صفحة جزء
قاعدة

فيما ورد في القرآن مجموعا ومفردا والحكم في ذلك .

فمنه أنه حيث ورد ذكر الأرض في القرآن فإنها مفردة كقوله تعالى : ( خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) ( الطلاق : 12 ) وحكمته أنها بمنزلة السفل والتحت ، ولكن وصف بها هذا المكان المحسوس ، فجرت مجرى امرأة زور وضيف فلا معنى لجمعهما كما لا يجمع الفوق والتحت ، والعلو والسفل ، فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو فجاز أن تثنى إذا ضممت إليها جزءا آخر .

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : طوقه من سبع أرضين فجمعها لما اعتمد الكلام على ذات [ ص: 8 ] الأرض ، وأثبتها على التفصيل والتعيين لآحادها دون الوصف بكونها تحت أو سفل في مقابلة علو ، وأما جمع السماوات ، فإن المقصود بها ذاتها دون معنى الوصف ، فلهذا جمعت جمع سلامة لأن العدد قليل ، وجمع القليل أولى به ، بخلاف الأرض فإن المقصود بها معنى التحت والسفل دون الذات والعدد .

وحيث أريد بها الذات والعدد أتي بلفظ يدل على التعدد كقوله تعالى : ( ومن الأرض مثلهن ) ( الطلاق : 12 ) .

وأيضا فإن الأرض لا نسبة إليها إلى السماوات وسعتها بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء ، فهي وإن تعددت كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس . وأيضا فالأرض هي دار الدنيا التي بالنسبة إلى الآخرة ، كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم ، فما يعلق بها هو مثال الدنيا ، والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها .

وأما السماوات فليست من الدنيا على أحد القولين ، فإذا أريد الوصف الشامل للسماوات وهو معنى العلو والفوق أفردته كالأرض ، بدليل قوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) ( الملك : 16 ) ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ) ( الملك : 17 ) فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل ، وليس المراد سماء معينة .

وكذا قوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ) ( يونس : 61 ) بخلاف قوله في سبأ : ( عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) ( الآية : 3 ) فإن قبلها ذكر الله سبحانه سعة علمه ، وأن له ما في السماوات وما في الأرض فاقتضى السياق أن يذكر سعة علمه ، وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السماوات كلها والأرض . ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس .

[ ص: 9 ] وقال السهيلي : لأن المخاطبين بالإفراد مقرون بأن الرزق ينزل من السحاب وهو سماء ، ولهذا قال في آخر الآية : ( فسيقولون الله ) ( يونس : 31 ) وهم لا يقرون بما نزل من فوق ذلك من الرحمة والرحمن وغيرها ، ولهذا قال في آية سبأ ( قل الله ) ( سبأ : 24 ) أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا القول ليعلم بحقيقته .

وكذا قوله : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ) ( الأنعام : 3 ) فإنها جاءت مجموعة لتعلق الظرف بما في اسم الله تبارك وتعالى من معنى الإلهية فالمعنى هو الإله المعبود في كل واحدة من السماوات ، فذكر الجمع هنا أحسن ، ولما خفي هذا المعنى على بعض المجسمة قال بالوقف على قوله : ( في السماوات ) ( الأنعام : 3 ) ثم يبتدئ بقوله : ( وفي الأرض ) ( الأنعام : 3 ) .

وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله : ( فورب السماء والأرض إنه لحق ) ( الذاريات : 23 ) أراد لهذين الجنسين أي رب كل ما علا وسفل . وجاءت مجموعة في قوله : ( سبح لله ما في السماوات والأرض ) ( الحديد : 1 ) في جميع السور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم .

ونظير هذا جمعها في قوله : ( وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) ( الأنبياء : 19 ) . وقوله : ( تسبح له السماوات السبع ) ( الإسراء : 44 ) أي تسبح بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها ولهذا صرح بالعدد بقوله : ( السبع ) .

وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) ( الذاريات : 22 ) فالـ ( رزق ) المطر ، و ( ما توعدون ) الجنة ، وكلاهما في هذه الجهة لا أنها في كل واحدة واحدة من السماوات ، فكان لفظ الإفراد أليق . وجاءت مجموعة في قوله : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) ( النمل : 65 ) لما كان المراد نفي علم [ ص: 10 ] الغيب عن كل من هو في واحدة واحدة من السماوات أتى بها مجموعة ، ولم يجئ في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت ، لما لم يكن المراد نزوله من ذاتها بل المراد الوصف .

