صفحة جزء
قاعدة فيما يتعلق بالسؤال والجواب

الأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال إذا كان السؤال متوجها ، وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال ، تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك ، ويسميه السكاكي الأسلوب الحكيم . وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال وأغفله المتكلم . وقد يجيء أنقص لضرورة الحال .

مثال ما عدل عنه قوله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) ( البقرة : 189 ) فعدل عن الجواب لما قالوا : ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط ، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ؟ فأجيبوا بما أجيبوا به لينبهوا على أن الأهم ما تركوا السؤال عنه .

وكقوله تعالى : ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ) ( البقرة : 215 ) سألوا عما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف تنزيلا لسؤالهم منزلة سؤال غيره ، لينبه على ما ذكرنا ، ولأنه قد تضمن قوله : [ ص: 40 ] ( قل ما أنفقتم من خير ) ( البقرة : 215 ) بيان ما ينفقونه وهو خير ، ثم زيدوا على الجواب بيان المصرف .

ونظيره : ( وما تلك بيمينك يا موسى ) ( طه : 17 ) فيكون طابق وزاد ، نعم روي عن ابن عباس أنه قال : جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير له مال عظيم ، فقال : ماذا أنفق من أموالنا ؟ وأين نضعها ؟ فنزلت ، فعلى هذا ليست الآية مما نحن فيه ، لأن السائل لم يتعلق بغير ما يطلب بل أجيب ببعض ما سأل عنه .

وقال ابن القشيري : السؤال الأول كان سؤالا عن النفقة إلى من تصرف ؟ ودل عليه الجواب ، والجواب يخرج على وفق السؤال ، وأما هذا السؤال الثاني فعن قدر الإنفاق ودل عليه الجواب أيضا .

ومن ذلك أجوبة موسى عليه السلام لفرعون حيث قال فرعون : ( وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما ) ( الشعراء : 23 - 24 ) لأن ( ما ) سؤال عن الماهية ، أو عن الجنس ، ولما كان هذا السؤال خطأ لأن المسئول عنه ليس ترى ماهيته فتبين ، ولا جنس له فيذكر ، عدل الكليم عن مقصود السائل إلى الجواب بما يعرف بالصواب عند كيفية الخطاب ، ولا يستحق الجريان معه فأجابه بالوصف المنبه عن الظن المؤدي لمعرفته ، لكنه لما لم يطابق السؤال عند فرعون لجهله ، واعتقد الجواب خطأ قال لمن حوله يعجبهم ( ألا تستمعون ) ( الشعراء : 25 ) فأجابه الكليم بجواب يعم الجميع ، ويتضمن الإبطال لعين ما يعتقدونه من ربوبية فرعون لهم بقوله : ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) ( الشعراء : 26 ) فأجاب بالأغلظ ، وهو ذكر الربوبية لكل ما هو من عالمهم نصا ، فاستهزأ به فرعون وخيبه ، ولما لم يرهم موسى عليه السلام تفطنوا غلظ عليهم [ ص: 41 ] في الثالثة بقوله : إن كنتم تعقلون ( الشعراء : 28 ) فكأنه شك في حصول عقلهم .

فإن قيل : قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام ) ( البقرة : 217 ) ولم يقل : عن قتال في الشهر الحرام ، لأنهم لم يسألوا إلا من أجل القتال فيه فكان ذكره أولى .

وقيل : لم يقع السؤال إلا بعد القتال فيه فكان الاهتمام بالسؤال عن هذا الشهر : هل أبيح فيه القتال ؟ وأعاده بلفظ الظاهر ، ولم يقل : هو كبير ليعم الحكم كل قتال وقع في الشهر الحرام .

وقد يعدل عن الجواب إذا كان السائل قصده التعنت ، كقوله تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) ( الإسراء : 85 ) فذكر صاحب " الإيضاح " في خلق الإنسان : إن اليهود إنما سألوا تعجيزا وتغليظا ، إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان ، وجبريل وملك آخر ، يقال له الروح ، وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى ، فقصد اليهود أن يسألوه ، فبأي يسمى أجابهم قالوا ليس هو ، فجاءهم الجواب مجملا فكان هذا الإجمال كيدا يرسل به كيدهم .

وقيل : إنما سألوا عن الروح : هل هي محدثة مخلوقة أم ليست كذلك ؟ فأجابهم بأنها من أمر الله ، وهو جواب صحيح ، لأنه لا فرق بين أن يقول في الجواب ذلك ، أو يقول من أمر ربي ، لأنه إنما أراد أنها من فعله ، وخلقه .

وقيل : إنهم سألوه عن الروح الذي هو في القرآن ، فقد سمى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب ، وحينئذ فوقع الجواب موقعه ، لأنه قال لهم : الروح الذي هو القرآن من أمر ربي ومما أنزله الله على نبيه ، يجعله دلالة وعلما على صدقه ، وليس من فعل المخلوقين ، ولا مما يدخل في إمكانهم .

[ ص: 42 ] وحكاه الشريف المرتضى في الغرر عن الحسن البصري قال : ويقويه قوله بعد هذه الآية ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ) ( الإسراء : 86 ) فكأنه قال : إن القرآن من أمر ربي ولو شاء لرفعه .

ومثال الزيادة في الجواب ، قوله تعالى : ( وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ) ( طه : 17 - 18 ) فإنه عليه السلام فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا فينبغي أن ينبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين .

وكذا قوله : ( ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ) ( الشعراء : 70 - 71 ) وحسنه إظهار الابتهاج بعبادتها ، والاستمرار على مواظبتها ليزداد غيظ السائل .

وقوله تعالى : ( الله ينجيكم منها ومن كل كرب ) ( الأنعام : 64 ) بعد قوله : ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية ) ( الأنعام : 63 ) الآية ، ولولا قصد بسط الكلام ليشاكل ما تقدم لقال ينجيكم الله .

ومثال النقصان منه قوله تعالى ذاكرا عن مشركي مكة : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ) ( يونس : 15 ) أي ائت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا ، أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، وليس فيه ذكر آلهتنا ، فأمره الله أن يجيبهم على التبديل وطوى الجواب عن الاختراع ، قال الزمخشري : لأن التبديل في إمكان البشر بخلاف الاختراع ، فإنه ليس في المقدور ، فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال .

وذكر غيره : أن التبديل قريب من الاختراع فلهذا اقتصر على جواب واحد لهما .

[ ص: 43 ] وخطر لي أنه لما كان التبديل أسهل من الاختراع ، وقد نفى إمكان التبديل كان الاختراع غير مقدور عليه من طريق أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية