صفحة جزء
[ ص: 355 ] النوع الثالث

ما قدم في آية وأخر في أخرى

فمن ذلك قوله في فاتحة الفاتحة : الحمد لله ( الفاتحة : 2 ) وفي خاتمة الجاثية : فلله الحمد ( الآية : 36 ) فتقديم " الحمد " في الأول جاء على الأصل ، والثاني على تقدير الجواب ، فكأنه قيل عند وقوع الأمر : لمن الحمد ومن أهله ؟ فجاء الجواب على ذلك . نظيره : لمن الملك اليوم ( غافر : 16 ) ثم قال لله الواحد القهار ( غافر : 16 ) .

وقوله في سورة يس : وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ( الآية : 20 ) قدم المجرور على المرفوع ؛ لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل ، وإصرارهم على تكذيبهم ، فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة ، تلك القرية ، ويبقى مخيلا في فكره : أكانت كلها كذلك ، أم كان فيها [ فنظر أن أفاض ] على خلاف ذلك ، بخلاف ما في سورة القصص .

ومنها قوله في سورة النمل : لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل ( الآية : 68 ) وفي سورة المؤمنين : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل ( المؤمنون : 83 ) فإن ما قبل الأولى : أئذا كنا ترابا وآباؤنا ( النمل : 67 ) وما قبل الثانية : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما ( المؤمنون : 82 ) فالجهة المنظور فيها هناك كون أنفسهم وآبائهم ترابا ، والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ، ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث .

[ ص: 356 ] ومنها قوله في سورة المؤمنين : وقال الملأ من قومه الذين كفروا ( الآية : 33 ) فقدم المجرور على الوصف ؛ لأنه لو أخبر عنه - وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه الموصوف ، وتمامه : وأترفناهم في الحياة الدنيا ( المؤمنون : 33 ) - لاحتمل أن يكون من نعيم الدنيا واشتبه الأمر في القائلين أهم من قومه أم لا ؟ بخلاف قوله في موضع آخر منها : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ( المؤمنون : 24 ) فإنه جاء على الأصل .

ومنها قوله في سورة طه : آمنا برب هارون وموسى ( طه : 70 ) بخلاف قوله في سورة الشعراء : رب موسى وهارون ( الشعراء : 48 ) .

ومنها قوله : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ( الأنعام : 151 ) وقال في سورة الإسراء : نحن نرزقهم وإياكم ( الإسراء : 31 ) قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية ؛ لأن الخطاب في الأولى في الفقراء بدليل قوله : من إملاق ( الأنعام : 151 ) فكان رزقهم عندهم أهم من رزق أولادهم ، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم ، والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل : خشية إملاق ( الإسراء : 31 ) فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع ، فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم ؛ لأنه حاصل ، فكان أهم ، فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم .

ومنها ذكر الله في أواخر سورة الملائكة : إن الله عالم غيب السماوات والأرض ( فاطر : 38 ) فقدم ذكر السماوات ؛ لأن معلوماتها أكثر ، فكان تقديمها أدل على صفة العالمية ، ثم قال : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ( فاطر : 40 ) فبدأ بذكر الأرض ؛ لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة ، وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير ، فبدأ بالأرض [ ص: 357 ] مبالغة في بيان عجزهم ؛ لأن من عجز عن أيسر الأمرين كان عن أعظمهما أعجز ، ثم قال سبحانه : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ( فاطر : 41 ) فقدم السماوات تنبيها على عظم قدرته سبحانه ؛ لأن خلقها أكبر من خلق الأرض ، كما صرح به في سورة المؤمن ؛ ومن قدر على إمساك الأعظم كان على إمساك الأصغر أقدر .

فإن قلت : فهلا اكتفى من ذكر الأرض بهذا التنبيه البين ، الذي لا يشك فيه أحد .

قلت : أراد ذكرها مطابقة ؛ لأنه على كل حال أظهر وأبين ، فانظر أيها العاقل حكمة القرآن ، وما أودعه من البيان والتبيان ؛ تحمد عاقبة النظر ، وتنتظر خير منتظر .

ومن أنواعه أن يقدم اللفظ في الآية ويتأخر فيها ؛ لقصد أن يقع البداءة والختم به ، للاعتناء بشأنه وذلك كقوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ( آل عمران : 106 ) .

وقوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ( الجمعة : 11 ) إلى قوله : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ( الجمعة : 11 ) .

وكذلك قوله : إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( البقرة : 33 ) فإنه لولا ما أسلفناه لقيل : ما تكتمون وتبدون ؛ لأن الوصف بعلمه أمدح ، كما قيل : يعلم سركم وجهركم ( الأنعام : 3 ) و عالم الغيب والشهادة ( الرعد : 9 ) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ( النحل : 19 ) .

[ ص: 358 ] فإن قلت : فقد قال تعالى : يعلم السر وأخفى ( طه : 7 ) قلت : لأجل تناسب رءوس الآي .

ومنها أن يقع التقديم في موضع والتأخير في آخر ، واللفظ واحد ، والقصة واحدة ، للتفنن في الفصاحة ، وإخراج الكلام على عدة أساليب ، كما في قوله تعالى : وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ( البقرة : 58 ) وقوله : وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا ( الأعراف : 161 ) .

وقوله : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ( البقرة : 7 ) وقوله : وختم على سمعه وقلبه ( الجاثية : 23 ) قال الزمخشري في " كشافه القديم " : علم بذلك أن كلا الطريقين داخل تحت الحسن ؛ وذلك لأن العطف في المختلفين كالتثنية في المتفقين ، فلا عليك أن تقدم أيهما شئت فإنه حسن مؤد إلى الغرض ، وقد قال سيبويه : ولم يجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه بكونه أولى بها من الجائي ؛ كأنك قلت : مررت بهما ، يعني في قولك : مررت برجل وجاءني ، إلا أن الأحسن تقديم الأفضل ، فالقلب رئيس الأعضاء ، والمضغة لها الشأن ، ثم السمع طريق إدراك وحي الله ، وكلامه الذي قامت به السماوات والأرض ، وسائر العلوم التي هي الحياة كلها .

قلت : وقد سبق توجيه كل موضع بما ورد فيه من الحكمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية