صفحة جزء
الثاني : استفتاح السور بحروف التهجي

نحو : ( الم ) ، ( المص ) ، ( المر ) ، ( كهيعص ) ، ( طه ) ( طس ) ، ( طسم ) ، ( حم ) ، ( حم عسق ) ، ( ق ) ، ( ن ) ، وذلك في تسع وعشرين سورة .

قال الزمخشري : وإذا تأملت الحروف التي افتتح الله بها السور وجدتها نصف أسامي حروف المعجم ، أربعة عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والخاء ، والقاف ، والنون . في تسع وعشرين سورة ، عدد حروف المعجم ، ثم تجدها مشتملة على أصناف أجناس الحروف المهموسة والمجهورة ، والشديدة والرخوة ، والمطبقة والمنفتحة ، والمستعلية والمنخفضة ، وحروف القلقلة . ثم إذا استقريت الكلام تجد هذه الحروف هي أكثر دورا مما بقي ، ودليله : أن الألف واللام لما كانت أكثر تداورا جاءت في معظم هذه الفواتح ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته . انتهى .

قيل : وبقي عليه من الأصناف : الشديدة والمنفتحة ، وقد ذكر تعالى نصفها ، أما حروف الصفير فهي ثلاثة ، ليس لها نصف ، فجاء منها : السين والصاد ، ولم يبق إلا الزاي ، وكذلك الحروف اللينة ثلاثة ; ذكر منها اثنين : الألف والياء ، أما المكرر وهو الراء ، [ ص: 256 ] والهاوي وهو الألف ، والمنحرف وهو اللام ، فذكرها ولم يأت خارجا عن هذا النمط إلا ما بين الشديدة والرخوة ; فإنه ذكر فيه أكثر من النصف ، وهذا التداخل موجود في كل قسم قبله ، ولولاه لما انقسمت هذه الأقسام كلها ، ووهم الزمخشري في عدة حروف القلقلة ; إنما ذكر نصفها ، فإنها خمسة ، ذكر منها حرفان : القاف والطاء .

وقال القاضي أبو بكر : إنما جاءت على نصف حروف المعجم ; كأنه قيل : من زعم أن القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي ، ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن . وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق .

واعلم أن الأسماء المتهجاة في أول السور ثمانية وسبعون حرفا ; فالكاف والنون كل واحد في مكان واحد ، والعين والياء والهاء والقاف كل واحد في مكانين ، والصاد في ثلاثة ، والطاء في أربعة ، والسين في خمسة ، والراء في ستة ، والحاء في سبعة ، والألف واللام في ثلاثة عشر ، والميم في سبعة عشر ، وقد جمع بعضهم ذلك في بيتين ، وهما :


كن واحد عيهق اثنان ثلاثة ضا د الطاء أربعة والسين خمس علا     والراء ست وسبع الحاء آل ودج
وميمها سبع عشر تم واكتملا



وهي في القرآن في تسعة وعشرين سورة ، وجملتها من غير تكرار أربعة عشر حرفا ، يجمعها قولك : " نص حكيم قاطع له سر " ، وجمعها السهيلي في قوله : " ألم يسطع نور حق كره " .

وهذا الضابط في لفظه ثقل ، وهو غير عذب في السمع ، ولا في اللفظ ، ولو قال : " لم يكرها نص حق سطع " لكان أعذب .

ومنهم من ضبط بقوله : " طرق سمعك النصيحة " ، و " صن سرا يقطعك حمله " ، و " على صراط حق يمسكه " ، وقيل : " من حرص على بطه كاسر " ، وقيل : سر حصين قطع كلامه .

[ ص: 257 ] ثم بنيتها ثلاثة حروف موحدة : " ص " ، " ق " ، " ن " ، وعشرة مثنى : " طه " ، " طس " ، " يس " ، " حم " ، واثنا عشر مثلثة الحروف : " الم " ، " الر " ، " طسم " ، واثنان حروفها أربعة : " المص " ، " المر " ، واثنان حروفها خمسة " كهيعص " ، " حم عسق " .

وأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف ذكر منها ما هو ثلاثة أحرف ، وما هو أربعة أحرف سورتان ، وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان .

وأما ما بدئ بحرف واحد فاختلفوا فيه : فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا ، وإنما جعله اسما لشيء خاص ، ومنهم من جعله حرفا ، وقال : أراد أن يتحقق الحروف مفردها ومنظومها .

فأما ما ابتدى بثلاثة أحرف ففيه سر ; وذلك أن الألف إذا بدئ بها أولا كانت همزة ، وهي أول المخارج من أقصى الصدر ، واللام من وسط مخارج الحروف ، وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان ، والميم آخر الحروف ، ومخرجها من الفم ، وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف ، أعني الحلق واللسان والشفتين ، وترتبت في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية .

فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة ، التي يتفرع منها ستة عشر مخرجا ; ليصير منها تسعة وعشرون حرفا ، عليها مدار كلام الخلق أجمعين ، مع تضمنها سرا عجيبا ، وهو أن الألف للبداية ، واللام للتوسط ، والميم للنهاية ، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما .

وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته وتوسطه ، مشتملة على خلق العالم وغايته ، وعلى التوسط بين البداية من الشرائع والأوامر ، فتأمل ذلك في " البقرة " و " آل عمران " و " تنزيل السجدة " وسورة " الروم " .

وأيضا فلأن الألف واللام كثرت في الفواتح دون غيرها من الحروف ; لكثرتها في الكلام .

وأيضا من أسرار علم الحروف : أن الهمزة من الرئة ، فهي أعمق الحروف ، واللام مخرجها من طرف اللسان ، ملصقة بصدر الغار الأعلى من الفم ، فصوتها يملأ ما وراءها من هواء الفم ، والميم مطبقة ; لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقتا ، ويرمز بهن إلى باقي الحروف ; [ ص: 258 ] كما رمز صلى الله عليه وسلم بقوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إلى الإتيان بالشهادتين وغيرهما مما هو من لوازمهما .

وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن ; فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها ، وهي : الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والإصمات . والسين مهموس رخو مستفل صفير منفتح ، فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها ، كالسين والهاء ، فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف .

وتأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة : كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف ; فمن ذلك : ( ق والقرآن المجيد ) ( ق : 1 ) ، فإن السورة مبنية على الكلمات القافية : من ذكر القرآن ، ومن ذكر الخلق ، وتكرار القول ومراجعته مرارا ، والقرب من ابن آدم ، وتلقي الملكين ، وقول العتيد ، وذكر الرقيب ، وذكر السابق ، والقرين ، والإلقاء في جهنم ، والتقدم بالوعد ، وذكر المتقين ، وذكر القلب والقرن ، والتنقيب في البلاد ، وذكر القتل مرتين ، وتشقق الأرض ، وإلقاء الرواسي فيها ، وبسوق النخل والرزق ، وذكر القوم ، وخوف الوعيد ، وغير ذلك .

وسر آخر : وهو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف ; من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح .

[ ص: 259 ] وإذا أردت زيادة إيضاح ، فتأمل ما اشتملت عليه سورة " ص " من الخصومات المتعددة ; فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم : ( أجعل الآلهة إلها واحدا ) ( ص : 5 ) ، إلى آخر كلامهم ، ثم اختصام الخصمين عند داود ، ثم تخاصم أهل النار ، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم ، وهو الدرجات والكفارات ، ثم تخاصم إبليس ، واعتراضه على ربه ، وأمره بالسجود ، ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه ، وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم .

وكذلك سورة : ( ن والقلم ) ; فإن فواصلها كلها على هذا الوزن ، مع ما تضمنت من الألفاظ النونية .

وتأمل سورة " الأعراف " ، زاد فيها " ص " ; لأجل قوله : ( فلا يكن في صدرك حرج ) ( الآية : 2 ) ، وشرح فيها قصص آدم فمن بعده من " الأنبياء " ; ولهذا قال بعضهم : معنى المص : ( ألم نشرح لك صدرك ) ( الشرح : 1 ) ، وقيل : معناه المصور ، وقيل : أشار بالميم لمحمد ، وبالصاد للصديق ، وفيه إشارة لمصاحبة الصاد الميم ، وأنها تابعة لها ، كمصاحبة الصديق لمحمد ، ومتابعته له .

وجعل السهيلي هذا من أسرار الفواتح ، وزاد في " الرعد " " راء " ; لأجل قوله : ( الله الذي رفع السماوات ) ( الآية : 2 ) ، ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما .

واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن ; كقوله : ( الم ذلك الكتاب ) ( البقرة : 1 و 2 ) ، وقد جاء بخلاف ذلك في " العنكبوت " و " الروم " ، فيسأل عن حكمة ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية