صفحة جزء
[ ص: 647 ] النوع السابع والأربعون

في ناسخه ومنسوخه

أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون ، منهم : أبو عبيد القاسم بن سلام ، وأبو داود السجستاني ، وأبو جعفر النحاس وابن الأنباري ، ومكي ، وابن العربي ، وآخرون .

قال الأئمة : لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ .

وقد قال علي لقاص : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت .

وفي هذا النوع مسائل :

الأولى : يرد النسخ بمعنى الإزالة ، ومنه قوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته [ الحج : 52 ] .

وبمعنى التبديل ، ومنه : وإذا بدلنا آية مكان آية [ النحل : 101 ] .

وبمعنى التحويل ، كتناسخ المواريث ، بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى واحد .

[ ص: 648 ] وبمعنى النقل من موضع إلى موضع ، ومنه : نسخت الكتاب ، إذا نقلت ما فيه ، حاكيا للفظه وخطه .

قال مكي : وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن ، وأنكر على النحاس إجازته ذلك ، محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ ; وأنه إنما يأتي بلفظ آخر .

وقال السعيدي : يشهد لما قاله النحاس قوله تعالى : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ الجاثية : 29 ] . وقال : وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ الزخرف : 4 ] .

ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوما جميعه في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون [ الواقعة : 78 - 79 ] .

الثانية : النسخ مما خص الله به هذه الأمة لحكم ، منها التيسير .

وقد أجمع المسلمون على جوازه ، وأنكره اليهود ظنا منهم أنه بداء ، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له ، وهو باطل ; لأنه بيان مدة الحكم كالإحياء بعد الإماتة وعكسه ، والمرض بعد الصحة وعكسه ، والفقر بعد الغنى وعكسه ، وذلك لا يكون بداء ، هكذا الأمر والنهي .

واختلف العلماء :

[ ص: 649 ] فقيل : لا ينسخ القرآن إلا بقرآن ، لقوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ البقرة : 106 ] قالوا : ولا يكون مثل القرآن وخيرا منه إلا قرآن .

وقيل : بل ينسخ القرآن بالسنة ، لأنها أيضا من عند الله ، قال تعالى : وما ينطق عن الهوى [ النجم : 3 ] .

وجعل منه آية الوصية الآتية .

والثالث : إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نسخت ، وإن كانت باجتهاد فلا . حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره .

وقال الشافعي : حيث وقع نسخ القرآن بالسنة ، فمعها قرآن عاضد لها ، وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له ; ليتبين توافق القرآن والسنة .

وقد بسطت فروع هذه المسألة في شرح منظومة جمع الجوامع في الأصول .

الثالثة : لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي ، ولو بلفظ الخبر . أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ ، ومنه الوعد والوعيد .

وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيرا من آيات الإخبار والوعد والوعيد .

الرابعة : النسخ أقسام :

أحدها : نسخ المأمور به قبل امتثاله ، وهو النسخ على الحقيقة ، كآية النجوى .

الثاني : ما نسخ مما كان شرعا لمن قبلنا ، كآية شرع القصاص والدية ، أو كان أمر به أمرا جمليا كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة ، وصوم عاشوراء برمضان ، وإنما يسمى هذا نسخا تجوزا .

الثالث : ما أمر به لسبب ، ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والصفح ، ثم نسخ بإيجاب القتال . وهذا في الحقيقة ليس نسخا ، بل هو من قسم المنسإ ، [ ص: 650 ] كما قال تعالى ( أو ننسها ) فالمنسأ : هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون ، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى ، وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف ، وليس كذلك ، بل هي من المنسإ ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما ، لعلة تقتضي ذلك الحكم ، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر ، وليس بنسخ ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله .

وقال مكي : ذكر جماعة : أن ما ورد في الخطاب مشعر بالتوقيت والغاية ، مثل قوله في البقرة : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره [ البقرة : 109 ] محكم غير منسوخ ; لأنه مؤجل بأجل ، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه .

الخامسة : قال بعضهم : سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام :

قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ : وهو ثلاثة وأربعون : سورة الفاتحة ، ويوسف ، ويس ، والحجرات ، والرحمن ، والحديد ، والصف ، والجمعة ، والتحريم ، والملك ، والحاقة ، ونوح ، والجن ، والمرسلات ، وعم ، والنازعات ، والانفطار ، وثلاث بعدها ، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن ; إلا التين ، والعصر ، والكافرون .

وقسم فيه الناسخ والمنسوخ : وهي خمسة وعشرون : البقرة وثلاث بعدها ، والحج ، والنور ، وتالياها ، والأحزاب ، وسبأ ، والمؤمن ، والشورى ، والذاريات ، والطور ، والواقعة ، والمجادلة ، والمزمل ، والمدثر ، وكورت ، والعصر .

وقسم فيه الناسخ فقط : وهو ست : الفتح ، والحشر ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، والأعلى .

وقسم فيه المنسوخ فقط : وهو الأربعون الباقية . كذا قال ، وفيه نظر يعرف مما سيأتي .

السادسة : قال مكي : الناسخ أقسام :

فرض نسخ فرضا ، ولا يجوز العمل بالأول ، كنسخ الحبس للزواني بالحد .

وفرض نسخ فرضا ويجوز العمل بالأول ، كآية المصابرة .

[ ص: 651 ] وفرض نسخ ندبا كالقتال ، كان ندبا ثم صار فرضا .

وندب نسخ فرضا ، كقيام الليل ، نسخ بالقراءة في قوله : فاقرءوا ما تيسر من القرآن [ المزمل : 20 ] .

السابعة : النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب :

أحدها : ما نسخ تلاوته وحكمه معا . قالت عائشة : كان فيما أنزل : ( عشر رضعات معلومات ) فنسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ من القرآن . رواه الشيخان .

وقد تكلموا في قولها : ( وهن مما يقرأ ) : فإن ظاهره بقاء التلاوة ، وليس كذلك .

وأجيب بأن المراد : قارب الوفاة ، أو : أن التلاوة نسخت أيضا ، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي وبعض الناس يقرؤها .

وقال أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت .

وقال مكي : هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو ، والناسخ أيضا غير متلو ، ولا أعلم له نظيرا . انتهى .

الضرب الثاني : ما نسخ حكمه دون تلاوته ; وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة ، وهو على الحقيقة قليل جدا ، وإن أكثر الناس من تعداد الآيات فيه ; فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك وأتقنه .

[ ص: 652 ] والذي أقوله أن الذي أورده المكثرون أقسام :

قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص : ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه . وذلك مثل قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون [ البقرة : 3 ] . و أنفقوا مما رزقناكم [ البقرة : 254 ] ونحو ذلك .

قالوا : إنه منسوخ بآية الزكاة ، وليس كذلك بل هو باق .

أما الأولى : فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق ، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة ، وبالإنفاق على الأهل ، وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة ، وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة .

والآية الثانية : يصلح حملها على الزكاة ، وقد فسرت بذلك .

وكذا قوله تعالى : أليس الله بأحكم الحاكمين [ التين : 8 ] قيل : إنها مما نسخ بآية السيف ، وليس كذلك ; لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا ، لا يقبل هذا الكلام النسخ ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة .

وقوله في البقرة : وقولوا للناس حسنا [ البقرة : 83 ] عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف . وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق ، فهو خبر لا نسخ فيه ، وقس على ذلك .

وقسم هو من قسم المخصوص ، لا من قسم المنسوخ : وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد ، كقوله إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا [ العصر : 2 ، 3 - 3 ] والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا [ الشعراء : 224 - 227 ] فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره [ البقرة : 109 ] وغير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية . ، وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ .

ومنه قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] . قيل : إنه نسخ بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [ المائدة : 5 ] وإنما هو مخصوص به .

وقسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا ، أو في أول الإسلام ولم ينزل في القرآن : كإبطال نكاح نساء الآباء ، ومشروعية القصاص والدية ، وحصر الطلاق في الثلاث . وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب ، ولكن عدم إدخاله أقرب ، وهو [ ص: 653 ] الذي رجحه مكي وغيره . ووجهوه : بأن ذلك لو عد في الناسخ لعد جميع القرآن منه ، إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب . قالوا : وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية . انتهى .

نعم ، النوع الأخير منه ، وهو رافع ما كان في أول الإسلام ، إدخاله أوجه من القسمين قبله .

إذا علمت ذلك : فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون الجم الغفير ، مع آيات الصفح والعفو ، إن قلنا إن آية السيف لم تنسخها ، وبقي مما يصلح لذلك عدد يسير . وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف ، وها أنا أورده هنا محررا :

التالي السابق


الخدمات العلمية