صفحة جزء
قاعدة

قد يكون نحو هذا اللفظ في القرآن ، كقوله تعالى : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) ( الأنعام : 93 ) ( فمن أظلم ممن كذب على الله ) ( الزمر : 32 ) ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ) ( السجدة : 22 ) ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) ( البقرة : 114 ) إلى غير ذلك .

والمفسرون على أن هذا الاستفهام معناه النفي فحينئذ فهو خبر ، وإذا كان خبرا فتوهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها أدى إلى التناقض ، لأنه يقال : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها .

واختلف المفسرون في الجواب عن هذا السؤال على طرق .

( أحدها ) : تخصيص كل واحد في هذه المواضع بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وكذلك باقيها ، وإذا تخصص بالصلات زال عنه التناقض .

( الثاني ) أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليهم [ ص: 66 ] بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقتهم ، وهذا يئول معناه إلى السبق في المانعية ، والافترائية .

( الثالث ) وادعى الشيخ أبو حيان أنه الصواب ، إذ المقصود نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق ، فلو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية ، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية ، وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى ، وممن كذب ، ونحوها ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر ، كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد ، وعمر ، وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفى أن يكون أحد أفقه منهم .

لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساويا في الأظلمية ، لأنا نقول : هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية وإن اختلفت طرق الأظلمية ، فهي كلها صائرة إلى الكفر ، وهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين ، بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فتقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر ، ومعناه أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره انتهى .

وقال بعض مشايخنا : لم يدع القائل نفي الظالمية ، فيقيم الشيخ الدليل على ثبوتها ، [ ص: 67 ] وإنما دعواه أن ( ومن أظلم ممن منع مثلا ) ، والغرض أن الأظلمية ثابتة لغير ما اتصف بهذا الوصف ، وإذا كان كذلك حصل التعارض ، ولا بد من الجمع بينهما ، وطريقه التخصيص فيتعين القول به .

وقول الشيخ : إن المعنى : " لا أحد أظلم ممن منع ، وممن ذكر " صحيح ، ولكن لم يستفد ذلك إلا من جهة التخصيص ، لأن الأفراد المنفي عنها الأظلمية في آية ، أثبتت لبعضها الأظلمية أيضا في آية أخرى ، وهكذا بالنسبة إلى بقية الآيات الوارد فيها ذلك .

وكلام الشيخ يقتضي أن ذلك استفيد لا بطريق التخصيص ، بل بطريق أن الآيات المتضمنة لهذا الحكم في حكم آية واحدة ، وإذا تقرر ذلك علمت أن كل آية خصت بأخرى ، ولا حاجة إلى القول بالتخصيص بالصلات ، ولا بالسبق .

( الرابع ) طريقة بعض المتأخرين ، فقال : متى قدرنا : ( لا أحد أظلم ) لزم أحد الأمرين : إما استواء الكل في الظلم ، وأن المقصود نفي الأظلمية عن غير المذكور ، لا إثبات الأظلمية له ، وهو خلاف المتبادر إلى الذهن ، وإما أن كل واحد أظلم في ذلك النوع ، وكلا الأمرين إنما لزم من جعل مدلولها إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ، أو نفيها عن غيره .

وهنا معنى ثالث ، وهو أمكن في المعنى ، وسالم عن الاعتراض ، وهو الوقوف مع مدلول اللفظ من الاستفهام ، والمقصود به أن هذا الأمر عظيم فظيع ، قصدنا بالاستفهام عنه تخييل أنه لا شيء فوقه لامتلاء قلب المستفهم عنه بعظمته امتلاء يمنعه من ترجيح غيره ، فكأنه مضطر إلى أن يقول : لا أحد أظلم ، وتكون دلالته على ذلك استعارة لا حقيقة ، فلا يرد كون غيره أظلم منه إن فرض . وكثيرا ما يستعمل هذا في الكلام إذا قصد به التهويل ، فيقال : أي شيء أعظم من هذا إذا قصد إفراط عظمته ؟ ولو قيل للمتكلم بذلك : أنت قلت إنه أعظم الأشياء لأبى ذلك ، فليفهم هذا المعنى ، فإن الكلام ينتظم معه ، والمعنى عليه

التالي السابق


الخدمات العلمية