صفحة جزء
قاعدة

من أساليب القرآن : حيث ذكر الرحمة والعذاب أن يبدأ بذكر الرحمة كقوله تعالى : [ ص: 57 ] ( يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) ( المائدة : 18 ) ( إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ) ( فصلت : 43 ) وعلى هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى : إن رحمتي سبقت غضبي .

وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب ترهيبا وزجرا .

منها قوله في سورة المائدة : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ) ( المائدة : 40 ) لأنها وردت في ذكر قطاع الطريق ، والمحاربين ، والسراق ، فكان المناسب تقديم ذكر العذاب ، لهذا ختم آية السرقة بـ " عزيز حكيم " وفيه الحكاية المشهورة ، وختمها بالقدرة مبالغة في الترهيب لأن من توعده قادر على إنفاذ الوعيد ، كما قاله الفقهاء في الإكراه على الكلام ونحوه .

ومنها قوله في سورة العنكبوت ( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ) ( العنكبوت : 21 ) لأنها في سياق حكاية إنذار إبراهيم لقومه .

ومثلها : ( أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا ) [ ص: 58 ] ( العنكبوت : 19 - 20 ) إلى قوله : ( إن الله على كل شيء قدير ) ( العنكبوت : 20 ) وبعدها : ( بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) ( العنكبوت : 22 ) .

ومنها في آخر الأنعام قوله : ( إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) ( الأنعام : 165 ) لأن سورة الأنعام كلها مناظرة للكفار ، ووعيدهم خصوصا ، وفي آخرها قبل هذه الآيات بيسير ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( الأنعام : 159 ) الآية ، وهو تهديد ووعيد إلى قوله : ( قل أغير الله أبغي ربا ) ( الأنعام : 164 ) الآية ، وهو تقريع للكفار ، وإفساد لدينهم إلى قوله : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) ( الأنعام : 165 ) فكان المناسب تقديم ذكر العقاب ترهيبا للكفار ، وزجرا لهم عن الكفر والتفرق ، وزجرا للخلائق عن الجور في الأحكام .

ونحو ذلك في أواخر الأعراف ( إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) ( الأعراف : 167 ) لأنها في سياق ذكر معصية أصحاب السبت ، وتعذيبه إياهم ، فتقديم العذاب مناسب .

والفرق بين هذه الآية ، وآية الأنعام حيث أتى هنا باللام ، فقال : ( لسريع العقاب ) دون هناك ، لأن اللام تفيد التوكيد ، فأفادت هنا تأكيد سرعة العقاب ، لأن العقاب المذكور هنا عقاب عاجل ، وهو عقاب بني إسرائيل بالذل والنقمة ، وأداء الجزية بعد المسخ ، لأنه في سياق قوله : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) ( الأعراف : 167 ) فتأكيد السرعة أفاد بيان التعجيل ، وهو مناسب بخلاف العقاب المذكور في سورة الأنعام ، فإنه آجل بدليل قوله : ( ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) ( الأنعام : 164 ) فاكتفى فيه بتأكيد ( إن ) ولما اختصت آية الأعراف بزيادة العذاب عاجلا اختصت بزيادة التأكيد لفظا بـ ( إن ) ، وجميع ما في القرآن على هذا اللفظ يناسبه التقديم ، والتأخير ، وعليه دليلان : أحدهما تفصيلي ، وهو الاستقراء فانظر أي آية تجد فيها مناسبا لذلك ، والثاني إجمالي ، وهو أن القرآن [ ص: 59 ] كلام أحكم الحكماء ، فيجب أن يكون على مقتضى الحكمة ، فوجب اعتباره كذلك ، وهذان دليلان عامان في مضمون هذه الفائدة وغيرها .

وأما قوله تعالى : ( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) ( الأنعام : 147 ) ولم يقل : ذو عقوبة شديدة ، لأنه إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله في الاجتراء على معصيته ، وذلك أبلغ في التهديد ، معناه : لا تغتروا بسعة رحمة الله ، فإنه مع ذلك لا يرد عذابه .

ومثله قوله تعالى : ( ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) ( مريم : 45 ) وقد سبقت

التالي السابق


الخدمات العلمية