صفحة جزء
الثالث

تغليب العاقل على غيره

بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل ، فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع ، كما تقول : " خلق الله الناس والأنعام ورزقهم " فإن لفظ " هم " مختص بالعقلاء ، ومنه قوله تعالى : والله خلق كل دابة من ماء ( النور : 45 ) لما تقدم لفظ الدابة ، والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلب من يعقل ، فقال : فمنهم من يمشي ( النور : 45 ) .

فإن قيل : هذا صحيح في " فمنهم " لأنه لمن يعقل ، وهو راجع إلى الجميع ، فلم قال : " من " وهو لا يقع على العام ؛ بل خاص بالعاقل ؟

قلت : " من " هنا بعض " هم " ، وهو ضمير من يعقل .

فإن قلت : فكيف يقع على بعضه لفظ ما لا يعقل ؟

قلت : " من " هنا قال أبو عثمان : إنه تغليب من غير عموم لفظ متقدم ، فهو بمنزلة من يقول : رأيت ثلاثة : زيدا وعمرا وحمارا .

[ ص: 373 ] وقال ابن الضائع : " هم " لا تقع إلا على من يعقل ، فلما أعاد الضمير على " كل دابة " غلب من يعقل فقال : " هم " و " من " بعض هذا الضمير ؛ وهو للعاقل ، فلزم أن يقول " من " فلما قال : " من " لوقوع التغليب في الضمير ، صار ما يقع عليه حكمه حكم العاقلين ؛ فتمم ذلك بأن أوقع " من " .

وقوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض : قالتا أتينا طائعين ( فصلت : 11 ) إنما جمعهما جمع السلامة ولم يقل " طائعين " ولا " طائعات " ؛ لأنه أراد : ائتيا بمن فيكم من الخلائق طائعين ، فخرجت الحال على لفظ الجمع ، وغلب من يعقل من الذكور .

وقال بعض النحويين : لما أخبر عنهما أنهما يقولان كما يقول الآدميون أشبهتا الذكور من بني آدم ، وإنما قال : " طائعين " ولم يقل : " مطيعين " ؛ لأنه من ( طعنا ) أي انقدنا ، وليس من ( أطعنا ) يقال : طاعت الناقة تطوع طوعا : إذا انقادت .

وقوله تعالى : بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ( البقرة : 116 ) قيل : أوقع " ما " لأنها تقع على أنواع من يعقل ؛ لأنه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل فغلب ما لا يعقل كان الأمر بالعكس ، ويناقضه : كل له قانتون ( البقرة : 116 ) .

وقال الزمخشري : جاء بـ " ما " تحقيرا لشأنهم وتصغيرا ، قال : " له قانتون " تعظيم .

ورد عليه ابن الضائع بصحة وقوعها على الله عز وجل ، قال : وهذا غاية الخطأ ، وقوله في دعاء الأصنام : هل يسمعونكم إذ تدعون ( الشعراء : 72 ) .

وقوله : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ( فصلت : 21 ) .

وأما قوله : فظلت أعناقهم لها خاضعين ( الشعراء : 4 ) وقوله تعالى : في فلك يسبحون ( يس : 40 ) لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( الأنبياء : 65 ) .

[ ص: 374 ] إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( يوسف : 4 ) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ( الأنبياء : 99 ) ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ( النمل : 18 ) لأنه سبحانه لما أخبر عنها بأخبار الآدميين جرى ضميرها على حد من يعقل ، وكذا البواقي .

فإن قيل : فقد غلب غير العاقل على العاقل في قوله : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة ( النحل : 49 ) فإنه لو غلب العاقل على غير العاقل لأتى بـ " من " .

فالجواب أن هذا الموضع غلب فيه من يعقل ، وعبر عن ذلك بـ " ما " ؛ لأنها واقعة على أجناس من يعقل ومن لا يعقل ، وقد يقع على أجناس من يعقل خاصة ، كهذه الآية .

وقوله : لله ملك السماوات والأرض وما فيهن ( المائدة : 120 ) ولم يقل : " ومن فيهن " قيل : لأن كلمة " ما " تتناول الأجناس كلها تناولا عاما بأصل الوضع ، و " من " لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع ، فكان استعمال ( ما ) هنا أولى .

وقد يجتمع في لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب ، والعقلاء على غيرهم ، كقوله : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ( الشورى : 11 ) أي : خلق لكم أيها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا ، وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا ، " يذرؤكم " أي : ينبتكم ويكثركم أيها الناس والأنعام ، في هذا التدبير والجعل ، فهو خطاب للجميع ؛ للناس المخاطبين وللأنعام المذكورة بلفظ الغيبة ، ففيه تغليب المخاطب على الغائب ، وإلا لما صح ذكر الجميع - أعنى الناس والأنعام - بطريق الخطاب ؛ لأن الأنعام غيب ، وتغليب العقلاء على غيرهم ، وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ " كم " المختص بالعقلاء . ففي لفظ " كم " تغليبان ، ولولا التغليب لكان القياس أن يقال : " يذرؤكم وإياها " هكذا قرره السكاكي والزمخشري .

[ ص: 375 ] ونوزعا فيه ؛ بأن جعل الخطاب شاملا للأنعام تكلف لا حاجة إليه ؛ لأن الغرض إظهار القدرة وبيان الألطاف في حق الناس ، فالخطاب مختص بهم ، والمعنى : يكثركم أيها الناس في التدبير حيث مكنكم من التوالد والتناسل ، وهيأ لكم من مصالحكم ما تحتاجون إليه في ترتيب المعاش ، وتدبير التوالد ، " والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون " وجعلها أزواجا تبقى ببقائكم ، وعلى هذا يكون التقدير : وجعل لكم من الأنعام أزواجا ، وهذا أنسب بنظم الكلام مما قرروه ، وهو جعل الأنعام أنفسها أزواجا .

وقوله : يذرؤكم فيه ( الشورى : 11 ) أي : في هذا التدبير ؛ كأنه محل لذلك ، ولم يقل " به " كما قال : ولكم في القصاص حياة ( البقرة : 179 ) لأنه مسوق لإظهار الاقتدار مع الوحدانية ، فأسقط باء السببية ، وأثبت " في " الظرفية ، وهذا وجه من إعجاز قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة ( البقرة : 179 ) لأن الحياة من شأنها الاستناد إليه سبحانه لا إلى غيره ، فاختيرت ( في ) على الباء ؛ لأنه مسوق لبيان الترغيب ، والمعنى مفهوم ، والقصاص مسوق للتجويز وحسن المشروعية وأن تعفوا أقرب للتقوى ( البقرة : 237 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية