صفحة جزء
التجريد

وهو أن تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر ؛ كأنه مباين له ، فتخرج ذلك إلى ألفاظه بما اعتقدت ذلك ، كقولهم : لئن لقيت زيدا لتلقين معه الأسد ، ولئن سألته لتسألن منه البحر ، فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا ، وهو عينه ، هو الأسد والبحر ، لا أن هناك شيئا منفصلا عنه ؛ كقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( آل عمران : 190 ) فظاهر هذا أن في العالم من نفسه آيات ، وهو عينه ونفسه تلك الآيات .

وكقوله تعالى : واعلم أن الله عزيز حكيم ( البقرة : 260 ) وإنما هذا ناب عن قوله : واعلم أني عزيز حكيم .

ومنه قوله تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( ق : 37 ) .

[ ص: 496 ] وقوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ( الأحزاب : 21 ) .

وقوله : لهم فيها دار الخلد ( فصلت : 28 ) ليس المعنى أن الجنة فيها دار خلد وغير دار خلد ، بل كلها دار خلد فكأنك لما قلت : في الجنة دار الخلد ، اعتقدت أن الجنة منطوية على دار نعيم ودار أكل وشرب وخلد ، فجردت منها هذا الواحد ، كقوله :


وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل

وقوله : يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ( الأنعام : 95 ) على أحد التأويلات في الآية عن ابن مسعود : " هي النطفة تخرج من الرجل ميتة ، وهو حي ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة " قال ابن عطية في تفسيره هذه الآية : إن لفظة الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا إنما هو عبارة عن تغيير الحال ، كما تقول في صبي جيد البنية : يخرج من هذا رجل قوي .

وقد يحتمل قوله : ومخرج الميت من الحي ( الأنعام : 95 ) أي : الحيوان كله ميتة ، ثم يحييه ، قال : وهو معنى التجريد .

وذكر الزمخشري أن عمرو بن عبيد قرأ في قوله تعالى : فكانت وردة كالدهان ( الرحمن : 37 ) بالرفع بمعنى حصلت منها وردة ، قال : وهو من التجريد .

وقرأ علي وابن عباس في سورة مريم : " يرثني وارث من آل يعقوب " ( مريم : 6 ) قال ابن جني : هذا هو التجريد ، وذلك أنه يريد : وهب لي من لدنك وليا يرثني منه وارث من آل يعقوب ، وهو الوارث نفسه ، فكأنه جرد منه وارثا .

التالي السابق


الخدمات العلمية