صفحة جزء
فصل

من المتشابه : آيات الصفات ، ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد ، نحو : الرحمن على العرش استوى [ ص: 602 ] [ طه : 5 ] كل شيء هالك إلا وجهه [ القصص : 88 ] ويبقى وجه ربك [ الرحمن : 27 ] . ولتصنع على عيني [ طه : 39 ] . يد الله فوق أيديهم [ الفتح : 10 ] . والسماوات مطويات بيمينه [ الزمر : 67 ] .

وجمهور أهل السنة - منهم السلف وأهل الحديث - على الإيمان بها ، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها .

أخرج أبو القاسم اللالكائي في " السنة " عن طريق قرة بن خالد ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة في قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى قالت : الكيف غير [ ص: 603 ] معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر .

وأخرج - أيضا - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل عن قوله الرحمن على العرش استوى فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ المبين ، وعلينا التصديق .

وأخرج - أيضا - عن مالك : أنه سئل عن الآية ؟ فقال : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وأخرج البيهقي عنه أنه قال : هو كما وصف نفسه ، ولا يقال : كيف ، وكيف عنه مرفوع .

وأخرج اللالكائي عن محمد بن الحسن ، قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .

وقال الترمذي : في الكلام على حديث الرؤية : المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة - مثل سفيان الثوري ، ومالك ، وابن المبارك ، وابن عيينة ، ووكيع ، وغيرهم - أنهم قالوا : نروي هذه الأحاديث كما جاءت ، ونؤمن بها . ولا يقال : كيف ، ولا نفسر ولا نتوهم .

وذهبت طائفة من أهل السنة : على أننا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى ; وهذا مذهب الخلف .

وكان إمام الحرمين يذهب إليه ، ثم رجع عنه ، فقال في الرسالة النظامية : الذي نرتضيه دينا وندين لله به عقدا ، اتباع سلف الأمة ، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها .

[ ص: 604 ] وقال ابن الصلاح : على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها ، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها ، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها .

واختار ابن برهان مذهب التأويل ، قال : ومنشأ الخلاف بين الفريقين : هل يجوز أن يكون في القرآن شيء لم نعلم معناه ، أو لا ، بل يعلمه الراسخون في العلم ؟

وتوسط ابن دقيق العيد فقال : إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر ، أو بعيدا توقفنا عنه ، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه ، قال : وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف ، كما في قوله تعالى : ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله [ الزمر : 56 ] فنحمله على حق الله وما يجب له .

ذكر ما وقفت عليه من تأويل الآية المذكورة على طريقة أهل السنة :

من ذلك صفة ( الاستواء ) وحاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبة :

أحدها : حكى مقاتل والكلبي ، عن ابن عباس : أن ( استوى ) بمعنى استقر ، وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل ، فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم .

ثانيها : أن ( استوى ) بمعنى ( استولى ) . ورد بوجهين :

أحدهما : أن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما ، فأي فائدة في تخصيص العرش ؟

والآخر : أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة ، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك .

أخرج اللالكائي في " السنة " عن ابن الأعرابي : أنه سئل عن معنى ( استوى ) فقال : هو على عرشه كما أخبر .

فقيل : يا أبا عبد الله ، معناه ( استولى ) ؟

[ ص: 605 ] قال : اسكت ، لا يقال : استولى على الشيء ; إلا إذا كان له مضاد ، فإذا غلب أحدهما ، قيل : استولى .

ثالثها : أنه بمعنى صعد قاله أبو عبيد ، ورد بأنه تعالى منزه عن الصعود أيضا .

رابعها : أن التقدير ( الرحمن علا ) أي : ارتفع ، من العلو ، والعرش له استوى . حكاه إسماعيل الضرير في تفسيره . ورد بوجهين :

أحدهما : أنه جعل ( على ) فعلا ، وهي حرف هنا باتفاق ، فلو كانت فعلا لكتبت بالألف ، كقوله علا في الأرض [ القصص : 4 ] .

والآخر : أنه رفع ( العرش ) ولم يرفعه أحد من القراء .

خامسها : أن الكلام تم عند قوله الرحمن على العرش ثم ابتدأ بقوله ( استوى ) له ما في السماوات وما في الأرض [ طه : 5 - 6 ] . ورد : بأنه يزيل الآية عن نظمها ومرادها .

قلت : ولا يتأتى له في قوله : ثم استوى على العرش [ الأعراف : 54 ] .

سادسها : أن معنى ( استوى ) : أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه ، كقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان [ فصلت : 11 ] أي : قصد وعمد إلى خلقها . قاله الفراء والأشعري وجماعة أهل المعاني . وقال إسماعيل الضرير : إنه الصواب .

قلت : يبعده تعديته بعلى ، ولو كان كما ذكروه لتعدى بإلى ، كما في قوله ( ثم استوى إلى السماء ) .

سابعها : قال ابن اللبان : الاستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل ، أي : قام بالعدل كقوله تعالى : قائما بالقسط [ آل عمران : 18 ] . والعدل هو استواؤه ، ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزونا بحكمته البالغة .

ومن ذلك : ( النفس ) في قوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [ ص: 606 ] [ المائدة : 116 ] ووجه بأنه خرج على سبيل المشاكلة مرادا به الغيب ; لأنه مستتر كالنفس .

وقوله : ويحذركم الله نفسه [ آل عمران : 28 ] . أي : عقوبته ، وقيل : إياه .

وقال السهيلي : النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد ، وقد استعمل من لفظة النفاسة والشيء النفيس ، فصلحت للتعبير عنه سبحانه وتعالى .

وقال ابن اللبان : أولها العلماء بتأويلات :

ومنها : أن النفس عبر بها عن الذات ، قال : وهذا وإن كان سائغا في اللغة ، ولكن تعدي الفعل إليها بفي المفيدة للظرفية محال عليه تعالى .

وقد أولها بعضهم بالغيب ، أي : ولا أعلم ما في غيبك وسرك ، قال : وهذا حسن ، لقوله في آخر الآية : إنك أنت علام الغيوب .

ومن ذلك : ( الوجه ) وهو مؤول بالذات : وقال ابن اللبان في قوله : يريدون وجهه [ الأنعام : 52 ] . إنما نطعمكم لوجه الله [ الإنسان : 9 ] . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ الليل : 20 ] : المراد إخلاص النية .

وقال غيره في قوله : فثم وجه الله [ البقرة : 115 ] أي : الجهة التي أمر بالتوجه إليها .

ومن ذلك : ( العين ) وهي مؤولة بالبصر أو الإدراك ، بل قال بعضهم : إنها حقيقة في ذلك ، خلافا لتوهم بعض الناس أنها مجاز ، وإنما المجاز في تسمية العضو بها .

وقال ابن اللبان : نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة ، التي بها - سبحانه - ينظر للمؤمنين وبها ينظرون إليه ، قال تعالى : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة [ النمل : 13 ] . نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقا ; لأنها المرادة بالعين المنسوبة إليه . وقال : قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها [ الأنعام : 104 ] قال : فقوله : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ الطور : 48 ] أي : بآياتنا تنظر بها إلينا ، وننظر بها إليك .

[ ص: 607 ] قال : ويؤيد أن المراد بالأعين هنا الآيات كونه علل بها الصبر لحكم ربه صريحا في قوله : إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ الإنسان : 23 - 24 ] .

قال : وقوله في سفينة نوح : تجري بأعيننا [ القمر : 14 ] . أي : بآياتنا ، بدليل : وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها [ هود : 41 ] . وقال : ولتصنع على عيني [ طه : 39 ] أي : على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك : أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم [ القصص : 7 ] الآية . انتهى .

وقال غيره : المراد في الآيات كلاءته تعالى وحفظه .

ومن ذلك : ( اليد ) في قوله : لما خلقت بيدي [ ص : 75 ] . يد الله فوق أيديهم [ الفتح : 10 ] مما عملت أيدينا [ يس : 71 ] . وأن الفضل بيد الله [ الحديد : 29 ] . وهي مؤولة بالقدرة .

وقال السهيلي : اليد في الأصل - كالبصر - عبارة عن صفة لموصوف ، ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله : أولي الأيدي والأبصار [ ص : 45 ] . ولم يمدحهم بالجوارح ; لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر ، قال : ولهذا قال الأشعري : إن اليد صفة ورد بها الشرع . والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة ، إلا أنها أخص والقدرة أعم ، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة ; فإن في اليد تشريفا لازما .

وقال البغوي في قوله : ( بيدي ) : في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنها [ ص: 608 ] ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة ، وإنما هما صفتان من صفات ذاته .

وقال مجاهد : اليد هاهنا صلة وتأكيد ، كقوله : ويبقى وجه ربك [ الرحمن : 27 ] .

قال البغوي : وهذا تأويل غير قوي ; لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول : إن كنت خلقته فقد خلقتني ، وكذلك في القدرة والنعمة ، لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس .

وقال ابن اللبان : فإن قلت : فما حقيقة اليدين في خلق آدم ؟

قلت : الله أعلم بما أراد ; ولكن الذي استثمرته من تدبر كتابه : أن ( اليدين ) استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله ، ولنورها القائم بصفة عدله . ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله . قال : وصاحبة الفضل هي اليمين ، التي ذكرها في قوله : والسماوات مطويات بيمينه [ الزمر : 67 ] . سبحانه وتعالى .

ومن ذلك : ( الساق ) في قوله : يوم يكشف عن ساق [ القلم : 42 ] ومعناه : عن شدة وأمر عظيم ، كما يقال : قامت الحرب على ساق .

أخرج الحاكم في المستدرك : من طريق عكرمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله : يوم يكشف عن ساق قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر ، فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر :


اصبر عناق إنه شر باق قد سن لي قومك ضرب الأعناق




وقامت الحرب بنا على ساق

قال ابن عباس : هذا يوم كرب وشدة .

ومن ذلك : ( الجنب ) في قوله تعالى : على ما فرطت في جنب الله [ الزمر : 56 ] أي : في طاعته وحقه ; لأن التفريط إنما يقع في ذلك ، ولا يقع في الجنب المعهود .

ومن ذلك : صفة ( القرب ) في قوله : فإني قريب [ البقرة : 186 ] . ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ ق : 16 ] أي : بالعلم .

ومن ذلك : صفة ( الفوقية ) في قوله : وهو القاهر فوق عباده [ الأنعام : 18 ] .

[ ص: 609 ] يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] . والمراد بها العلو من غير جهة ، وقد قال فرعون : وإنا فوقهم قاهرون [ الأعراف : 127 ] ولا شك أنه لم يرد العلو المكاني .

ومن ذلك : صفة ( المجيء ) في قوله : وجاء ربك [ الفجر : 22 ] . أو يأتي ربك [ الأنعام : 158 ] أي : أمره ; لأن الملك إنما يأتي بأمره أو بتسليطه ، كما قال تعالى : وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 27 ] فصار كما لو صرح به .

وكذا قوله : فاذهب أنت وربك فقاتلا [ المائدة : 24 ] أي : اذهب بربك ، أي : بتوفيقه وقوته .

ومن ذلك : صفة ( الحب ) في قوله يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] . فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] .

وصفة ( الغضب ) في قوله : وغضب الله عليهم [ الفتح : 6 ] .

وصفة ( الرضا ) في قوله : رضي الله عنهم [ المائدة : 119 ] .

وصفة ( العجب ) في قوله : بل عجبت [ الصافات : 12 ] - بضم التاء - وقوله وإن تعجب فعجب قولهم [ الرعد : 5 ] .

وصفة ( الرحمة ) في آيات كثيرة .

وقد قال العلماء : كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسر بلازمها .

قال الإمام فخر الدين : جميع الأعراض النفسانية - أعني : الرحمة والفرح ، والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات ، مثاله : الغضب فإن أوله غليان دم القلب ، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار . وكذلك : الحياء ، له أول وهو انكسار يحصل في النفس ، وله غرض وهو ترك الفعل ، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس . انتهى .

[ ص: 610 ] وقال الحسين بن الفضل : العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه . وسئل الجنيد عن قوله : وإن تعجب فعجب قولهم [ الرعد : 5 ] . فقال : إن الله لا يعجب من شيء ، ولكن الله وافق رسوله ، فقال : وإن تعجب فعجب قولهم أي : هو كما تقول .

ومن ذلك لفظة ( عند ) في قوله تعالى : عند ربك [ الأعراف : 206 ] . و من عنده [ المائدة : 52 ] ، ومعناهما الإشارة إلى التمكين والزلفى والرفعة .

ومن ذلك : قوله : وهو معكم أين ما كنتم [ الحديد : 4 ] ، أي : بعلمه ، وقوله : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم [ الأنعام : 3 ] .

قال البيهقي : الأصح أن معناه أنه المعبود في السماوات وفي الأرض ، مثل قوله : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ الزخرف : 84 ] .

وقال الأشعري : الظرف متعلق ب ( يعلم ) أي : عالم بما في السماوات والأرض .

ومن ذلك قوله : سنفرغ لكم أيها الثقلان [ الرحمن : 31 ] أي : سنقصد لجزائكم .

تنبيه : قال ابن اللبان : ليس من المتشابه قوله تعالى : إن بطش ربك لشديد ; لأنه فسره بعده بقوله : إنه هو يبدئ ويعيد [ البروج : 12 - 13 ] تنبيها على أن بطشه عبارة عن تصرفه في بدئه وإعادته وجميع تصرفاته في مخلوقاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية