صفحة جزء
52 - كل

اسم وضع لضم أجزاء الشيء على جهة الإحاطة من حيث كان لفظه مأخوذا من لفظ الإكليل ، والكلة والكلالة ، مما هو للإحاطة بالشيء ، وذلك ضربان :

أحدهما : انضمام لذات الشيء وأحواله المختصة به ، وتفيد معنى التمام كقوله تعالى : ولا تبسطها كل البسط ( الإسراء : 29 ) أي بسطا تاما . فلا تميلوا كل الميل ( النساء : 129 ) ونحوه .

والثاني : انضمام الذوات وهو المفيد للاستغراق .

ثم إن دخل على منكر أوجب عموم أفراد المضاف إليه ، أو على معرف أوجب عموم أجزاء ما دخل عليه . وهو ملازم للأسماء ولا يدخل على الأفعال .

وأما قوله تعالى : وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) فالتنوين بدل من المضاف أي كل واحد . وهو لازم للإضافة معنى ، ولا يلزم إضافته لفظا إلا إذا وقع تأكيدا أو نعتا ، وإضافته منوية عند تجرده منها .

ويضاف تارة إلى الجمع المعرف نحو : كل القوم ، ومثله اسم الجنس ، نحو : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ( آل عمران : 93 ) وتارة إلى ضميره ، نحو : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 95 ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ( الحجر : 30 ) ليظهره على الدين كله ( الفتح : 28 ) . وإلى نكرة مفردة ، نحو : وكل إنسان ألزمناه طائره ( الإسراء : 13 ) والله بكل شيء عليم ( النساء : 176 ) كل نفس بما كسبت رهينة ( المدثر : 38 ) .

وربما خلا من الإضافة لفظا وينوى فيه ، نحو : كل في فلك يسبحون ( الأنبياء : 33 ) وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 95 ) كلا هدينا ( الأنعام : 84 ) كل من الصابرين ( الأنبياء : 85 ) وكلا ضربنا له الأمثال ( الفرقان : 37 ) .

[ ص: 275 ] وهل تنوينه حينئذ عوض أو تنوين صرف ؟ قولان .

قال أبو الفتح : وتقديمها أحسن من تأخيرها لأن التقدير : " كلهم " ، فلو أخرت لباشرت العوامل ، مع أنها في المعنى منزلة منزلة ما لا يباشره ، فلما تقدمت أشبهت المرتفعة بالابتداء في أن كلا منهما لم يل عاملا في اللفظ ، وأما " كل " المؤكد بها فلازمة للإضافة .

وأجاز الزمخشري تبعا للفراء قطعها عن الإضافة لفظا نحو : إنا كل فيها ( غافر : 48 ) وخرجها ابن مالك على أن " كلا " حال من ضمير الظرف ، وتحصل أن لها ثلاثة أحوال : مؤكدة ، ومبتدأ بها مضافة ، ومقطوعة عن الإضافة .

فأما المؤكدة فالأصل فيها أن تكون توكيدا للجملة ، أو ما هو في حكم الجملة مما يتبعض ، لأن موضوعها الإحاطة كما سبق .

وأما المضافة غير المؤكدة ، فالأصل فيها أن تضاف إلى النكرة الشائعة في الجنس لأجل معنى الإحاطة ، وهو إنما ما يطلب جنسا يحيط به فإن أضفته إلى جملة معرفة نحو : كل إخوتك ذاهب ، قبح إلا في الابتداء ، إلا أنه إذا كان مبتدأ وكان خبره مفردا ، تنبيها على أن أصله الإضافة للنكرة لشيوعها .

فإن لم يكن مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة ، نحو : ضربت كل إخوتك ، وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله ، لأنك لم تضفه إلى جنس ، ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس ، فإن أضفته إلى جنس معرف بالألف واللام حسن ذلك ، كقوله تعالى : فأخرجنا به من كل الثمرات ( الأعراف : 57 ) لأن الألف واللام للجنس ، ولو كانت للعهد لم يحسن لمنافاتها معنى الإحاطة .

[ ص: 276 ] ويجوز أن يؤتى بالكلام على أصله فتؤكد الكلام بـ " كل " فتقول : خذ من الثمرات كلها .

فإن قيل : فإذا استوى الأمران في قوله : كل من كل الثمرات ، وكل من الثمرات كلها ، فما الحكمة في اختصاص أحد الجائزين في نظم القرآن دون الآخر ؟

قال السهيلي في النتائج : له حكمة وهو أن " من " في الآية لبيان الجنس لا للتبعيض ، والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف ، وإنما يريد الثمرات أنفسها ؛ لأنه أخرج منها شيئا ، وأدخل من لبيان الجنس كله . ولو قال : أخرجنا به من الثمرات كلها ، لقيل : أي شيء أخرج منها ؟ وذهب التوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف ، وأن مفعول " أخرجنا " فيما بعد ، وهذا يتوهم مع تقدم كل لعلم المخاطبين أن كلا إذا تقدمت اقتضت الإحاطة بالجنس ، وإذا تأخرت اقتضت الإحاطة بالمؤكد بتمامه ، جنسا شائعا كان أو معهودا .

وأما قوله تعالى : ثم كلي من كل الثمرات ( النحل : 69 ) ولم يقل من الثمرات كلها ، ففيه الحكمة السابقة ، وتزيد فائدة ، وهي أنه قد تقدمها في النظمومن ثمرات النخيل والأعناب ( النحل : 67 ) الآية .

فلو قال بعدها : ثم كلي من الثمرات كلها ، لأوهم أنها للعهد المذكور قبله ، فكان الابتداء بكل أحضر للمعنى ، وأجمع للجنس ، وأرفع للبس .

وأما المقطوع عن الإضافة ، فقال السهيلي : حقها أن تكون مبتدأة مخبرا عنها ، أو مبتدأة منصوبة بفعل بعدها لا قبلها ، أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها ، كقولك : كلا ضربت وبكل مررت . فلا بد من مذكورين قبلها ؛ لأنه إن لم يذكر قبلها جملة ، ولا أضيفت إلى جملة بطل معنى الإحاطة فيها ، ولم يعقل لها معنى .

واعلم أن لفظ كل لأفراد التذكير ، ومعناه بحسب ما يضاف إليه ، والأحوال ثلاثة :

[ ص: 277 ] ( الأول ) : أن يضاف إلى نكرة فيجب مراعاة معناها ، فلذلك جاء الضمير مفردا مذكرا في قوله تعالى : وكل شيء فعلوه في الزبر ( القمر : 52 ) ، وكل إنسان ألزمناه ( الإسراء : 13 ) ومفردا مؤنثا في قوله : كل نفس بما كسبت رهينة ( المدثر : 38 ) ، كل نفس ذائقة الموت ( آل عمران : 185 ) . ومجموعا مذكرا في قوله : كل حزب بما لديهم فرحون ( المؤمنون : 53 ) في معنى الجمع ؛ لأنه اسم جمع .

وما ذكرناه من وجوب مراعاة المعنى مع النكرة دون لفظ كل ، قد أوردوا عليه نحو قوله تعالى : وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ( غافر : 5 ) وقوله : وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ( الحج : 27 ) وقوله : وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ( الصافات : 7 - 8 ) . وأجيب بأن الجمع في الأولى باعتبار معنى الآية ، وكذلك في الثانية فإن الضامر اسم جمع كالجامل والباقر .

وكذلك في الثالثة إنما عاد الضمير إلى الجمع المستفاد من الكلام ، فلا يلزم عوده إلى كل .

وزعم الشيخ أثير الدين في تفسيره أن قوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله ( الجاثية : 7 - 8 ) ، ثم قال : أولئك لهم عذاب مهين ( الجاثية : 9 ) أنه مما روعي فيه المعنى بهذا اللفظ .

وليس كذلك ، فإن الضمير لم يعد إلى كل بل على الأفاكين الدالة عليه كل أفاك وأيضا فهاتان جملتان والكلام في الجملة الواحدة .

( الثاني ) : أن تضاف إلى معرفة ، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها ، سواء كانت الإضافة [ ص: 278 ] لفظا ، نحو : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 95 ) فراعى لفظ كل . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ولم يقل راعون ولا مسئولون .

أو معنى ، نحو : فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) ، فراعى لفظها ، وقال : وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) فراعى المعنى .

وقد اجتمع مراعاة اللفظ والمعنى في قوله تعالى : إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 93 إلى 95 ) هذا إذا جعلنا " من " موصولة وهو الظاهر ، فإن جعلناها نكرة موصوفة خرجت من هذا القسم إلى الأول .

( الثالث ) : أن تقطع عن الإضافة لفظا ، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها أيضا .

فمن الأول : كل آمن بالله ( البقرة : 285 ) قل كل يعمل على شاكلته ( الإسراء : 84 ) إن كل إلا كذب الرسل ( ص : 14 ) ولم يقل كذبوا فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) .

ومن الثاني : وكل كانوا ظالمين ( الأنفال : 54 ) كل في فلك يسبحون ( الأنبياء : 33 ) كل له قانتون ( الروم : 26 ) وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) .

قال أبو الفتح : وعلته أن أحد الجمعين عندهم كاف عن صاحبه ، فإن لفظ كل للأفراد ومعناها الجمع ، وهذا يدل على أنهم قدروا المضاف إليه المحذوف في الموضعين [ ص: 279 ] جمعا فتارة روعي كما إذا صرح به ، وتارة روعي لفظ كل ، وتكون حالة الحذف مخالفة لحال الإثبات .

قيل : ولو قال قائل : حيث أفرد يقدر الحذف مفردا ، وحيث جمع يقدر جمعا ، فيقدر في قوله : فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) كل واحد ، ويقدر في قوله : وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) كل نوع مما سبق لكان موافقا إذا أضيف لفظا إلى نكرة .

وما ذكروه يقتضي أن تقديره : وكلهم أتوه وكلا التقديرين سائغ ، والمراد الجمع .

ويتعين في قوله تعالى : كل في فلك يسبحون ( الأنبياء : 33 ) أن كلا من الشمس والقمر والليل والنهار لا يصح وصفه بالجمع ، وقد قدر الزمخشري : كل يعمل على شاكلته ( الإسراء : 84 ) كل أحد ، وهو يساعد ما ذكرناه . وما ذكرناه في هذه الحالة هو المشهور .

وقال السهيلي في نتاج الفكر : إذا قطعت " كل " عن الإضافة ، فيجب أن يكون خبرها جمعا ، لأنها اسم في معنى الجمع ، تقول : كل ذاهبون ، إذا تقدم ذكر قوم ، وأجاب عن إفراد الخبر في الآيات السابقة ، بأن فيها قرينة تقتضي تحسين المعنى بهذا اللفظ دون غيره .

أما قوله : كل يعمل على شاكلته ( الإسراء : 84 ) فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين ، مؤمنين وظالمين ، فلو جمعهم في الأخبار وقال : كل يعملون ، لبطل معنى الاختلاف ، وكان لفظ الإفراد أدل على المراد ، والمعنى كل فريق يعمل على شاكلته .

وأما قوله : إن كل إلا كذب الرسل ( ص : 14 ) فلأنه ذكر قرونا وأمما ، وختم ذكرهم بقوم تبع ، فلو قال : كل كذبوا ، لعاد إلى أقرب مذكور ، فكان يتوهم أن الإخبار عن قوم تبع خاصة ، فلما قال : إن كل إلا كذب علم أنه يريد كل فريق منهم كذب ، لأن إفراد الخبر عن " كل " حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى .

[ ص: 280 ] ( مسألة )

وتتصل ما بكل ، نحو : كلما رزقوا منها ( البقرة : 25 ) وهي مصدرية لكنها نائبة بصلتها عن ظرف زمان ، كما ينوب عنه المصدر الصريح ، والمعنى كل وقت .

وهذه تسمى ما المصدرية الظرفية أي النائبة عن الظرف ، لا أنها ظرف في نفسها ، فـ " كل " من " كلما " منصوب على الظرفية لإضافته إلى شيء هو قائم مقام الظرف .

ثم ذكر الفقهاء والأصوليون أن كلما للتكرار . قال الشيخ أبو حيان : وإنما ذلك من عموم " ما " لأن الظرفية مراد بها العموم ، فإذا قلت : أصحبك ما ذر لله شارق ، فإنما تريد العموم ، فكل أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ، لا أن لفظ كلما وضع للتكرار كما يدل عليه كلامهم ، وإنما جاءت " كل " توكيدا للعموم المستفاد من " ما " الظرفية . انتهى .

وقوله : إن التكرار من عموم " ما " ممنوع ، فإن ما المصدرية لا عموم لها ، ولا يلزم من نيابتها عن الظرف دلالتها على العموم ، وإن استفيد عموم في مثل هذا الكلام فليس من " ما " ، إنما هو من التركيب نفسه .

وذكر بعض الأصوليين أنها إذا وصلت " بما " صارت أداة لتكرار الأفعال وعمومها قصدي وفي الأسماء ضمني . قال تعالى : كلما نضجت جلودهم ( النساء : 56 ) وإذا جردت من لفظ ( ما ) ، انعكس الحكم وصارت عامة في الأسماء قصدا ، وفي الأفعال ضمنا .

ويظهر الفرق بينهما في قوله : كل امرأة أتزوجها فهي طالق : تطلق كل امرأة يتزوجها ، وتكون عامة في جميع النساء لدخولها على الاسم وهو قصدي ، ولو تزوج امرأة ثم تزوجها مرة أخرى لم تطلق في الثانية ، لعدم عمومها قصدا في الأسماء ، ولو قال : كلما تزوجت امرأة فهي طالق فتزوج امرأة مرارا طلقت في كل مرة لاقتضائها عموم الأفعال قصدا ، وهو التزوج .

[ ص: 281 ] ( مسألة ) : ويأتي كل صفة ، ذكره سيبويه في باب النعت قال : ومن الصفة أنت الرجل كل الرجل ، ومررت بالرجل كل الرجل .

قال الصفار : هذا يكون عند قصد التأكيد والمبالغة ، فإن قولك : الرجل معناه الكامل ، ومعنى كل الرجل أي هو الرجل ، لعظمته قد قام مقام الجنس ، كما تقول : أكلت شاة كل شاة ، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم : كل الصيد في جوف الفرا أي أن من صاده فقد صاد جميع الصيد لقيامه مقامه لعظمته ، قال : وهذا إنما يجوز إذا سبقها ما فيه رائحة الصفة كما ذكرنا ، فلو كان جامدا لم يجز ، نحو : مررت بعبد الله ، كل الرجل ، لا يفهم من عبد الله شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية