صفحة جزء
[ ص: 23 ] ( قاعدة في الضمائر )

وقد صنف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين ، وفيه مباحث :

الأول للعدول إلى الضمائر أسباب :

منها - وهو أصل وصفها - للاختصار ولهذا قام قوله تعالى : ( أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) ( الأحزاب : 35 ) مقام خمسة وعشرين كلمة لو أتى بها مظهرة . وكذا قوله تعالى : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) ( النور : 31 ) نقل ابن عطية عن مكي أنه ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها ، وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميرا . وقد قيل : في آية الكرسي أحد وعشرون اسما ، ما بين ضمير وظاهر .

ومنها الفخامة بشأن صاحبه ، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ، كقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ( القدر : 1 ) يعني القرآن ، وقوله : ( فإنه نزله على قلبك ) ( البقرة : 97 ) ومنه ضمير الشأن .

ومنها التحقير كقوله تعالى : ( إنه لكم عدو مبين ) ( البقرة : 168 ) يعني الشيطان . وقوله : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) ( الأعراف : 27 ) . ( إنه ظن أن لن يحور ) ( الانشقاق : 14 ) .

الثاني : الأصل أن يقدم ما يدل عليه الضمير ، بدليل الأكثرية ، وعدم التكليف ، ومن ثم ورد قوله تعالى : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) ( البقرة : 282 ) وتقدم المفعول الثاني في قوله : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم ) ( الأنعام : 112 ) فأخر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربه .

وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام :

أحدها وهو الأصل أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة ، نحو : ( وعصى آدم ربه فغوى ) ( طه : 121 ) . ( ونادى نوح ابنه ) ( هود : 42 ) .

[ ص: 24 ] ( إذا أخرج يده لم يكد يراها ) ( النور : 40 ) .

وقوله : ( يستمعون القرآن فلما حضروه ) ( الأحقاف : 29 ) .

الثاني : أن يعود على مذكور في سياق الكلام مؤخر في اللفظ مقدم في النية كقوله تعالى : ( فأوجس في نفسه خيفة ) ( طه : 67 ) . وقوله : ( ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) ( القصص : 78 ) . وقوله : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) ( الرحمن : 39 ) .

الثالث : أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمن كقوله تعالى : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ( المائدة : 8 ) فإنه عائد على العدل المفهوم من اعدلوا . وقوله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ( الأنعام : 121 ) فالضمير يرجع للأكل لدلالة تأكلوا . وقوله : ( وإذا حضر القسمة ) ( النساء : 8 ) إلى قوله ( فارزقوهم منه ) ( النساء : 8 ) أي المقسوم ، لدلالة القسمة عليه ، ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان ، والأقربون لأنه مذكور وإن كان بعيدا .

الرابع : أن يدل عليه بالالتزام ، كإضمار النفس في قوله تعالى : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) ( الواقعة : 83 ) ( كلا إذا بلغت التراقي ) ( القيامة : 26 ) أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم ، والتراقي عليها . وقوله : ( حتى توارت بالحجاب ) ( ص : 22 ) يعني الشمس .

وقيل : بل سبق ما يدل عليها وهو العشي ; لأن العشي ما بين زوال الشمس وغروبها ، والمعنى إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب . وقيل : فاعل توارت ضمير الصافنات . ذكره ابن مالك ، وابن العربي في الفتوحات ، [ ص: 25 ] ويرجحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها ، وسنذكره في الثامن .

وكذا قوله : ( فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ) ( العاديات : 4 - 5 ) قيل : الضمير لمكان " الإغارة " بدلالة " والعاديات " عليه ، فهذه الأفعال إنما تكون لمكان .

وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ( القدر : 1 ) أضمر القرآن لأن الإنزال يدل عليه .

وقوله تعالى : ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) ( البقرة : 178 ) فـ " عفي " يستلزم عافيا إذ أغنى ذلك عن ذكره ، وأعيد الهاء من ( إليه ) عليه .

الخامس : أن يدل عليه السياق فيضمر ثقة بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله تعالى : ( ما ترك على ظهرها من دابة ) ( فاطر : 45 ) وقوله : ( كل من عليها فان ) ( الرحمن : 26 ) .

وجعل ابن مالك الضمير للدنيا ، وقال : وإن لم يتقدم لها ذكر لكن تقدم ذكر بعضها ، والبعض يدل على الكل .

