صفحة جزء
القسم الثاني الصفة [ ص: 5 ] وهي مخصصة إن وقعت صفة للنكرة ، وموضحة للمعرفة ، وتأتي لأسباب : أحدها : لمجرد المدح والثناء ، ومنه صفات الله تعالى ، كقوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ( الفاتحة : 1 ) فليس ذكر الوصف هنا للتمييز ; لأنه ليس له مثل - تعالى الله عن ذلك - حتى يوضح بالصفة .

وأخذ أبو الطيب هذا المعنى ، فذكر أسامي بعض ممدوحه ثم قال :

أساميا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها

فقوله : " لم تزده " بيان أنها للإطناب والثناء لا للتعريف والتبيين .

وقيل : إن الصفات الجارية على القديم - سبحانه - المراد بها التعريف ، فإن تلك الصفات حاصلة له ، لا لمجرد الثناء ، ولو كانت للثناء لكان الاختيار قطعها ، ومنه قوله تعالى : يحكم بها النبيون الذين أسلموا ( المائدة : 44 ) فهذا الوصف للمدح ليس غير ; لأنه ليس يمكن أن يكون ثمة نبيون غير مسلمين ، كذا قاله الزمخشري .

قال : " وأريد بها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم ، وأن اليهود بمعزل عنها " .

والتحقيق أن هذه الصفة للتمييز ، وقد أطلق الله وصف الإسلام على الأنبياء وأتباعهم ، [ ص: 6 ] والأصل في المدح التمييز بين الممدوح وغيره بالأوصاف الخاصة ، والإسلام وصف عام ، فوصفهم بالإسلام : إما باعتبار الثناء عليه ، أو الثناء عليهم بعد النبوة تعظيما وتشريفا ، أو باعتبار أنهم بلغوا من هذا الوصف غايته ; لأن معنى ذلك يرجع إلى معنى الاستسلام والطاعة الراجعين إلى تحقيق معنى العبودية ، التي هي أشرف أوصاف العباد ، فكذلك يوصفون بها في أشرف حالاتهم وأكمل أوقاتهم .

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك ( البقرة : 128 ) أي : مستسلمين لأمرك لقضائك ، وكذا قول يوسف : توفني مسلما ( يوسف : 101 ) وكذلك قوله : النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ( المائدة : 44 ) تنويه بقدر الإسلام ، وتنبيه على عظم أمره ، فإن الصفة تعظم بعظم موصوفها ، كما وصفت الملائكة المقربون بالإيمان في قوله تعالى : يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ( غافر : 7 ) تنويها بقدر الإيمان ، وحضا للبشر على التحلي به ; ليكونوا كالمقربين في وصف الإيمان ، حتى قيل : أوصاف الأشراف أشرف الأوصاف .

الثاني : لزيادة البيان ، كذا قاله ابن مالك ، ومثله بقوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي ( الأعراف : 158 ) وليس ما قاله بواضح ، فإن " رسول الله " كما يستعمل في نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - يستعمل في غيره بطريق الوضع ، وتعريفه إنما حصل بالإضافة .

فإن قال : قد كثر استعماله في نبينا - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه لم يبق الذهن يتبادر إلا إليه .

قلنا : ليس هذا من وضعه ; بل ذلك من الاستعمال ، وقد استعمل في غيره ، قال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله ( الأعراف : 158 ) وفي موضع آخر : ( رسل الله ) ( الأنعام : 124 ) وفي حق عيسى : [ ص: 7 ] ورسولا إلى بني إسرائيل ( آل عمران : 49 ) وفي حق موسى : كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ( المزمل ) .

ثم إن الصفة إنما تكون مثل الموصوف أو دونه في التعريف ، وأما أن تكون فوقه فلا ; لأنها على كل حال تابعة ، والتابع دون المتبوع .

فإن قيل : كيف يصح أن يزال إبهام الشيء بما هو أبهم منه ؟ فالجواب : إن التعريف لم يقع بمجرد الصفة ، وإنما حصل بمجموع الصفة والموصوف ; لأنهما كالشيء الواحد .

الثالث : لتعيينه للجنسية ; كقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ( الأنعام : 38 ) لأن المعنى بدابة والذي سيق له الكلام الجنسية لا الإفراد ، بدليل قوله تعالى : إلا أمم أمثالكم فجمع أمم محقق إرادة الجنس من الوصف اللازم للجنس المذكور ، وهو كون الدابة غير منفكة عن كونها في الأرض ، وكون الطائر غير منفك كونه طائرا بجناحيه ، لينتفي توهم الفردية ، هذا معنى ما أشار إليه السكاكي في " المفتاح " .

وحمل بعضهم كلامه على أنه إنما ذكر الوصف ليعلم أن المراد ليس دابة مخصوصة ، وهو بعيد ; لأن ذلك معلوم قطعا بدون الوصف ; لأن النكرة المنفية لا سيما مع " من " الاستغراقية قطعية .

وقال الزمخشري : إن معنى زيادة ( في الأرض ) و ( يطير بجناحيه ) يفيد زيادة التعميم والإحاطة ، حتى كأنه قيل : " وما من دابة من جميع ما في الأرض ، وما من طائر من جميع ما يطير بجناحيه " .

ويحتمل أن يقال : إن الطيران لما كان يوصف به من يعقل كالجان والملائكة ، فلو لم يقل : بجناحيه لتوهم الاقتصار على جنسها ممن يعقل ، فقيل : بجناحيه ليفيد إرادة [ ص: 8 ] هذا الطير المعتقد فيه عدم المعقولية بعينه .

وقيل : إن الطيران يستعمل لغة في الخفة ، وشدة الإسراع في المشي ، كقول الحماسي :

طاروا إليه زرافات ووحدانا

فقوله : ( يطير بجناحيه ) رافع لاحتمال هذا المعنى .

وقيل : لو اقتصر على ذكر الطائر فقال : وما من دابة في الأرض ولا طائر لكان ظاهر العطف يوهم : " ولا طائر في الأرض " ؛ لأن المعطوف عليه إذا قيد بظرف أو حال يقيد به المعطوف ، وكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض الذي لا يطير بجناحيه كالدجاج والإوز والبط ونحوها ، فلما قال : يطير بجناحيه زال هذا الوهم ، وعلم أنه ليس بطائر مقيد ، إنما تقيدت به الدابة .

وأما قوله تعالى : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ( البقرة : 11 ) مع أن المعلوم أن الفساد لا يقع إلا في الأرض ، قيل : في ذكرها تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه شأنكم وتصرفكم ، ومنه مادة حياتكم - وهي سترة أموالكم - جدير ألا يفسد فيه ، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد .

وهذا بخلاف قوله تعالى في سورة براءة : وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ( التوبة : 74 ) لأن المراد نفي النصير عنهم في جميع الأرض ، فلو لم يذكر لاحتمل أن يكون ذلك خاصا ببعضها .

وأما قوله تعالى : ذلك قولهم بأفواههم ( التوبة : 30 ) وقوله تعالى : إنما يأكلون في بطونهم نارا [ ص: 9 ] ( النساء : 10 ) وقوله تعالى : ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( الحج : 46 ) ونحوها من المقيد - إذ القول لا يكون إلا بالفم ، والأكل إنما يكون في البطن - ففوائده مختلفة .

فقيل : بأفواههم للتنبيه على أنه قول لا دليل عليه ، بل ليس فيه إلا مجرد اللسان ، أي : لا يعضده حجة ولا برهان ، وإنما هو لفظ فارغ من معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على شيء مؤثر ; لأن القول الدال على معنى قول بالفم ومؤثر في القلب ، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير ، أو المراد بالقول المذهب ، أي : هو مذهبهم بأفواههم لا بقلوبهم ; لأنه لا حجة عليه توجب اعتقاده بالقلب .

وقيل : إنه رافع لتوهم إرادة حديث النفس ، كما في قوله تعالى : ويقولون في أنفسهم ( المجادلة : 8 ) .

وقيل : لأن القول يطلق على الاعتقاد ، فأفاد بأفواههم التنصيص على أنه باللسان دون القلب ، ولو لم يقيد لم يستفد هذا المعنى ، ويشهد له : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك ( المنافقون : 1 ) الآية ، فلم يكذب ألسنتهم ; بل كذب ما انطوى عن ضمائرهم من خلافه ، وإنما قال : في بطونهم نارا ( النساء : 10 ) لأنه يقال : أكل في بطنه ، إذا أمعن ، وفي بعض بطنه ، إذا اقتصر ، قال :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا     فإن زمانكم زمن خميص

فكأنه قيل : يأكلون ما يجر - إذا امتلأت بطونهم - نارا ، وإنما قال : التي في الصدور ( الحج : 46 ) فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكر والتعقل ، وسماع أخبار من مضى من [ ص: 10 ] الأمم ، وكيف أهلكهم بتكذيبهم رسله ومخالفتهم لهم قال : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ( الحج : 46 ) .

قال ابن قتيبة : وهل شيء أبلغ في العظمة والعزة من هذه الآية ؟ ! لأن الله تعالى أراد : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالكفر والعتو ; فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها ، وبئرا يشرب أهلها فيها قد عطلت ، وقصرا بناه ملكه بالشيد خلا من السكن وتداعى بالخراب ; فيتعظوا بذلك ، ويخافوا من عقوبة الله مثل الذي نزل بهم ؟ ثم ذكر تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر والرؤية وإن عميت قلوبهم التي في صدورهم .

وقيل : لما كانت العين قد يعنى بها القلب في نحو قوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ( الكهف : 101 ) جاز أن يعنى بالقلب العين ، فقيد القلوب بذكر محلها رفعا لتوهم إرادة غيرها .

وقيل : ذكر محل العمى الحقيقي الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم : ليس الشديد بالصرعة ; إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب أي : هذا أولى بأن يكون شديدا منه ، فعمى القلب هو الحقيقي لا عمى البصر ، فأعمى القلب أولى أن يكون أعمى من أعمى العين ، فنبه بقوله : التي في الصدور ( الحج : 46 ) على أن العمى الباطن في العضو الذي عليه الصدر ، لا العمى الظاهر في العين التي محلها الوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية