صفحة جزء
خاتمة

أورد بعضهم سؤالا ، وهو أنه : هل للمحكم مزية على المتشابه أو لا ؟ فإن قلتم بالثاني : فهو خلاف الإجماع ، أو بالأول : فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلام الله سبحانه وتعالى سواء ، وأنه منزل بالحكمة !

وأجاب أبو عبد الله البكراباذي : بأن المحكم كالمتشابه من وجه ، ويخالفه من وجه ، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع ، وأنه لا يختار القبيح .

ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد ; فمن سمعه أمكنه أن [ ص: 621 ] يستدل به في الحال ، والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ; ليحمله على الوجه المطابق . ولأن المحكم أصل ، والعلم بالأصل أسبق ، ولأن المحكم يعلم مفصلا ، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا .

وقال بعضهم : إن قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده به البيان والهدى ؟ قلنا : إن كان مما يمكن علمه ، فله فوائد :

منها : الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه ، والبحث عن دقائقه ، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب .

ومنها ظهور التفاضل ، وتفاوت الدرجات ; إذ لو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ، ولم يظهر فضل العالم على غيره .

وإن كان مما لا يمكن علمه ، فله فوائد :

منها : ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه ، والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ ; وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم ، لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم - وعجزوا عن الوقوف على معناه ، مع بلاغتهم وأفهامهم - دل على أنه نزل من عند الله ، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف على معناه .

وقال الإمام فخر الدين : من الملحدة من طعن في القرآن ; لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقال : إنكم تقولون : إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ; ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه :

فالجبري متمسك بآيات الجبر كقوله تعالى : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ الأنعام : 25 ] .

والقدري يقول : هذا مذهب الكفار ، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض الذم في قوله : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر [ فصلت : 5 ] . وفي موضع آخر : وقالوا قلوبنا غلف [ البقرة : 88 ] .

ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] .

ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى : يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] .

[ ص: 622 ] والنافي متمسك بقوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] .

ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة له متشابهة ، وإنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا ؟ !

قال : والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد :

منها أنه يوجب المشقة في الوصول إلى المراد ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب .

ومنها : أنه لو كان القرآن كله محكما لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ; وكان بصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به ; فإذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه ، وينصر مقالته ، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب ، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله ، ويتصل إلى الحق .

ومنها : أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه ، افتقر إلى العلم بطريق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ; فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة .

ومنها : أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطبائع العوام تنفر في أكثر الأمر عن درك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي ، فوقع التعطيل ; فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيلوه ; ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح ، فالقسم الأول : - وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر - يكون من المتشابهات ، والقسم الثاني : - وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر - من المحكمات .

التالي السابق


الخدمات العلمية