فإن قيل : فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ) ( يونس : 31 ) وبين قوله في سورة سبأ : ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ) ( سبأ : 24 ) .

قيل : السياق في كل منهما مرشد إلى الفرق ، فإن الآيات التي في يونس سيقت للاحتجاج عليهم بما أقروا به من كونه تعالى هو رازقهم ، ومالك أسماعهم ، وأبصارهم ، ومدبر أمورهم بأن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم إذ فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره ، فكيف تعبدون معه غيره ! ولهذا قال بعده : ( فسيقولون الله ) ( يونس : 31 ) أي هم يقرون به ولا يجحدونه ، والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها ، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهي إليهم ، فأفردت لفظة السماء هنا لذلك .

وأما الآية التي في سبأ ، فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماء ، ولهذا أمر رسوله بأن يجيب ، ولم يذكر عنهم أنهم هم المجيبون ، فقال : ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ) ( سبأ : 24 ) ولم يقل : ( فسيقولون الله ) أي الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ، ومنافعه من السماوات .

ومنها ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة ، فحيث ذكرت في سياق الرحمة جاءت مجموعة كقوله تعالى : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) ( الروم : 48 ) . ( وأرسلنا الرياح لواقح ) ( الحجر : 22 ) .

( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) ( الروم : 46 ) .

[ ص: 11 ] وحيث ذكرت في سياق العذاب أتت مفردة كقوله تعالى : ( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات ) ( فصلت : 16 ) . ( فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ) ( الأحزاب : 9 ) ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ) ( الحاقة : 6 ) .

( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح ) ( إبراهيم : 12 ) . ( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) ( الذاريات : 41 ) .

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا والمعنى فيه أن رياح الرحمة مختلفة الصفات ، والماهيات ، والمنافع ، وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها ، فينشأ من بينهما ريح لطيفة ، تنفع الحيوان ، والنبات وكانت في الرحمة رياحا ، وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض ، ولا دافع ، ولهذا وصفها الله بالعقيم ، فقال : ( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) ( الذاريات : 41 ) أي تعقم ما مرت به . وقد اطردت هذه القاعدة إلا في مواضع يسيرة لحكمة .

فمنها قوله سبحانه في سورة يونس : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ) ( يونس : 22 ) فذكر ريح الرحمة بلفظ الإفراد لوجهين .

أحدهما : لفظي ، وهو المقابلة ، فإنه ذكر ما يقابلها ريح العذاب ، وهي لا تكون إلا مفردة ورب شيء يجوز في المقابلة ، ولا يجوز استقلالا نحو : ( ومكروا ومكر الله ) ( آل عمران : 54 ) .

الثاني : معنوي ، وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا [ ص: 12 ] باختلافها ، فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد ، فإن اختلفت عليها الرياح ، وتصادمت كان سبب الهلاك والغرق ، فالمطلوب هناك ريح واحدة ، ولهذا أكد هذا المعنى فوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون عاصفة ، بل هي ريح يفرح بطيبها .

ومنها قوله تعالى : ( إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ) ( الشورى : 33 ) وهذا أورده ابن المنير في كتابه على الزمخشري قال : الريح رحمة ونعمة ، وسكونها شدة على أصحاب السفن .

قال الشيخ علم الدين العراقي : وكذا جاء في القراءات السبع ( والله الذي أرسل الريح ) ( فاطر : 9 ) ( وهو الذي يرسل الريح ) ( الأعراف : 57 ) والمراد به الذي ينشر السحاب .

ومن ذلك جمع الظلمات والنور ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) ( البقرة : 257 ) . ولذلك جمع سبيل الباطل وأفرد سبيل الحق كقوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ( الأنعام : 153 ) .

[ ص: 13 ] والجواب في ذلك كله أن طريق الحق واحد ، وأما الباطل فطرقه متشعبة متعددة ، ولما كانت الظلم بمنزلة طريق الباطل ، والنور بمنزلة طريق الحق ، بل هما هما ، أفرد النور وجمع الظلمات ; ولهذا وحد الولي ، فقال : ( الله ولي الذين آمنوا ) ( البقرة : 257 ) لأنه الواحد الأحد ، وجمع أولياء الكفار لتعددهم ، وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ، ووحد النور وهو دين الحق .

ومن ذلك إفراد اليمين والشمال في قوله : ( عن اليمين وعن الشمال عزين ) ( المعارج : 37 ) وجمعها في قوله : ( وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ( الأعراف : 17 ) ولا سؤال فيه إنما السؤال في جمع أحدهما وإفراد الآخر ، كقوله تعالى : ( يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله ) ( النحل : 48 ) قال الفراء : كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلمة ، وإذا جمع ذهب إلى كلها ، والحكمة في تخصيص اليمين بالإفراد ما سبق فإنه لما كانت اليمين جهة الخير ، والصلاح ، وأهلها هم الناجون أفردت ، ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل ، وهم أصحاب الشمال جمعت في قوله : ( عن اليمين والشمائل ) ( النحل : 48 ) .

وفيه وجوه أخر .

أحدها : أن اليمين مقصود به الجمع أيضا ، فإن الألف واللام فيه للجنس ، فقام العموم مقام الجمع . قاله ابن عطية .

الثاني : أن اليمين فعيل ، وهو مخصوص بالمبالغة ، فسدت مبالغته مسد جمعه ، كما سد مسد الشبه قوله : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) ( ق : 17 ) قاله ابن بابشاذ .

الثالث : أن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول ، ثم يبدو كذلك ظلا [ ص: 14 ] واحدا من جهة اليمين ، ثم يأخذ في النقصان ، وإذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئا فشيئا . والثاني فيه غير الأول فكلما زاد فيه شيئا فهو غير ما كان قبله ، فصار كل جزء منه ظلا فحسن جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال . قاله الرماني وغيره . قال ابن بابشاذ : وإنما يصح هذا إذا كانا متوجهين نحو القبلة .

الرابع : إن اليمين يجمع على أيمن وأيمان ، فهو من أبنية جمع القلة غالبا ، والشمال يجمع على شمائل ، وهو جمع كثرة ، والموطن موطن تكثير ، ومبالغة ، فعدل عن جمع اليمين إلى الألف واللام الدالة على قصد التكثير . قاله السهيلي .

وأما إفرادها في قوله : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) ( الواقعة : 41 ) فلأن المراد أهل هذه الجهة ، ومصيرهم إلى جهة واحدة ، هي جهة أهل الشمال مستقر أهل النار فإنها من جهة أهل الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة .

وأما إفرادهما في قوله : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) ( ق : 17 ) فإن لكل عبد قعيدا واحدا عن يمينه وآخر شماله ، يحصيان عليه الخير والشر ، فلا معنى للجمع بينهما ، وهذا بخلاف قوله تعالى ذاكرا عن إبليس : ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ( الأعراف : 17 ) فإن الجمع هناك يقابله كثير مما يريد إغواءهم فجمع لمقابلة الجملة بالجملة المقتضي لتوزيع الأفراد على الأفراد .

ومنها حيث وقع في القرآن ذكر الجنة ، فإنها تجيء تارة مجموعة وتارة غير مجموعة ، والنار لم تقع إلا مفردة وفي ذلك وجهان .

أحدهما لما كانت الجنات مختلفة الأنواع حسن جمعها ، وإفرادها ، ولما كانت النار واحدة أفردت باعتبار الجنس ، ونظيره قوله تعالى : ( بأكواب وأباريق وكأس من معين ) ( الواقعة : 18 ) ولم يقل : وكئوس ، لما سنذكره .

الثاني : أنه لما كانت النار تعذيبا ، والجنة رحمة ناسب جمع الرحمة وإفراد [ ص: 15 ] العذاب ، نظير جمع الريح في الرحمة ، وإفرادها في العذاب .

وأيضا فالنار دار حبس والغاضب يجمع جماعة من المحبوسين في موضع واحد أنكد لعيشهم ، والكريم لا يترك ضيفه ، ولا سيما إذا كان للدوام ، إلا في دار مفردة مهيأة له وحده ، فالنار لكل مذنب ، ولكل مطيع جنة ، فجمع الجنان ، ولم يجمع النار .

ومنها جمع الآيات في موضع ، وإفرادها في آخر ، فحيث جمعت فلجمع الدلائل ، وحيث وحدت فلوحدانية المدلول عليه ، لما يخرج عن ذلك ، ولهذا قال في الحجر : ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) ( الآية : 75 ) ثم قال : ( إن في ذلك لآية للمؤمنين ) ( الآية : 77 ) فلما ذكر صفة المؤمنين بالوحدانية وحد الآية ، وليس لها نظير إلا في العنكبوت ، وهو قوله : ( خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية ) ( الآية : 44 ) .

