صفحة جزء
القسم الثالث البدل والقصد به الإيضاح بعد الإبهام ، وهو يفيد البيان والتأكيد ، أما البيان فإنك إذا قلت : " رأيت زيدا أخاك " بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير ، وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل ، ألا ترى أنك إذا قلت : " ضربت زيدا " جاز أن تكون ضربت رأسه أو يده أو جميع بدنه ، [ ص: 33 ] فإذا قلت : " يده " فقد رفعت ذلك الإبهام ، فالبدل جار مجرى التأكيد لدلالة الأول عليه ، أو المطابقة كما في بدل الكل ، أو التضمن كما في بدل البعض ، أو الالتزام كما في بدل الاشتمال ، فإذا قلت : " ضربت زيدا رأسه " فكأنك قد ذكرت الرأس مرتين : مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة ، وإذا قلت : " شربت ماء البحر بعضه " ، فإنه مفهوم من قولك : " شربت ماء البحر " أنك لم تشربه كله ، فجئت بالبعض تأكيدا .

وهذا معنى قول سيبويه ولكنه ثنى الاسم تأكيدا ، وجرى مجرى الصفة في الإيضاح ; لأنك إذا قلت : " رأيت أبا عمرو زيدا " و " رأيت غلامك زيدا " و " مررت برجل صالح زيد " فمن الناس من يعرفه بأنه غلامك ، أو بأنه رجل صالح ، ولا يعرف أنه زيد ، وعلى العكس ، فلما ذكرتهما أثبت باجتماعهما المقصود .

وهذا معنى قول الزمخشري : وإنما يذكر الأول لتجوز التوطئة ، وليفاد بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد .

وقال ابن السيد : ليس كل بدل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل منه ، بل من البدل ما يراد به التأكيد ، وإن كان ما قبله غنيا عنه ، كقوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ( الشورى : 52 - 53 ) ألا ترى أنه لو لم يذكر " الصراط " الثاني لم يشك أحد أن الصراط المستقيم هو صراط الله ، وقد نص سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد ، ولهذا جوزوا بدل المضمر من المضمر ، كلقيته إياه .

انتهى .

[ ص: 34 ] والفرق بينه وبين الصفة أن البدل في تقدير تكرار العامل ، وكأنه في التقدير من جملتين ; بدليل تكرر حرف الجر في قوله : قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم ( الأعراف : 75 ) وبدليل بدل النكرة من المعرفة والمظهر من المضمر ، وهذا مما يمتنع في الصفة ، فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم ، فكذلك تكرار العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرار ، وهو إن كان كذلك فلا يخرج عن أن يكون فيه تبيين للأول كالصفة .

وقيل لأبي علي : كيف يكون البدل إيضاحا للمبدل منه ، وهو من غير جملته ؟ فقال : لما لم يظهر العامل في البدل وإنما دل عليه العامل في المبدل منه ، واتصل البدل بالمبدل منه في اللفظ جاز أن يوضحه .

ومن فوائد البدل التبيين على وجه المدح ، فقولك : " هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم ؟ فلان " أبلغ من قولك : " فلان الأكرم والأفضل " بذكره مجملا ثم مفصلا .

وقال الأخفش والواحدي في بدل البعض من الكل نحو : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( آل عمران : 97 ) يسمى هذا بدل البيان ; لأن الأول يدل على العموم ، ثم يؤتى بالبدل إن أريد البعض .

واعلم أن في كلام البدلين - أعني بدل البعض وبدل الاشتمال - بيانا وتخصيصا للمبدل منه ، وفائدة البدل أن ذلك الشيء يصير مذكورا مرتين : إحداهما بالعموم ، والثانية بالخصوص .

[ ص: 35 ] ومن أمثلته قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين ( الفاتحة : 6 - 7 ) .

آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ( الشعراء : 47 - 48 ) وقوله : لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة ( العلق : 15 - 16 ) وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتنصيص على " ناصية " ، والثانية على علة السفع ; ليشمل بذلك ظاهر كل ناصية هذه صفتها .

ويجوز بدل المعرفة من المعرفة نحو : الصراط المستقيم صراط الذين ( الفاتحة : 6 - 7 ) .

وبدل النكرة من المعرفة نحو : بالناصية ناصية كاذبة ( العلق : 15 - 16 ) قال ابن يعيش : ولا يحسن بدل النكرة من المعرفة حتى توصف كالآية ; لأن البيان مرتبط بهما جميعا .

والنكرة من النكرة كقوله تعالى : إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا ( النبأ : 31 - 34 ) فحدائق وما بعدها بدل من مفازا .

ومنه قوله تعالى : وغرابيب سود ( فاطر : 27 ) فإن " سود " بدل من " غرابيب " لأن الأصل : " سود غرابيب " ، فغرابيب في الأصل صفة لسود ، ونزع الضمير منها ، وأقيمت مقام الموصوف ، ثم أبدل منها الذي كان موصوفا بها ، كقوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا ( آل عمران : 85 ) وقوله : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ( يوسف : 20 ) فهذا بدل نكرة موصوفة من أخرى موصوفة فيها بيان الأولى .

[ ص: 36 ] ومثل إبدال النكرة المجردة من مثلها مجردة وبدل المعرفة من النكرة : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ( الشورى : 52 - 53 ) لأن " صراط الله " مبين إلى الصراط المستقيم ; فإن مجيء الخاص والأخص بعد العام والأعم كثير ; ولهذا المعنى قال الحذاق في قوله تعالى : ما يلفظ من قول ( ق : 18 ) إنه لو عكس فقيل : " ما يقول من لفظ " لم يجز ; لأن القول أخص من اللفظ لاختصاصه بالمستعمل ، واللفظ يشمل المهمل الذي لا معنى له .

وقد يجيء للاشتمال ، والفرق بينه وبين بدل البعض أن البدل في البعض جر في الاشتمال وصفا ، كقوله : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ( الكهف : 63 ) فإن " أذكره " بمعنى ذكره ، وهو بدل من الهاء في أنسانيه العائدة إلى الحوت وتقديره : وما أنساني ذكره إلا الشيطان .

وقوله : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ( البقرة : 217 ) فـ ( قتال ) بدل من " الشهر " بدل الاشتمال ; لأن الشهر يشتمل على القتال وعلى غيره ، كما كان زيد يشتمل على العقل وغيره وهو مؤكد لأنهم لم يسألوا عن الشهر الحرام ; فإنهم يعلمونه ، وإنما سألوا عن القتال فيه ، فجاء به تأكيدا .

وقوله : قتل أصحاب الأخدود النار ( البروج : 4 - 5 ) فالنار بدل من " الأخدود " بدل اشتمال ; لأنه يشتمل على النار وغيرها ، والعائد محذوف تقديره : " الموقدة فيه " .

ومن بدل البعض قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( آل عمران : 97 ) فالمستطيعون بعض الناس لا كلهم .

وقال ابن برهان : بل هذه بدل كل من كل ، واحتج بأن الله لم يكلف الحج من لا يستطيعه ، فيكون المراد بالناس بعضهم ; على حد قوله : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ( آل عمران : 173 ) [ ص: 37 ] في أنه لفظ عام أريد به خاص ; لأن الناس في اللفظ الأول لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله بعده : ( إن الناس ) فعلى هذا هو عنده مطابق لعدة المستطيعين في كميتهم ، وهم بعض الناس لا جميعهم .

والصحيح ما صار عليه الجمهور ; لأن باب البدل أن يكون في الثاني بيان ليس في الأول بأن يذكر الخاص بعد العام مبينا وموضحا .

ولا بد في إبدال البعض من ضمير كقوله : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ( البقرة : 251 ) ويجعل الخبيث بعضه على بعض ( الأنفال : 37 ) .

وقد يحذف لدليل كقوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع ( آل عمران : 97 ) " منهم " وهو مراد بدليل ظهوره في الآية الأخرى ، وهي قوله : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم ( البقرة : 126 ) فـ ( من آمن ) بدل من ( أهله ) وهم بعضهم .

وقد يأتي البدل لنقل الحكم عن مبدله ، نحو : " جاء القوم أكثرهم " و " أعجبني زيد ثوبه " وقال ابن عصفور : ولا يصح " غلمانه " .

وعدل عن البدل في قوله تعالى : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ( الحجرات : 4 ) لأنه أريد الإخبار عنهم كلهم في الحال الثاني وهو ولو أنهم صبروا ( الحجرات : 5 ) فلو أبدل لأوهم ، بخلاف : " إنك أن تقوم خير لك " البدل أرجح .

والبدل في تقدير تكرير العامل وليس كالصفة ، ولكنه في تقدير جملتين بدليل تكرير حرف الجر .

[ ص: 38 ] قد يكرر عامله إذا كان حرف جر ، كقوله : ومن النخل من طلعها قنوان دانية ( الأنعام : 99 ) فـ ( طلعها ) بدل اشتمال من النخل وكرر العامل فيه وهو من .

وقوله تعالى : قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم ( الأعراف : 75 ) ( لمن آمن ) بدل بعض من كل من ( الذين استضعفوا ) ؛ لأن المؤمنين بعض المستضعفين ، وقد كرر اللام .

وقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ( الزخرف : 33 ) فقوله : لبيوتهم بدل اشتمال من قوله : لمن يكفر بالرحمن وجعل ابن عطية اللام الأولى للملك والثانية للاختصاص ، فعلى هذا يمتنع البدل لاختلاف معنى الحرفين .

