صفحة جزء
26 - بلى

لها موضعان :

أحدهما : أن تكون ردا لنفي يقع قبلها كقوله تعالى : ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم ( النحل : 28 ) أي عملتم السوء . وقوله : لا يبعث الله من يموت بلى ( النحل : 38 ) وقوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ( آل عمران : 75 ) ثم قال : بلى ( آل عمران : 76 ) أي عليهم سبيل .

والثاني أن تقع جوابا لاستفهام ، دخل عليه نفي حقيقة فيصير معناها التصديق لما قبلها ، كقولك : ألم أكن صديقك ؟ ألم أحسن إليك ؟ فتقول : بلى . أي كنت صديقي . ومنه قوله تعالى : ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ( الملك : 8 - 9 ) ومنه : ألست بربكم قالوا بلى ( الأعراف : 172 ) أي أنت ربنا فهي في هذا الأصل تصديق لما قبلها ، وفي الأول رد لما قبلها وتكذيب .

وقوله : ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ( الحديد : 14 ) أي كنتم معنا . ويجوز أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقا ، أعم من [ ص: 230 ] الحقيقي والمجازي ، فالحقيقي كقوله : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ( الزخرف : 80 ) أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى ( القيامة : 3 - 4 ) .

ثم قال الجمهور : التقدير : بل نحييها قادرين ، لأن الحساب إنما يقع من الإنسان على نفي جمع العظام ، وبلى إثبات فعل النفي فينبغي أن يكون الجمع بعدها مذكورا على سبيل الإيجاب .

وقال الفراء : التقدير فلنحيها قادرين ، لدلالة " أيحسب " عليه ، وهو ضعيف ; لأن بلى حينئذ لم تثبت ما نفي من قبل التقدير " بل نقدر " وهو ضعيف ؛ لأنه عدول عن مجيء الجواب على نمط السؤال .

والمجازي كقوله تعالى : ألست بربكم قالوا بلى ( الأعراف : 172 ) فإن الاستفهام هنا ليس على حقيقته ، بل هو للتقرير لكنهم أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى .

وكذلك قال ابن عباس : لو قالوا نعم لكفروا ، ووجهه أن نعم تصديق لما بعد الهمزة نفيا كان أو إثباتا .

ونازع السهيلي وغيره في المحكي عن ابن عباس من وجه أن الاستفهام التقريري إثبات قطعا ، وحينئذ فنعم في الإيجاب تصديق له ، فهلا أجيب بما أجيب به الإيجاب ! فإن قولك : ألم أعطك درهما ! بمنزلة أعطيتك .

والجواب من أوجه :

[ ص: 231 ] أحدها : ذكره الصفار ، أن المقرر قد يوافقه المقرر فيما يدعيه ، وقد لا . فلو قيل في جواب ألم أعطك ؟ " نعم " ، لم يدر هل أراد نعم لم تعطني ، فيكون مخالفا للمقرر ، أو نعم أعطيتني فيكون موافقا ، فلما كان يلتبس أجابوا على اللفظ ، ولم يلتفتوا إلى المعنى .

الثاني : وبه تخلص بعضهم فقال : إذا أتت بعد كلام منفي فتارة تكون جوابا ، وتارة لا تكون ، فإن كان جوابا فواضح ، وإن كان لغير الجواب لم يكن كذلك .

قال : وابن عباس إنما قال : لو قالوا في الجواب نعم كفروا ; لأن الجواب لست ربنا ، ولو قالوا في التصديق نعم ، لكان محض الإيمان أي نعم أنت ربنا .

وتلخص أن الذي منعه ابن عباس كون نعم جوابا ، وإن كان جوابا فهي تصديق لما بعد ألف الاستفهام ، والذين أجازوا إنما هو على أن يكون غير جواب .

تنبيهات

الأول : ما ذكرنا من كون بلى إنما يجاب بها النفي هو الأصل ، وأما قوله تعالى : بلى قد جاءتك آياتي ( الزمر : 59 ) فإنه لم يتقدمها نفي لفظا لكنه مقدر ، فإن معنى لو أن الله هداني ( الزمر : 57 ) ما هداني ، فلذلك أجيب ببلى التي هي جواب النفي المعنوي ، ولذلك حققه بقوله : قد جاءتك آياتي ( الزمر : 59 ) وهي من أعظم الهدايات .

ومثله : بلى قادرين ( القيامة : 4 ) فإنه سبق نفي وهو ألن نجمع عظامه ( القيامة : 4 ) فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم في اعتقادهم أن الله لا يجمع عظامهم ، فرد عليهم بقوله : بلى قادرين ( القيامة : 4 ) .

[ ص: 232 ] وقال ابن عطية : حق " بلى " أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وهذا القيد الذي ذكره في النفي لم يذكره غيره ، وأطلق النحويون أنها جواب النفي .

وقال الشيخ أثير الدين : حقها أن تدخل على النفي ، ثم حمل التقرير على النفي ، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب ، وأجابه بنعم .

وسأل الزمخشري : هلا قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله : أن الله هداني ( الزمر : 57 ) ، وأجاب بأنه إن تقدم على إحدى القرائن الثلاث فرق بينهن وبين النظم ، فلم يحسن ، وإن تأخرت القرينة الوسطى نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعليل بفقد الهداية ، ثم تمني الرجعة ، فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب عما اقتضى الجواب من بينها .

الثاني : اعلم أنك متى رأيت بلى أو نعم بعد كلام يتعلق بها تعلق الجواب ، وليس قبلها ما يصلح أن يكون جوابا له ، فاعلم أن هناك سؤالا مقدرا ، لفظه لفظ الجواب ، ولكنه اختصر وطوي ذكره ، علما بالمعنى كقوله تعالى : بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ( البقرة : 112 ) فقال المجيب : بلى ، ويعاد السؤال في الجواب .

وكذا قوله : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ( البقرة : 81 ) ليست بلى فيه جوابا لشيء قبلها ، بل ما قبلها دال على ما هي جواب له ، والتقدير : ليس من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته خالدا في النار أو يخلد في النار ، فجوابه الحق بلى .

[ ص: 233 ] وقد يكتفى بذكر بعض الجواب دالا على باقيه ، كما قال تعالى : بلى قادرين ( القيامة : 4 ) أي بلى نجمعها قادرين ، فذكر الجملة بمثابة ذكر الجزاء من الجملة ، وكان عنها من القواعد النافعة : أن الجواب إما أن يكون لملفوظ به أو مقدر .

فإن كان لمقدر ، فالجواب بالكلام ، كقولك لمن تقدره مستفهما عن قيام زيد : قام زيد ، أو لم يقم زيد ، ولا يجوز أن تقول : " نعم " ولا " لا " لأنه لا يعلم ما يعني بذلك ، وإن كان الجواب لملفوظ به فإن أردت التصديق قلت : " نعم " . وفي تكذيبه : " بلى " فتقول في جواب من قال : أما قام زيد ؟ نعم . إذا صدقته ، وبلى إذا كذبته .

وكذلك إذا أدخلت أداة الاستفهام على النفي ، ولم ترد التقرير ، بل أبقيت الكلام على نفيه ، فتقول في تصديق النفي : نعم وفي تكذيبه : بلى ، نحو : ألم يقم زيد ؟ فتقول في تصديق النفي : نعم وفي تكذيبه : بلى . ولا يجوز في هذا الموضع أن ترد . . . . . مخافة اللبس لاحتمال أن يكون المعنى تكذيبه أو تصديقه فلهذا تعين بلى ، لأن المعنى تكذيبه ، فإن يكن جوابا لبقي صريح " بل " لا بجواب محض كان ردا وتصديقه بنعم ، فإذا قيل قام زيد ، فإن كذبته قلت " لا " وإن صدقته قلت : نعم .

الثالث : يجوز الإثبات والحذف بعد بلى فالإثبات كقوله تعالى : ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ( الملك : 8 - 9 ) . وقوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ( سبأ : 3 ) .

[ ص: 234 ] ومن الحذف قوله تعالى : بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا ( آل عمران : 124 - 125 ) فالفعل المحذوف بعد بلى في هذا الموضع يكفيكم ، أي بلى يكفيكم إن تصبروا .

وقوله : أولم تؤمن قال بلى ( البقرة : 260 ) أي قد آمنت . وقوله : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ( البقرة : 80 ) ثم قال : بلى ، أي تمسسكم أكثر من ذلك . وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ( البقرة : 111 ) ثم قال : بلى ، أي يدخلها غيرهم . وقوله : ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ( الحديد : 14 ) .

وقد تحذف بلى وما بعدها ، كقوله تعالى : قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ( الكهف : 75 ) أي بلى قلت لي .

التالي السابق


الخدمات العلمية