وقوله تعالى : ( مستكبرين به سامرا تهجرون ) ( المؤمنون : 67 ) يعني القرآن ، أو المسجد الحرام . وقوله : ( قال هي راودتني عن نفسي ) ( يوسف : 26 ) .

( ياأبت استأجره ) ( القصص : 26 ) . ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس ) ( النساء : 11 ) الضمير يعود على الميت ، وإن لم يتقدم له ذكر إلا أنه لما قال : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( النساء : 11 ) علم أن ثم ميتا يعود الضمير عليه . وقوله : ( وإذا حضر القسمة ) ( النساء : 8 ) ثم قال : ( فارزقوهم منه ) ( النساء : 8 ) أي من الموروث ، وهذا وجه آخر غير ما سبق .

وقوله : ( وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها ) ( الجاثية : 9 ) ، ولم يقل : " اتخذه " ردا للضمير إلى " شيئا " لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله بل كان إذا سمع [ ص: 26 ] بعض آيات الله استهزأ بجميعها . وقيل : شيئا بمعنى الآية لأن بعض الآيات آية .

وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له ، كقوله : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان ) ( يس : 8 ) فأعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال ، وأغنى ذكر الأغلال عن ذكرها . ومثله قوله تعالى : ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ) ( فاطر : 11 ) أي من عمر غير المعمر فأعيد الضمير على غير المعمر لأن ذكر المعمر يدل عليه لتقابلهما فكان يصاحبه الاستحضار الذهني .

وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم له كقوله تعالى : ( فإن كن نساء ) ( النساء : 11 ) بعد قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( النساء : 11 ) .

وقوله : ( وبعولتهن أحق بردهن ) ( البقرة : 28 ) فإنه عائد على المطلقات مع أن هذا خاص بالرجعى ، وهل يقتضي ذلك تخصيص الأول ؟ فيه خلاف أصولي ، وقوله : ( ولا ينفقونها في سبيل الله ) ( التوبة : 34 ) فإن الفضة بعض المذكور فأغنى ذكرها عن ذكر الجميع حتى كأنه قال : ( والذين يكنزون ) ( التوبة : 34 ) أصناف ما يكنز .

وقد يعود على اللفظ الأول دون معناه كقوله تعالى : ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ) ( فاطر : 11 ) وقد سبق فيه وجه آخر .

وقوله : ( ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ) ( السجدة : 23 ) على أحد الأقوال .

ومما يتخرج عليه : ( وبعولتهن أحق بردهن ) ( البقرة : 228 ) ويستراح من إلزام تخصيص الأول .

وقد يعود على المعنى كقوله في آية الكلالة : ( فإن كانتا اثنتين ) ( النساء : 176 ) ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من كانتا ، قال الأخفش : إنما يثنى [ ص: 27 ] لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع فثنى الضمير الراجع إليها حملا على المعنى ، كما يعود الضمير جمعا في " من " حملا على معناها . وقال الفارسي : إنما جازت من حيث كان يفيد العدد مجردا من الصغير والكبير .

السادس : ألا يعود على مذكور ، ولا معلوم بالسياق ، أو غيره ، وهو الضمير المجهول الذي يلزمه التفسير بجملة ، أو مفرد ، فالمفرد في نعم ، وبئس ، والجملة ضمير الشأن ، والقصة ، نحو : هو زيد منطلق ، وكقوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) أي الشأن الله أحد . وقوله : ( لكنا هو الله ربي ) ( الكهف : 38 ) . وقوله : ( أنا الله ) ( طه : 14 ) . وقوله : ( فإنها لا تعمى الأبصار ) ( الحج : 46 ) .

وقد يكون مؤنثا إذا كان عائده مؤنثا كقوله تعالى : ( إن هي إلا حياتنا الدنيا ) ( الأنعام : 29 ) وأما قوله تعالى : ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم ) ( طه : 74 ) فذكر الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة لأنها في حكم الفضلة ، إذ المعنى من يأت ربه مجرما يجزه جهنم .

( تنبيه ) ، والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب ، والمتكلم ، والمخاطب ، قال تعالى : ( هذا هو الحق ) ( الأنفال : 32 ) ( كنت أنت الرقيب ) ( المائدة : 17 ) ( إن ترني أنا أقل منك مالا ) ( الكهف : 39 ) ويكون له محل من الإعراب وضمير الشأن لا يكون إلا غائبا ، ويكون مرفوع المحل ومنصوبه قال تعالى : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) ( وأنه لما قام عبد الله ) ( الجن : 19 ) .

البحث الثالث : قد يعود على لفظ شيء والمراد به الجنس من ذلك الشيء ، كقوله تعالى : ( وأتوا به متشابها ) ( البقرة : 25 ) فإن الضمير في " به " يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعا لأن قوله : ( هذا الذي رزقنا من قبل ) مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين . قال الزمخشري : ونظيره ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) ( النساء : 135 ) أي بجنس الفقير والغني لدلالة قوله : ( غنيا أو فقيرا ) على الجنسين ولو رجع إلى المتكلم به لوحده .

[ ص: 28 ] البحث الرابع : قد يذكر شيئان ويعاد الضمير على أحدهما ، ثم الغالب كونه للثاني كقوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ) ( البقرة : 45 ) فأعاد الضمير للصلاة لأنها أقرب ، وقوله : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ) ( يونس : 5 ) والأصل " قدرهما " لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين : قربه من الضمير ، وكونه هو الذي يعلم به الشهور ، ويكون به حسابها .

وقوله : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) ( التوبة : 34 ) أعاد الضمير على الفضة لقربها . ويجوز أن يكون إلى المكنوز وهو يشملها . وقوله : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ( التوبة : 62 ) أراد يرضوهما ، فخص الرسول بالعائد لأنه هو داعي العباد إلى الله ، وحجته عليهم ، والمخاطب لهم شفاها بأمره ونهيه ، وذكر الله تعالى في الآية تعظيما ، والمعنى تام بذكر الرسول وحده كما قال تعالى : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ) ( النور : 48 ) فذكر الله تعظيما ، والمعنى تام بذكر رسوله . ومثله قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ) ( الأنفال : 20 ) .

وجعل منه ابن الأنباري ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ) ( النساء : 112 ) أعاد الضمير للإثم لقربه ، ويجوز رجوعه إلى الخطيئة والإثم على لفظها ، بتأويل : ومن يكسب إثما ثم يرم به .

وقال ابن الأنباري : ولم يؤثر الأول بالعائد في القرآن كله إلا في موضع واحد ، وهو قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) ( الجمعة : 11 ) معناه انفضوا إليهما ، فخص التجارة بالعائد لأنها كانت سبب الانفضاض عنه وهو يخطب .

قال : فأما كلام العرب فإنها تارة تؤثر الثاني بالعائد ، وتارة الأول ، فتقول : إن عبدك وجاريتك عاقلة ، وإن عبدك وجاريتك عاقل . قلت : ليس من هذا قوله تعالى : [ ص: 29 ] ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) ( الجمعة : 11 ) . وقوله : ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ) ( النساء : 118 ) لأن الإخبار عن أحدهما لوجود لفظه ، أو هي لإثبات أحد المذكورين ، فمن جعله نظير هذا فلم يصب إلا أن يدعي أن ( أو ) بمعنى الواو .

وفي هاتين الآيتين لطيفة ، وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة ، وإن كانت أبعد ومؤنثة ، لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله من اللهو ، بدليل أن المشتغلين بها أكثر من اللهو ، ولأنها أكثر نفعا من اللهو ، أو لأنها كانت أصلا ، واللهو تبعا ، لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية ، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكر .

الخامس : قد يذكر شيئان ، ويعود الضمير جمعا ; لأن الاثنين جمع في المعنى ، كقوله تعالى : ( وكنا لحكمهم شاهدين ) ( الأنبياء : 78 ) يعني حكم سليمان وداود . وقوله : ( أولئك مبرءون مما يقولون ) ( النور : 26 ) فأوقع أولئك وهو جمع على عائشة وصفوان بن المعطل .

البحث السادس : قد يثنى الضمير ، و يعود على أحد المذكورين كقوله تعالى : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) ( الرحمن : 22 ) قالوا : وإنما يخرج من أحدهما . وقوله : ( نسيا حوتهما ) ( الكهف : 61 ) وإنما نسيه الفتى .

السابع : قد يجيء الضمير متصلا بشيء وهو لغيره كقوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) ( المؤمنون : 12 ) يعني آدم ، ثم قال : ( ثم جعلناه نطفة في قرار ) [ ص: 30 ] ( المؤمنون : 13 ) فهذا لولده لأن آدم لم يخلق من نطفة .

ومنه قوله تعالى : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( المائدة : 101 ) قيل : نزلت في ابن حذافة حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : من أبي ؟ قال : حذافة ، فكان نسبه ، فساءه ذلك ، فنزلت ( لا تسألوا عن أشياء ) ( المائدة : 101 ) وقيل : نزلت في الحج حين قالوا : أفي كل عام مرة ؟ ثم قال : ( وإن تسألوا عنها ) ( المائدة : 101 ) يريد إن تسألوا عن أشياء أخر من أمور دينكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال : ( قد سألها قوم من قبلكم ) ( المائدة : 102 ) أي طلبها والسؤال عنها طلب ، فليست الهاء راجعة لأشياء متقدمة ، بل لأشياء أخر مفهومة من قوله : ( لا تسألوا عن أشياء ) ( المائدة : 101 ) [ ص: 31 ] ويدل على ما ذكرنا أنه لو كان الضمير عائدا على أشياء مذكورة لتعدى إليها بـ ( عن ) لا بنفسه ولكنه مفعول مطلق لا مفعول به .

وقوله تعالى : ( هو سماكم المسلمين من قبل ) ( الحج : 78 ) يتبادر إلى الذهن أن الضمير في قوله : ( هو ) عائد لإبراهيم عليه السلام ; لأنه أقرب المذكورين ، وهو مشكل لا يستقيم لأن الضمير في قوله : ( وفي هذا ) راجع للقرآن ، وهو لم يكن في زمن إبراهيم ولا هو قاله .

والصواب أن الضمير راجع إلى الله سبحانه يعني ( سماكم المسلمين من قبل ) ( الحج : 78 ) يعني في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلكم ، وفي هذا الكتاب الذي أنزل عليكم وهو القرآن .

والمعنى جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وهو سماكم المسلمين من قبل ، وفي هذا الكتاب لتكونوا ، أي سماكم وجعلكم مسلمين لتشهدوا على الناس يوم القيامة .

وقوله : ( ملة أبيكم إبراهيم ) ( الحج : 78 ) منصوب بتقدير اتبعوا ، لأن هذا الناصب نصبه قوله : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) ( الحج : 78 ) لأن الجهاد من ملة إبراهيم .

وفي سورة " يس " موضعان توهم فيهما كثير من الناس .

أحدهما قوله : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ) ( يس : 37 ) فقد يتوهم أن الضمير في " هم " راجع إلى الليل والنهار بناء على أن أقل الجمع اثنان ، وهو فاسد لوجهين ، أحدهما : أن النهار ليس مظلما ، والثاني : أن كون أقل الجمع اثنان مذهب مرجوح ، إنما الضمير راجع إلى الكفار الذين يحتج عليهم بالآيات ، و ( مظلمون ) داخلو الظلام ، كقولك : " قوم مصبحون " ، و " ممسون " إذا دخلوا في هذه الأشياء .

والثاني قوله تعالى : ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) ( يس : 81 ) يظن بعضهم أن معناه مثل السماوات والأرض ، وهو فاسد لوجهين :

أحدهما : أنهم أنكروا إعادة السماوات والأرض حتى يدل على إنكارهم إعادتهما بابتدائهما ، [ ص: 32 ] وإنما أنكروا إعادة أنفسهم ، فكان الضمير راجعا إليهم ، ليتحقق حصول الجواب لهم والرد عليهم .

الثاني : لتبين المراد في قوله : ( ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ) ( الأحقاف : 33 ) .

فإن قيل : إنما أثبت قدرته على إعادة مثلهم لا على إعادتهم أنفسهم ، فلا دلالة فيه عليهم .

قلنا : المراد بمثلهم " هم " كما في قوله : ( ليس كمثله شيء ) ( الشورى : 11 ) وقولهم : مثلي لا يفعل كذا ، أي أنا ، وبدليل الآية الأخرى .

وقوله : ( والعمل الصالح يرفعه ) ( فاطر : 10 ) قد يتوهم عوده على الله ، وليس كذلك ، وإلا لنصب العمل كما تقول : قام زيد وعمرا يضربه ، وإنما الفاعل في يرفعه عائد إلى العمل والهاء للكلم .

قال الفارسي في التذكرة : الضمير المنصوب في " يرفعه " عائد للكلم ، لأن الكلم جمع كلمة ، قال : كلم كالشجر في أنه قد وصف بالمفرد في قوله : ( من الشجر الأخضر ) ( يس : 80 ) وكذلك وصف الكلم بالطيب ، ولو كان الضمير المنصوب في " يرفعه " عائدا إلى العمل لكان منصوبا في هذا الوجه ، وما جاء التنزيل عليه من نحو . ( والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) ( الإنسان : 31 ) . والضمير المرفوع في " يرفعه " عائد إلى العمل ، فلذلك ارتفع العمل ، ولم يحمل على قوله : " يصعد " ، ويضمر له فعل ناصب ، كما أضمرت لقوله : ( والظالمين ) والمعنى : يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ، ومعنى " يرفع العمل " أنه لا يحبط ثوابه فيرفع لصاحبه ، ويثاب [ ص: 33 ] عليه ، وليس كالعمل السيئ الذي يقع معه الإحباط فلا يرفع إلى الله سبحانه .

الثامن : إذا اجتمع ضمائر فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف ، ولهذا لما جوز بعضهم في قوله تعالى : ( أن اقذفيه في التابوت ) إلخ أن الضمير في ( فاقذفيه في اليم ) ( طه : 39 ) للتابوت وما بعده ، وما قبله لموسى عابه الزمخشري ، وجعله تنافرا ، ومخرجا للقرآن عن إعجازه ، فقال : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع بعضها إليه ، وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم .

فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت ، وكذلك الملقى إلى الساحل .

قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت ; حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو قوام إعجاز القرآن ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر . انتهى ولا مزيد على حسنه .

وقال في قوله : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه ) ( الفتح : 9 ) الضمائر لله عز وجل ، والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ، ومن فرق الضمائر فقد أبعد .

أي فقد قيل : إنها للرسول إلا الأخير ، لكن قد يقتضي المعنى التخالف ، كما في قوله تعالى : ( ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) ( الكهف : 22 ) الهاء والميم في فيهم لأصحاب الكهف ، والهاء والميم في منهم لليهود ، قاله ثعلب ، والمبرد .

وقوله تعالى : ( والذين هم بربهم لا يشركون ) ( المؤمنون : 59 ) بعد قوله : ( إنما سلطانه ) ( النحل : 100 ) .

[ ص: 34 ] وقوله : ( وما بلغوا معشار ما آتيناهم ) ( سبأ : 25 ) .

وقوله : ( وعمروها أكثر مما عمروها ) ( الروم : 9 ) أي عمروا الأرض الذين كانوا قبل قريش أكثر مما عمرتها قريش .

وقوله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ( التوبة : 40 ) الآية فيها اثنا عشر ضميرا ، خمسة للنبي صلى الله عليه وسلم وله . . . . والثالث ضمير ( في الغار ) لأنه يتعلق باستقرار محذوف ، فيحتمل ضميرا ، والرابع ( صاحبه ) ، والخامس ( لا تحزن ) ، والسادس ( معنا ) ، والسابع في ( عليه ) على قول الأكثر فيما نقله السهيلي ، لأن السكينة على النبي صلى الله عليه وسلم دائما لأنه كان قد علم أنه لا يضره شيء ، إذ كان خروجه بأمر الله .

وأما قوله : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله ) ( التوبة : 26 ) فالسكينة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لأنه خاف على المسلمين ، ولم يخف على نفسه ، فنزلت عليه السكينة من أجلهم لا من أجله .

وأما قوله تعالى : ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) ( يوسف : 42 ) قيل : الضميران عائدان على يوسف ، أي فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر ربه تعالى ، وقيل : يعودان على الفتى الذي ظن يوسف أنه ناج ، فالمعنى أن يوسف قال للناجي : ذكر الملك بأمري .

ورجح ابن السيد هذا لقوله تعالى : ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ) ( يوسف : 45 ) أي بعد حين .

[ ص: 35 ] وفي قراءة ابن عامر بعد " أمه " بالتخفيف ، أي نسيان ، وإلا لم يكن ليذكر تذكر الفتى بعد النسيان ، والذكر على هذا يحتمل وجهين : أن يكون بمعنى التذكير ، ويكون مصدر ذكرته ذكرا ، فالتقدير : فأنساه الشيطان ذكره عند ربه ، فأضاف الذكر إلى الرب ، وهو في الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف ، وجاز ذلك لملاءمته بينهما .

وقد يخالف بين الضمائر حذرا من التنافر كقوله تعالى : ( منها أربعة حرم ) ( التوبة : 36 ) كما عاد الضمير على الاثني عشر ، ثم قال : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ( التوبة : 36 ) لما أعاده على " أربعة " وهو جمع قلة .

وجوز بعضهم عوده على الاثني عشر أيضا ، بل هو الصواب لأنه لا يجوز أن ينهى عن الظلم في الأربعة ، ويبيح الظلم في الثمانية بل ترك الظلم في الكل واجب .

قلت : لكن يجوز التنصيص على أفضلية الحرم ، فإن الظلم قبيح مطلقا ، وفيهن أقبح فالظاهر الأول .

التاسع قد يسد مسد الضمير أمور :

منها الإشارة كما في قوله تعالى : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ( الإسراء : 36 ) .

ومنها الألف واللام كقوله تعالى : ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) ( النازعات : 37 إلى 41 ) .

وقوله : ( نجب دعوتك ونتبع الرسل ) ( إبراهيم : 44 ) أي رسلك .

وقوله : ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) ( يوسف : 90 ) أصل الكلام " أجره وصبره " ، ولما كان المحسنون جنسا ، و ( من يتق ويصبر ) واحد تحته أغنى عمومه من عود الضمير إليه .

[ ص: 36 ] وقول الكوفيين : الألف واللام عوض من الضمير .

قال ابن مالك : وعليه يحمل قوله : ( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) ( ص : 50 ) وزعم أبو علي ، والزمخشري أن الأبواب بدل من المستكن في ( مفتحة ) .

وهذا تكلف فوجب أن تكون " الأبواب " مرتفعة ب ( مفتحة ) المذكور ، أو بمثله مقدرا . وقد صح أن مفتحة صالح للعمل في الأبواب فلا حاجة إلى إبدال أيضا .

ومنها الاسم الظاهر ، بأن يكون المقام يقتضي الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر ، وقد سبق الكلام عليه في أبواب التأكيد .

العاشر : الأصل في الضمير عوده إلى أقرب مذكور ، ولنا أصل آخر وهو أنه إذا جاء مضاف ومضاف إليه ، وذكر بعدهما ضمير عاد إلى المضاف لأنه المحدث عنه دون المضاف إليه ، نحو : لقيت غلام زيد فأكرمته ، فالضمير للغلام ومنه قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ( إبراهيم : 34 ) .

وعند التعارض راعى ابن حزم والماوردي الأصل الأول فقالا : إن الضمير في قوله : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ( الأنعام : 45 ) يعود على الخنزير دون لحمه لقربه ، وقواه بعض المتأخرين لأن الضمير للمضاف دون المضاف إليه ليس بأصل مطرد ، فقد يعود إلى المضاف إليه كقوله تعالى : ( واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ) ( النحل : 114 ) .

وكذا الصفة فإنها كما في قوله تعالى : ( إني أرى سبع بقرات سمان ) ( يوسف : 43 ) .

وللجمهور أن يقولوا : وكذا عوده للأقرب ليس بمطرد ، فقد يخرج عن الأصل لدليل ، وإذا تعارض الأصلان تساقطا ، ونظر في الترجيح من خارج ، بل قد يقال : عوده إلى ما فيه [ ص: 37 ] العمل بهما أولى كما يقوله الماوردي : إن الضمير يعود إلى الخنزير لأن اللحم موجود فيه .

وأما قوله تعالى : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) ( الشعراء : 4 ) فأخبر بـ " خاضعين " عن المضاف إليه ، ولو أخبر عن المضاف لقال : خاضعة ، أو خضعا ، أو خواضع ، وإنما حسن ذلك لأن خضوع أصحاب الأعناق بخضوع أعناقهم .

وأما قوله تعالى : ( فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) ( غافر : 37 ) فقد عاد الضمير في قول المحققين للمضاف إليه وهو موسى ، والظن بفرعون ، وكأنه لما رأى نفسه قد غلط في الإقرار بالإلهية من قوله ( إله موسى ) استدرك ذلك بقوله هذا .

الحادي عشر : إذا عطف بـ ( أو ) وجب إفراد الضمير ، نحو : إن جاء زيد أو عمرو فأكرمه ، لأن أو لأحد الشيئين ، فأما قوله تعالى : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) ( النساء : 135 ) فقيل : إن " أو " بمعنى الواو ، وقيل : بل المعنى إن " يكن الخصمان " فعاد الضمير على المعنى .

وقيل : للتنويع لا للعطف ، وعكس هذا إذا عطف بالواو وجب تثنية الضمير .

فأما قوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ( التوبة : 62 ) فقد سبق الكلام عليه

التالي السابق


الخدمات العلمية