صفحة جزء
[ ص: 89 ] قواعد تتعلق بالعطف

القاعدة الأولى

ينقسم باعتبار إلى عطف المفرد على مثله ، وعطف الجمل . فأما عطف المفرد ففائدته تحصيل مشاركة الثاني للأول في الإعراب ليعلم أنه مثل الأول في فاعليته ، أو مفعوليته ، ليتصل الكلام بعضه ببعض ، أو حكم خاص دون غيره ، كما في قوله تعالى : ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) ( المائدة : 6 ) فمن قرأ بالنصب عطفا على الوجوه كانت الأرجل مغسولة ، ومن قرأ بالجر عطفا على الرءوس كانت ممسوحة ، لكن خولف ذلك لعارض يرجح ، ولا بد في هذا من ملاحظة المشاكلة بين المتعاطفين ، فتقول : جاءني زيد وعمرو ، لأنهما معرفتان ، ولو قلت : جاء زيد ورجل ، لم يستقم لكون المعطوف نكرة ، نعم ، إن تخصص فقلت : ورجل آخر ، جاز .

ولذا قال صاحب " المستوفى " من النحويين : وأما عطف الجملة فإن كانت الأولى لا محل لها من الإعراب فكما سبق ، لأنها تحل محل المفرد ، نحو : مررت برجل خلقه حسن ، وخلقه قبيح ، وإن كان لا محل لها ، نحو : زيد أخوك ، وعمرو صاحبك ، ففائدة العطف الاشتراك في مقتضى الحرف العاطف ، فإن كان العطف بغير الواو ظهر له فائدة من التعقيب كالفاء ، أو الترتيب كـ ( ثم ) أو نفي الحكم عن الباقي كـ ( لا ) .

وأما الواو فلا تفيد شيئا هنا غير المشاركة في الإعراب .

وقيل : بل تفيد أنهما كالنظيرين والشريكين ، بحيث إذا علم السامع حال الأول عساه أن يعرف حال الثاني ، ومن ثمة صار بعض الأصوليين إلى أن القران في اللفظ يوجب القران في [ ص: 90 ] الحكم . ومن هنا شرط البيانيون التناسب بين الجمل لتظهر الفائدة حتى إنهم منعوا عطف الإنشاء على الخبر وعكسه .

ونقله الصفار في شرح سيبويه عن سيبويه ألا ترى إلى قوله : يقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع المنفي ، فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس بمعناه انتهى .

ولهذا منع الناس من الواو في ( بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد ) لأن الأولى خبرية ، والثانية طلبية ، وجوزه ابن الطراوة لأنهما يجتمعان في التبرك .

وخالفهم كثير من النحويين كابن خروف ، والصفار ، وابن عمرو ، وقالوا : يعطف الأمر على الخبر ، والنهي على الأمر والخبر ، قال تعالى : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ( المائدة : 67 ) فعطف خبرا على جملة شرط ، وجملة الشرط على الأمر .

وقال تعالى : ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) ( يونس : 72 ) . ( وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ) ( يونس : 105 ) فعطف نهيا على خبر . ومثله : ( يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ) ( هود : 42 ) .

قالوا : وتعطف الجملة على الجملة ، ولا اشتراك بينهما ، كما قال تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) ( آل عمران : 7 ) على قولنا بالوقف على الله وأنه سبحانه اختص به . وقال : ( وأولئك هم الفاسقون ) ( النور : 4 ) فإنه علة تامة بخبرها ، فلا يوجب العطف المشاركة فيما تتم به الجملتان الأوليان ، وهو الشرط الذي تضمنه قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا ) ( النور : 4 ) كقولك : إن دخلت الدار [ ص: 91 ] فأنت طالق ، وفلانة طالق ، لا يتعلق طلاق الثانية بالشرط ، وعلى هذا يختص الاستثناء به ولا يرجع لما تقدمه ، ويبقى المحدود في القذف غير مقبول الشهادة بعد التوبة كما كان قبلها .

ومنه قوله تعالى : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ) ( الشورى : 24 ) فإنه علة تامة معطوفة على ما قبلها ، غير داخل تحت الشرط ، ولو دخلت كان ختم القلب ، ومحو الباطل متعلقين بالشرط ، والمتعلق بالشرط معدوم قبل وجوده ، وقد عدم ختم القلب ، ووجد محو الباطل ، فعلمنا أنه خارج عن الشرط ، وإنما سقطت الواو في الخط ، واللفظ ليس للجزم ، بل سقوطه من اللفظ لالتقاء الساكنين ، وفي الخط اتباعا للفظ كسقوطه في قوله تعالى : ( ويدع الإنسان ) ( الإسراء : 11 ) وقوله : ( سندع الزبانية ) ( العلق : 18 ) ولهذا وقف عليه يعقوب بالواو نظرا للأصل ، وإن وقف عليه غيره بغير واو اتباعا للخط .

والدليل على أنها ابتداء إعادة الاسم في قوله : ( ويمح الله ) ( الشورى : 24 ) ولو كانت معطوفة على ما قبلها لقيل : ويمح الباطل ، ومثله : ( لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء ) ( الحج : 5 ) . وقوله : ( ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء ) ( التوبة : 15 ) . وقوله : ( قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ) ( الأعراف : 26 ) وغير ذلك .

قلت : وكثير من هذا لا يرد عليهم ، فإن كلامهم في الواو العاطفة ، وأما ( ونقر في الأرحام ) وما بعده فهي للاستئناف ، إذ لو كانت للعطف لانتصب " نقر " ، و " لباس " ، وجزم " ويتوب " ، وكذلك الواو في ( والراسخون ) للاستئناف ( ويمح الله ) .

وقال البيانيون : للجملة ثلاثة أحوال :

( فالأول ) : أن يكون ما قبلها بمنزلة الصفة من الموصوف ، والتأكيد من المؤكد ، فلا يدخلها عطف لشدة الامتزاج كقوله تعالى : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ( البقرة : 1 - 2 ) .

[ ص: 92 ] وقوله : ( ختم الله على قلوبهم ) ( البقرة : 7 ) مع قوله : ( لا يؤمنون ) ( البقرة : 6 ) . وكذلك : ( يخادعون الله ) ( البقرة : 9 ) مع قوله : ( وما هم بمؤمنين ) ( البقرة : 8 ) فإن المخادعة ليست شيئا غير قولهم : ( آمنا ) من غير اتصافهم .

وقوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) ( البقرة : 14 ) وذلك لأن معنى قولهم : ( إنا معكم ) أنا لم نؤمن ، وقوله : ( إنما نحن مستهزئون ) خبر لهذا المعنى بعينه . وقوله : ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ) ( لقمان : 7 ) .

وقوله : ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) ( يوسف : 31 ) فإن كونه ملكا ينفي كونه بشرا فهي مؤكدة للأولى .

وقوله : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) ( يس : 69 ) . وقوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ( النجم : 3 - 4 ) وقوله : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) ( الحج : 1 ) فإنها مؤكدة لقوله : ( ياأيها الناس اتقوا ربكم ) . وقوله : ( إن صلاتك سكن لهم ) ( التوبة : 103 ) فإنها بيان للأمر بالصلاة .

وقوله : ( إن المتقين في مقام أمين ) ( الدخان : 51 ) بعد قوله : ( إن هذا ما كنتم به تمترون ) ( الدخان : 50 ) . وقوله : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) ( الكهف : 30 ) إذا جعلت ( إنا لا نضيع ) خبرا ، إذ الخبر لا يعطف على المبتدأ . وقوله : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) ( الأنبياء : 101 ) بعد قوله : ( لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ) ( الأنبياء : 100 ) .

والثانية : أن يغاير ما قبلها ، وليس بينهما نوع ارتباط بوجه ، فلا [ ص: 93 ] عطف أيضا إذ شرط العطف المشاكلة ، وهو مفقود ، وذلك قوله تعالى : ( إن الذين كفروا سواء عليهم ) ( البقرة : 6 ) بعد قوله : ( وأولئك هم المفلحون ) ( البقرة : 5 ) .

فإن قيل : إذا كان حكم هذه الحالة والتي قبلها واحدا أدى إلى الإلباس ، فإنه إذا لم يعطف التبس حالة المطابقة بحالة المغايرة ، وهلا عطفت الحالة الأولى إلحاقا لها بالحالة الثانية ؟ فإن ترك العطف يوهم المطابقة ، والعطف يوهم عدمها ، فلم اختير الأول دون الثاني ، مع أنه لم يخل عن إلباس ؟ قيل : العاطف يوهم الملابسة بوجه قريب أو بعيد ، بخلاف سقوط العاطف ، فإنه وإن أوهم المطابقة إلا أن أمره واضح فبأدنى نظر يعلم ، فزال الإلباس .

( الحال الثالثة ) أن يغاير ما قبلها لكن بينهما نوع ارتباط ، وهذه التي يتوسطها العاطف كقوله : ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) ( البقرة : 5 ) . وقوله : ( أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ( الرعد : 5 ) .

فإن قلت : لم سقط العطف من ( أولئك كالأنعام بل هم أضل ) ( الأعراف : 179 ) ولم يسقط من ( وأولئك هم المفلحون ) ؟ . قلت : لأن الغفلة شأن الأنعام ، فالجملة الثانية كأنها هي الجملة الأولى .

( فإن قلت ) : لم سقط في قوله : ( الله يستهزئ بهم ) ( البقرة : 15 ) ؟ . قلت : لأن الثانية كالمسئول عنها ، فنزل تقدير السؤال منزلة صريحه .

( الحال الرابعة ) أن يكون بتقدير الاستئناف كأن قائلا قال : لم كان كذا ؟ فقيل : كذا ، فها هنا لا عطف أيضا كقوله تعالى : ( وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا ياأبانا ) ( يوسف : 16 - 17 ) .

وقوله : ( وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا ) ( الأعراف : 113 ) التقدير : فما قالوا أو فعلوا ؟ فأجيب هذا التقدير بقوله : قالوا

التالي السابق


الخدمات العلمية