعالى - : صنع الله الذي أتقن كل شيء ( النمل : 88 ) فإنه تأكيد لقوله - تعالى - : تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ( النمل : 88 ) لأن ذلك صنع الله ، وقوله - تعالى - : وعد الله ( الروم : 6 ) تأكيد لقوله : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ( الروم : 4 ، 5 ) لأن هذا وعد الله .

وقوله - تعالى - : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ( آل عمران : 145 ) انتصب ( كتابا ) على المصدر بما دل عليه السياق ، تقديره : وكتب الله لأن قوله : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ( آل عمران : 145 ) يدل على كتب .

وقوله - تعالى - كتاب الله عليكم ( النساء : 24 ) تأكيد لقوله : حرمت عليكم ( النساء : 23 ) الآية ؛ لأن هذا مكتوب علينا ، وانتصب المصدر بما دل عليه سياق الآية ، فكأنه فعل تقديره : كتب الله عليكم .

وقال الكسائي : انتصب بعليكم على الإغراء ، وقدم المنصوب ، والجمهور على منع التقدير .

وقوله : صبغة الله ( البقرة : 138 ) تأكيد لقوله : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ( البقرة : 137 ) لأن هذا دين الله ، وقيل : منصوبة على الأمر .

وقوله - تعالى - : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( الزمر : 3 ) منصوبة على المصدر بما دل عليه الكلام ؛ لأن الزلفى مصدر كالرجعى ، ( ويقربونا ) يدل على يزلفونا ، فتقديره : يزلفونا زلفى .

[ ص: 500 ] وقد يجيء التأكيد به مع حذف عامله ، كقوله : فإما منا بعد وإما فداء ( محمد - صلى الله عليه وسلم - : 4 ) والمعنى : فإما تمنوا منا ، وإما إن تفادوا فداء ، فهما مصدران منصوبان بفعل مضمر .

وجعل سيبويه من المصدر المؤكد لنفسه قوله - تعالى - : الذي أحسن كل شيء خلقه ( السجدة : 7 ) لأنه إذا أحسن كل شيء فقد خلقه خلقا حسنا ، فيكون ( خلقه ) على معنى خلقه خلقا ، والضمير هو الله - تعالى .

ويجوز أن يكون بدل اشتمال ؛ أي أحسن خلق كل شيء .

قال الصفار : والذي قاله سيبويه أولى لأمرين : أن في هذا إضافة المصدر إلى المفعول ، وإضافته إلى الفاعل أكثر ، وأن المعنى الذي صار إليه أبلغ في الامتنان ، وذلك أنه إذا قال : أحسن كل شيء فهو أبلغ من قولك : أحسن خلق كل شيء ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ، ولا يكون الشيء في نفسه حسنا ، وإذا قال : أحسن كل شيء ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن ؛ بمعنى أنه وضع كل شيء موضعه ، فهو أبلغ في الامتنان .

فائدتان

الأولى : هل الأولى التأكيد بالمصدر أو الفعل ؟ قال بعضهم : المصدر أولى ؛ لأنه اسم وهو أخف من الفعل ، وأيضا فلأن الفعل يحتمل الضمير فيكون جملة ، فيزداد ثقلا ؛ ويحتمل أن الفعل أولى لدلالته على الاستمرار .

الثانية : حيث أكد المصدر النوعي ، فالأصل فيه أن ينعت بالوصف المراد منه ، نحو : قمت قياما حسنا ، وسرحوهن سراحا جميلا ( الأحزاب : 49 ) وقوله : اذكروا الله ذكرا كثيرا ( الأحزاب : 41 ) .

وقد يضاف الوصف إلى المصدر فيعطى حكم المصدر ، قال - تعالى - : اتقوا الله حق تقاته ( آل عمران : 102 ) .

[ ص: 501 ] الثاني : الحال المؤكدة ، وهي الآتية على حال واحدة ، وعكس المبينة ، فإنها لا تكون إلا منتقلة ، وهي لتأكيد الفعل كما سبق في المصدر المؤكد لنفسه ؛ وسميت مؤكدة لأنها تعلم قبل ذكرها ، فيكون ذكرها توكيدا ؛ لأنها معلومة من ذكر صاحبها .

كقوله - تعالى - : ويوم أبعث حيا ( مريم : 33 ) . وقوله : ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( العنكبوت : 36 ) . فتبسم ضاحكا من قولها ( النمل : 19 ) لأن معنى تبسم : ضحك مسرورا .

وقوله : وأرسلناك للناس رسولا ( النساء : 79 ) . ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( البقرة : 83 ) وذكر الإعراض للدلالة على تناهي حالهم في الضلال . ومثله : أقررتم وأنتم تشهدون ( البقرة : 84 ) إذ معنى الإقرار أقرب من الشهادة ولأن الإعراض والشهادة حالان لهم عند التولي والإقرار .

وقوله : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ( ق : 31 ) . وقوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ( هود : 108 ) فإنه حال مؤكدة ، لقوله : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ( هود : 108 ) وبهذا يزول الإشكال في أن شرط الحال الانتقال ، ولا يمكن ذلك هنا ، فإنا نقول : ذلك شرط في غير المؤكدة ، ولما لم يقف ابن جني على ذلك قدر محذوفا ؛ أي معتقدا خلودهم فيها ؛ لأن اعتقاد ذلك أمر ثابت عند غير المؤمنين ، فلهذا ساغ مجيئها غير منتقلة .

ومنهم من نازع في التأكيد في بعض ما سبق ؛ لأن الحال المؤكدة مفهومها مفهوم عاملها ، وليس كذلك التبسم والضحك ، فإنه قد يكون من غير ضحك ؛ بدليل قوله : تبسم تبسم الغضبان .

وكذلك : التولية والإدبار في قوله - تعالى - : ولى مدبرا ( النمل : 10 ) ، ثم وليتم مدبرين ( التوبة : 25 ) فإنهما بمعنيين مختلفين ، فالتولية أن يولي الشيء ظهره ، والإدبار أن يهرب منه ، فليس كل مول مدبرا ، ولا كل مدبر موليا .

ونظيره قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ( النمل : 80 ) فلو كان أصم مقبلا لم يسمع ، فإذا ولى ظهره كان أبعد له من السماع ، فإذا [ ص: 502 ] أدبر مع ذلك كان أشد لبعده عن السماع . ومن الدليل على أن التولي لا يتضمن الإدبار قوله : فول وجهك شطر المسجد الحرام ( البقرة : 144 ) فإنه بمعنى الإقبال ، وقوله : ولم يعقب ( النمل : 10 ) إشارة إلى استمراره في الهروب ، وعدم رجوعه ، يقال : فلان ولى إذا رجع ، وكل راجع معقب ، وأهل التفسير يقولون : لم يقف ولم يلتفت ، وكذلك قوله : وأرسلناك للناس رسولا ( النساء : 79 ) قيل : ليست بمؤكدة ؛ لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولا ، كما قال - تعالى - : إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ( الذاريات : 41 ) .

وقوله : وهو الحق مصدقا ( البقرة : 91 ) جعلها كثير من المعربين مؤكدة ؛ لأن صفة الحق التصديق .

قيل : ويحتمل أن يريدوا به تأكيد العامل ، وأن يريدوا به تأكيد ما تضمنته الجملة .

ودعوى التأكيد غير ظاهرة ؛ لأنه يلزم من كون الشيء حقا في نفسه أن يكون مصدقا لغيره ، والفرض أن القرآن العزيز فيه الأمران ، وهو كونه حقا وكونه مصدقا لغيره من الكتب ، فالظاهر أن ( مصدقا ) حال مبينة لا مؤكدة ، ويكون العامل فيها الحق ، لكونه بمعنى الثابت ، وصاحب الحال الضمير الذي تحمله " الحق " لتأوله بالمشتق .

وقوله : قائما بالقسط ( آل عمران : 18 ) فقائما حال مؤكدة ؛ لأن الشاهد به لا إله إلا هو قائم بالقسط ، فهي لازمة مؤكدة ، وقد وقعت بعد الفعل والفاعل .

قال ابن أبي الربيع : ويجوز أن يكون حالا على جهة أخرى ، على معنى شهد الله أنه منفرد بالربوبية ، وقائم بالقسط ، فإنه - سبحانه وتعالى - بالصفتين لم ينتقل عنهما ، فهو متصف بكل واحدة منهما في حال الاتصاف بالأخرى ، وهو - سبحانه - لم يزل بهما لأن صفاته ذاتية قديمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية