صفحة جزء
قاعدة في التعريف والتنكير .

اعلم أن لكل واحد منهما مقاما لا يليق بالآخر .

فأما التعريف فله أسباب :

الأول : الإشارة إلى معهود خارجي كقوله تعالى : ( بكل سحار عليم فجمع السحرة ) ( الشعراء : 37 - 38 ) على قراءة الأعمش فإنه أشير بالسحرة إلى ساحر مذكور . وقوله : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) ( المزمل : 15 - 16 ) .

وأغرب ابن الخشاب فجعلها للجنس ، فقال : لأن من عصى رسولا فقد عصى سائر الرسل .

ومنهم من لا يشترط تقدم ذكره ، وجعل منه قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) ( البقرة : 13 ) لأنهم كانوا يعتقدون أن الناس الذين آمنوا سفهاء . وقوله : ( وليس الذكر كالأنثى ) ( آل عمران : 36 ) أي الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبت لها ، وإنما جعل هذا للخارجي لمعنى الذكر في قولها : ( إني نذرت لك ما في بطني محررا ) ( آل عمران : 36 ) ومعنى الأنثى في قولها : ( إني وضعتها أنثى ) ( آل عمران : 36 ) .

الثاني لمعهود ذهني ، أي في ذهن مخاطبك كقوله تعالى : ( إذ هما في الغار ) ( التوبة : 40 ) ( إذ يبايعونك تحت الشجرة ) ( الفتح : 18 ) وإما [ ص: 77 ] حضوري ، نحو : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( المائدة : 3 ) فإنها نزلت يوم عرفة .

الثالث : الجنس ، وهي فيه على أقسام :

أحدها : أن يقصد المبالغة في الخبر فيقصر جنس المعنى على المخبر عنه ، نحو : زيد الرجل ، أي الكامل في الرجولية ، وجعل سيبويه صفات الله تعالى كلها من ذلك .

وثانيها : أن يقصره على وجه الحقيقة لا المبالغة ، ويسمى تعريف الماهية ، نحو : ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ) ( الأنعام : 89 ) وقوله : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ( الأنبياء : 30 ) أي جعلنا مبتدأ كل حي هذا الجنس الذي هو الماء .

وقال بعضهم : المراد بالحقيقة ثبوت الحقيقة الكلية الموجودة في الخارج ، لا الشاملة لأفراد الجنس ، نحو : الرجل خير من المرأة ، لا يريدون امرأة بعينها ، وإنما المراد هذا الجنس خير من ذلك الجنس من حيث هو ، وإن كان يتفق في بعض أفراد النساء من هو خير من بعض أفراد الرجال بسبب عوارض .

وهذا معنى قول ابن بابشاذ : إن تعريف العهد لما ثبت في الأعيان ، وتعريف الجنس لما ثبت في الأذهان ، لأن التفضيل في الجنس راجع إلى الصورتين الكليتين في الذهن إذ لا معنى للتفضيل في الصورة الذهنية ، وإنما أضاف إلى الذهن ، لأن حصص تلك الحقيقة التي ذكرناها ، وإن كانت موجودة في الخارج لاشتمال الأفراد الخارجية عليها ، ولكنها كلها مطابقة للصورة الذهنية التي لتلك الحقيقة ، ولهذا تسمى الكلية الطبيعية .

الرابع : أن يقصد بها الحقيقة باعتبار كلية ذلك المعنى ، وتعرف بأنها التي إذا نزعت حسن أن يخلفها " كل " ، وتفيد معناها الذي وضعت له حقيقة ، ويلزم من [ ص: 78 ] ذلك الدلالة على شمول الأفراد ، وهي الاستغراقية ، ويظهر أثره في صحة الاستثناء منه ، مع كونه بلفظ الفرد ، نحو : ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) ( العصر : 2 - 3 ) وفي صحة وصفه بالجمع ، نحو : ( أو الطفل الذين لم يظهروا ) ( النور : 31 ) .

قال صاحب ضوء المصباح : وسواء أكان الشمول باعتبار الجنس : كالرجل ، والمرأة ، أو باعتبار النوع : كالسارق والسارقة ، ويفرق بينهما بأن ما دخلت عليه من أجل فعله فيزول عنه الاسم بزوال الفعل فهي للنوع ، وما دخلت عليه من أجل وصفه فلا يزول عنه الاسم أبدا ، هذا كله إذا دخلت على مفرد ، نحو : ( إلى عالم الغيب والشهادة ) ( التوبة : 94 ) ( وخلق الإنسان ضعيفا ) ( النساء : 28 ) ( إن الإنسان لفي خسر ) ( العصر : 2 ) خلافا للإمام فخر الدين ومن تبعه في قولهم : إن المفرد المحلى بالألف واللام لا يعم ، ولنا الاستثناء في قوله تعالى : ( أو الطفل الذين لم يظهروا ) وليس في قوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ( المائدة : 32 ) دلالة على العموم كما زعم صاحب الكشاف .

فإن قلت : فإذا لم يكن السارق عاما فبماذا تقطع يد كل سارق من لدن سرق رداء صفوان إلى انقضاء العالم ؟ قيل : لأن المراد منه الجنس ، أي نفس الحقيقة ، والمعنى [ ص: 79 ] أن المتصف بصفة السرقة تقطع يده ، وهو صادق على كل سارق ، لأن الحقيقة كما توجد مع الواحد توجد مع المتعدد أيضا ، فإن دخلت على جمع فاختلف العلماء ، هل سلبته معنى الجمع ، ويصير للجنس ويحمل على أقله ، وهو الواحد لئلا يجتمع على الكلمة عمومان ، أو معنى الجمع باق معها .

عموم مذهب الحنفية الأول ، وقضية مذهبنا الثاني . ولهذا اشترطوا ثلاثة من كل صنف في الزكاة إلا العاملين ، ويلزم الحنفية ألا يصح منه الاستثناء ولا يخصصه ، وقد قال تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ) ( الحجر : 30 - 31 ) وقال : ( فاقتلوا المشركين ) ( التوبة : 5 ) إلى قوله : ( حتى يعطوا الجزية ) ( التوبة : 29 ) وقد حققته في باب العموم من بحر الأصول .

[ ص: 80 ] ثم الأكثر في نعتها وغيرها موافقة اللفظ ، كقوله تعالى : ( والجار ذي القربى والجار الجنب ) ( النساء : 36 ) وقوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) ( الليل : 15 إلى 18 ) .

وتجيء موافقة معنى " لا " لفظا على قلة ، كقوله : ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) ( النور : 31 ) .

وأما التنكير فله أسباب : ( الأول ) : إرادة الوحدة ، نحو : ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ) ( القصص : 20 ) .

( الثاني ) : إرادة النوع ، كقوله : ( هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ) ( ص : 49 ) أي نوع من الذكر . ( وعلى أبصارهم غشاوة ) ( البقرة : 7 ) وهي التعامي عن آيات الله الظاهرة لكل مبصر ، ويجوز أن يكون للتعظيم ، وأجريا في قوله تعالى : ( والله خلق كل دابة من ماء ) ( النور : 45 ) ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ( البقرة : 96 ) لأنهم لم يحرصوا على أصل الحياة حتى تعرف ، بل على الازدياد من نوع ، وإن كان الزائد أقل شيء ينطلق عليه اسم الحياة .

( الثالث ) : التعظيم كقوله تعالى : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) ( البقرة : 279 ) أي بحرب وأي حرب . وكقوله : ( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) ( البقرة : 10 ) أي لا يوقف على حقيقته .

وجعل منه السكاكي قوله تعالى : ( إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) [ ص: 81 ] ( مريم : 45 ) والظاهر من قول الزمخشري خلافه ، وهذا لم يصرح بأن العذاب لاحق به ، بل قال : ( يمسك ) وذكر الخوف ، وذكر اسم الرحمن ، ولم يقل " المنتقم " ، وذلك يدل على أنه لم يرد التعظيم .

وقوله : ( أن لهم جنات ) ( البقرة : 25 ) .

فإن قلت : لم لم ينكر الأنهار في قوله : ( من تحتها الأنهار ) قلت : لا غرض في عظم الأنهار وسعتها بخلاف الجنات .

ومنه : ( سلام على إبراهيم ) ( الصافات : 109 ) ( وسلام عليه يوم ولد ) ( مريم : 15 ) .

وإنما لم ينكر سلام عيسى في قوله : ( والسلام علي يوم ولدت ) ( مريم : 83 ) فإنه في حقه دعاء ، به الرمز إلى ما اشتق منه اسم الله تعالى ، والسلام اسم من أسمائه مشتق من السلامة ، وكل اسم ناديته به متعرض لما يشتق منه ذلك الاسم ، نحو : يا غفور ، يا رحيم .

( الرابع ) : التكثير ، نحو : " إن له لإبلا " وجعل منه الزمخشري قوله تعالى : ( إن لنا لأجرا ) ( الأعراف : 113 ) أي أجرا وافرا جزيلا ، ليقابل المأجور عنه من الغلبة على مثل موسى عليه السلام ، فإنه لا يقابل الغلبة عليه بأجر ، إلا وهو عديم النظير في الكثرة .

وقد أفاد التكثير ، والتعظيم معا قوله تعالى : ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل ) ( فاطر : 4 ) أي رسل عظام ذوو عدد كثير ، وذلك لأنه وقع عوضا عن قوله : " فلا تحزن وتصبر " ، وهو يدل على عظم الأمر وتكاثر العدد .

[ ص: 82 ] ( الخامس ) : التحقير ، كقوله تعالى : ( من أي شيء خلقه ) ( عبس : 18 ) قال الزمخشري : أي من شيء حقير مهين ، ثم بينه بقوله : ( من نطفة خلقه ) ( عبس : 19 ) .

وكقوله تعالى : ( إن نظن إلا ظنا ) ( الجاثية : 32 ) أي لا يعبأ به ، وإلا لاتبعوه ، لأن ذلك دينهم ( إن يتبعون إلا الظن ) ( النجم : 23 ) .

( السادس ) التقليل كقوله تعالى : ( ورضوان من الله أكبر ) ( التوبة : 72 ) أي رضوان قليل من بحار رضوان الله الذي لا يتناهى أكبر من الجنات ، لأن رضا المولى رأس كل سعادة . وقوله تعالى : ( فيه شفاء للناس ) ( النحل : 69 ) إذ المعنى أنه يحصل فيه أصل الشفاء في جملة صور ، ويجوز أن يكون للتعظيم .

وعد صاحب الكشاف منه : ( أسرى بعبده ليلا ) ( الإسراء : 1 ) أي بعض الليل .

وفيه نظر ، لأن التقليل عبارة عن تقليل الجنس إلى فرد من أفراده لا ببعض فرد إلى جزء من أجزائه

التالي السابق


الخدمات العلمية