ومنها مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة بالجمع ، وأخرى بالتثنية ، وأخرى بالإفراد لاختصاص كل مقام بما يقتضيه .

فالأول كقوله : ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب ) ( المعارج : 40 ) .

والثاني كقوله : ( رب المشرقين ورب المغربين ) ( الرحمن : 17 ) .

والثالث قوله : ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو ) ( المزمل : 9 ) فحيث جمع كان المراد أفقي المشرق ، والمغرب ، وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها ، وارتفاعها ، فإنها تبتدئ صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها ، فهذا مشرق صعودها وارتفاعها ، وينشأ منه فصلا الخريف ، والشتاء ، فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا ، ومشرق هبوطها بجملته مشرقا واحدا ومقابلهما مغربا .

وقيل : هو إخبار عن الحركات الفلكية ، متحركة بحركات متداركة لا تنضبط لخطة ، ولا تدخل تحت قياس ، لأن معنى الحركة انتقال الشيء من مكان إلى آخر ، وهذه صفة الأفلاك ، قال تعالى : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) ( يس : 40 ) الآية

فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ بالإفراد ، والتثنية ، والجمع ، وقد أجرى الله العادة أن القمر [ ص: 16 ] يطلع في كل ليلة من مطلع غير الذي طلع فيه بالأمس ، وكذلك الغروب ، فهي من أول فصل الصيف في تلك المطالع ، والمغارب ، إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال ، ومغربه عند أول فصل الخريف ، ثم تأخذ جنوبا في كل يوم في مطلع ومغرب إلى أن تنتهي إلى آخر مثلها الذي يقدر الله لها عند أول فصل الشتاء ، ثم ترجع كذلك إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال الربيعي ومغربه ، وهكذا أبدا . فحيث أفرد الله له لفظ المشرق ، والمغرب أراد به الجهة نفسها التي تشتمل الواحدة على تلك المطالع جميعها ، والأخرى على تلك المغارب من غير نظر إلى تعددها وحيث جيء بلفظ الجمع المراد به كل فرد منها بالنسبة إلى تعدد تلك المطالع والمغارب ، وهي في كل جهة مائة وثمانون يوما ، وحيث كان بلفظ التثنية فالمراد بأحدهما الجهة التي تأخذ منها الشمس من مطلع الاعتدال إلى آخر المطالع ، والمغارب الجنوبية ، وهما بهذا الاعتبار مشرقان ومغربان .

وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع منه فأبدى فيه بعض المتأخرين معاني لطيفة ، فقال : أما ما ورد مثنى في سورة الرحمن ، فلأن سياق السورة سياق المزدوجين .

الثاني : فإنه سبحانه أولا ذكر نوعي الإيجاد ، وهما الخلق والتعليم ، ثم ذكر سراجي العالم ومظهر نوره ، وهما الشمس والقمر ، ثم ذكر نوعي النبات ، فإن منه ما هو على ساق ومنه ما انبسط على وجه الأرض ، وهما النجم والشجر . ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة والأرض ، ثم أخبر أنه رفع هذه ووضع هذه ، ووسط بينهما ذكر الميزان ، ثم ذكر العدل ، والظلم في الميزان ، فأمر بالعدل ونهى عن الظلم ، ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض ، وهما الجنوب ، ثم ذكر نوعي المكلفين وهما نوع الإنسان ، والجان ، ثم ذكر نوعي المشرق والمغرب ، ثم ذكر بعد ذلك البحر من الملح ، والعذب ، فلهذا حسن تثنية المشرق ، والمغرب في هذه السورة .

وإنما أفردا في سورة المزمل لما تقدم من ذكر الليل والنهار ، فإنه سبحانه أمر نبيه [ ص: 17 ] بقيام الليل ، ثم أخبر أنه له في النهار سبحا طويلا ، فلما تقدم ذكر الليل والنهار ، تممه بذكر المشرق والمغرب اللذين هما مظهر الليل والنهار ، فكان ورودهما مفردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع ; لأن ظهور الليل والنهار فيهما واحد .

وإنما جمعا في سورة المعارج في قوله ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ) ( المعارج : 40 - 41 ) لأنه لما كان هذا القسمفي سعة مشارق ربوبيته ، وإحاطة قدرته ، والمقسم عليه إذهاب هؤلاء ، والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمنها انتقال الشمس التي في أحد آياته العظيمة ، ونقله سبحانه لها ، وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب ، فمن فعل هذا كيف يعجزه أن يبدل هؤلاء ، وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم .

وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهود ، وقد جعله الله بحكمته سببا لتبدل أجسام النبات ، وأحوال الحيوانات ، وانتقالها من حال إلى حال ، ومن برد إلى حر ، وصيف ، وشتاء ، وغير ذلك بسبب اختلاف مشارق الأرض ومغاربها ، فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه من ذلك على تبديل من هو خير .

وأكد هذا المعنى بقوله : ( وما نحن بمسبوقين ) ( المعارج : 41 ) فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظ الجمع .

وأما جمعهما في سورة الصافات في قوله : ( ورب المشارق ) ( الصافات : 5 ) لما جاءت مع جملة المربوبات المتعددة ، وهي السماوات والأرض ، وما بينهما ، وكان الأحسن مجيئها مجموعة لتنتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد .

ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال ذلك ، فإن المشارق مظهر الأنوار ، وأسباب لانتشار الحيوان ، وحياته ، وتصرفه في معاشه ، وانبساطه فهو إنشاء شهود ، فقدمه بين يدي الرد على مبدأ البعث ، فكان الاقتصار على ذكر المشارق ههنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب فتأمل هذه المعاني الكاملة ، والآيات الفاضلة التي ترقص القلوب لها طربا ، وتسيل الأفهام منها رهبا .

[ ص: 18 ] وحيث ورد البار مجموعا في صفة الآدميين قيل : أبرار ، كقوله : ( إن الأبرار لفي نعيم ) ( الانفطار : 13 ) ، وقال في صفة الملائكة : ( بررة ) ( عبس : 16 ) قال الراغب : فخص الملائكة بها من حيث أنه أبلغ من أبرار جمع بر ، وأبرار جمع بار ، وبر أبلغ من بار ، كما إن عدلا أبلغ من عادل .

وهذا بناء على رواية في تفضيل الملائكة على البشر .

ومنها أن الأخ يطلق على أخي النسب ، وأخي الصداقة ، والدين ، ويفترقان في الجمع فيقال في النسب : إخوة ، وفي الصداقة : إخوان ، كما قيل : ( إخوانا على سرر متقابلين ) ( الحجر : 47 ) .

وقال : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) ( النساء : 11 ) قاله جماعة من أهل اللغة ، منهم ابن فارس ، وحكاه أبو حاتم عن أهل البصرة ، ثم رده بأنه يقال للأصدقاء والنسب إخوة ، وإخوان ، قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) ( الحجرات : 10 ) لم يعن النسب ، وقال : ( أو بيوت إخوانكم ) ( النور : 61 ) .

وهذا في النسب ، ونظيره قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) ( النور : 31 ) إلى قوله : ( أو بني أخواتهن ) ( النور : 31 ) وهذا هو الصواب واشتقاق اللفظين من تآخيت الشيء ، فسمى الأخوان أخوين لأن كل واحد منهما يتأخى ما تأخاه الآخر أي يقصده .

قال ابن السكيت : ويقال : أخوة بضم الهمزة .

ومنها إفراد العم ، والخال .

ومنها إفراد السمع وجمع البصر كقوله تعالى : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ) ( البقرة : 7 ) لأن السمع غلب عليه المصدرية فأفرد ، بخلاف البصر فإنه اشتهر في الجارحة ، وإذا أردت المصدر قلت : أبصر إبصارا [ ص: 19 ] ولهذا لما استعمل الحاسة جمعه بقوله : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم ) ( البقرة : 19 ) وقال : ( وفي آذاننا وقر ) ( فصلت : 5 ) .

وقيل : في الكلام حذف مضاف ، أي على حواس سمعهم .

وقيل : لأن متعلق السمع الأصوات وهي حقيقة واحدة ، ومتعلق البصر الألوان ، والأكوان ، وهي حقائق مختلفة ، فأشار في كل منهما إلى متعلقه .

ويحتمل أن يكون البصر الذي هو نور العين معنى يتعدد بتعدد المقلتين ، ولا كذلك السمع ، فإنه معنى واحد ، ولهذا إذا غطيت إحدى العينين ينتقل نورها إلى الأخرى بخلاف السمع ، فإنه ينقص بنقصان أحدهما .