وقوله تعالى : تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ( المائدة : 114 ) فـ ( لأولنا وآخرنا ) بدل من الضمير في " لنا " وقد أعيد معه العامل مقصودا به التفصيل .

ومنه قراءة يعقوب : ( وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها ) ( الجاثية : 28 ) قال أبو الفتح : " جاز إبدال الثانية من الأولى ; لأن في الثانية ذكر سبب الجثو " .

قيل : ولم يظهر عامل البدل إذا كان حرف جر ; إيذانا بافتقار الثاني إلى الأول ، فإن حروف الجر مفتقرة ، ولم يظهر الفعل ; إذ لو أظهروه لانقطع الثاني عن الأول بالكلية ; لأن الكلام مع الفعل قائم بنفسه .

واعلم أنه لا خلاف في جواز إظهار العامل في البدل إذا كان حرف جر كالآيات السابقة ، فإن كان رافعا أو ناصبا ففيه خلاف ، والمجوزون احتجوا بقوله تعالى : فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم ( الشعراء : 131 - 133 ) فيجوز أن [ ص: 39 ] يكون " أمدكم " الثاني بدلا من " أمدكم " الأول ، وقد يكون من إبدال الجملة من الجملة ، وتكون الثانية صلة الذي كالأولى ، ويجوز أن تكون الثانية شارحة للأولى ، كقولك : " ضربت رأس زيد ، قذفته بالحجر " ثم قوله تعالى : ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم ( يس : 20 - 21 ) أبدل قوله : اتبعوا من لا يسألكم ( يس : 21 ) من قوله : اتبعوا المرسلين ( يس : 20 ) لأنه أكثر تلطفا في اقتضاء اتباعهم ، وقوله تعالى : ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب ( الفرقان : 68 - 69 ) فـ ( يلق ) مجزوم بحذف الألف ; لأنه جواب الشرط ، ثم أبدل منه يضاعف له العذاب ( الفرقان : 69 ) فبين بها " الأثام " ما هو .

وينقسم البدل باعتبار آخر إلى بدل مفرد من مفرد ، وجملة من جملة ، وقد سبقا ، وجملة من مفرد ، كقوله تعالى : كمثل آدم خلقه من تراب ( آل عمران : 59 ) وقوله : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ( فصلت : 43 ) فإن ( إن ) وما عملت فيه بدل من ( ما ) وصلتها على تقدير " ما يقال لك ألا إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب " وجاز إسناد ( يقال ) إلى ما عملت فيه ، كما جاز إسناد قيل في وإذا قيل إن وعد الله حق ( الجاثية : 32 ) .

ومن إبدال الجملة من المفرد قوله تعالى : وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ( الأنبياء : 3 ) قال الزمخشري : " هذا الكلام كله في محل نصب ، بدلا من ( النجوى ) .

ويبدل الفعل من الفعل الموافق له في المعنى مع زيادة بيان ، كقوله تعالى : ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب ( الفرقان : 68 - 69 ) الآية .

[ ص: 40 ] والرابع : بدل المفرد من الجملة كقوله : ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ( يس : 31 ) فـ ( أنهم ) بدل ; لأن الإهلاك وعدم الرجوع بمعنى واحد .

فإن قلت : لو كان بدلا لكان معه الاستفهام .

قيل : هو بدل معنوي .

تنبيه وقد يكرر البدل كقوله : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه ( التوبة : 40 ) فقوله : " إذ هما " بدل من قوله : إذ أخرجه الذين كفروا ( التوبة : 40 ) وقوله : إذ يقول لصاحبه ( التوبة : 40 ) بدل من قوله : إذ هما في الغار ( التوبة : 40 ) .

تنبيه أعربوا آزر من قوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ( الأنعام : 74 ) بدلا .

قال ابن عبد السلام : " والبدل لا يكون إلا للبيان ، والأب لا يلتبس بغيره ، فكيف حسن البدل ؟ " .

والجواب : أن الأب يطلق على الجد ، بدليل قوله : آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( يوسف : 38 ) فقال : " آزر " لدفع توهم المجاز .

هذا كله إذا قلنا : إن " آزر " اسم أبيه ، لكن في " المعرب " للجواليقي عن الزجاج : [ ص: 41 ] " لا خلاف أن اسم أبي إبراهيم " تارح " والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر ، وقيل : " آزر " ذم في لغتهم ، وكأنه : " يا مخطئ " ، وهو من العجمي الذي وافق لفظه لفظ العربي ، نحو : الإزار والإزرة ، قال تعالى : أخرج شطأه فآزره .

وعلى هذا فالوجه الرفع في قراءة آزر

التالي السابق


الخدمات العلمية