وقال الزمخشري في قوله تعالى : ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) ( البقرة : 19 ) أجرى الرعد والبرق على أصلهما مصدرين فأفردهما دون الظلمات ، يقال : رعدت السماء رعدا ، وبرقت برقا ، والحق إن الرعد والبرق مصدران فأفردهما ، أو هما مسببان عن سبب لا يختلف ، بخلاف الظلمة فإن أسبابها متعددة .

ومنها حيث ذكر الكأس في القرآن كان مفردا ، ولم يجمع في قوله تعالى : ( بأكواب وأباريق وكأس ) ( الواقعة : 18 ) ولم يقل : وكئوس ، لأن الكأس إناء فيه شراب فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس ، بل قدح . والقدح إذا جعل فيه الشراب فالاعتبار للشراب لا لإنائه لأن المقصود هو المشروب ، والظرف اتخذ للآلة ، ولولا الشراب ، والحاجة إلى شربه لما اتخذ ، والقدح مصنوع والشراب جنس ، فلو قال : كئوس ، لكان اعتبر حال القدح ، والقدح تبع ، ولما لم يجمع اعتبر حال الشراب ، وهو أصل ، واعتبار الأصل أولى ، فانظر كيف اختار الأحسن من الألفاظ .

وكثير من الفصحاء قالوا : دارت الكئوس ، ومال الرءوس ، فدعاهم السجع إلى اختيار غير الأحسن ، فلم يدخل كلامهم في حد الفصاحة ، والذي يدل على ما ذكرنا أن الله تعالى لما ذكر الكأس ، واعتبر الأصل قال ( وكأس من معين ) ( الواقعة : 18 ) فذكر الشراب .

[ ص: 20 ] وحيث ذكر المصنوع ، ولم يكن في اللفظ دلالة على الشراب جمع ، فقال : ( بأكواب وأباريق ) ( الواقعة : 18 ) ثم ذكر ما يتخذ منه فقال : ( من فضة ) ( الإنسان : 15 ) .

ومنها إفراد الصديق ، وجمع الشافعين في قوله تعالى : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) ( الشعراء : 100 - 101 ) وحكمته كثرة الشفعاء في العادة ، وقلة الصديق قال الزمخشري :

ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم ، نهضت جماعة وافرة من أهل بلده بشفاعته رحمة له ، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة ، وأما الصديق فأعز من بيض الأنوق . وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق ، فقال اسم لا معنى له . ويجوز أن يريد بالصديق الجمع .

وقال السهيلي في الروض الأنف : إذا قلت : عبيد ونخيل فهو اسم يتناول الصغير ، والكبير من ذلك الجنس ، قال الله تعالى : ( وزرع ونخيل ) ( الرعد : 4 ) وقال : ( وما ربك بظلام للعبيد ) ( فصلت : 46 ) وحين ذكر المخاطبين منهم قال ( العباد ) ( يس : 30 ) ، وكذلك قال حين ذكر التمر من النخيل ( والنخل باسقات ) ( ق : 10 ) ، و ( أعجاز نخل منقعر ) ( القمر : 10 ) ، فتأمل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة ، واختيار الكلام .

وأما في مذهب اللغة ، فلم يفرقوا هذا التفريق ، ولا نبهوا على هذا المعنى الدقيق .

ومنها اختلاف الجمعين في قوله تعالى : ( أيود أحدكم أن تكون له جنة ) ( البقرة : 266 ) إلى قوله : ( وله ذرية ضعفاء ) ( البقرة : 266 ) . وقال : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ) ( النساء : 9 ) .

فأما وجه التفرقة بين الجمع في الموضعين وكذلك قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) ( النور : 31 ) إلى قوله ( أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن ) [ ص: 21 ] فخالف بين الجمعين في الأبناء . وفي سورة الأحزاب ( ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ) ( الأحزاب : 55 ) .

ومنه قوله تعالى : ( أنبتت سبع سنابل ) ( البقرة : 261 ) وفي موضع آخر : ( وسبع سنبلات ) ( يوسف : 43 ) ، فالمعدود واحد . وقد اختلف تفسيره ، فالأول جاء بصيغة جمع الكثرة ، والثاني بجمع القلة . وقد قيل في توجيهه : إن آية البقرة سيقت في بيان المضاعفة والزيادة ، فناسب صيغة جمع الكثرة ، وآية يوسف لحظ فيها المرئي ، وهو قليل ، فأتى بجمع القلة ، ليصدق اللفظ المعنى

التالي السابق


الخدمات العلمية