صفحة جزء
تنبيه : حكى القاضي أبو بكر في " الانتصار " عن قوم : إنكار هذا الضرب ; لأن الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها .

وقال أبو بكر الرازي : نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ، ويرفعه من أوهامهم ، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف ، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ الأعلى : 18 - 19 ] . ولا يعرف اليوم منها شيء . ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا توفي لا يكون متلوا في القرآن ، أو يموت وهو متلو موجود بالرسم ، ثم ينسيه الله الناس ، ويرفعه من أذهانهم . وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - . انتهى .

وقال في " البرهان " في قول عمر : ( لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ) - يعني آية الرجم - ظاهره أن كتابتها جائزة ، وإنما منعه قول الناس ، والجائز في [ ص: 666 ] نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه ، فإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة ; لأن هذا شأن المكتوب .

وقد يقال : لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ، ولم يعرج على مقالة الناس ; لأن مقالة الناس لا تصلح مانعا . وبالجملة هذه الملازمة مشكلة ، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد ، والقرآن لا يثبت به ، وإن ثبت الحكم ، ومن هنا أنكر ابن ظفر في ( " الينبوع " ) عد هذا مما نسخ تلاوته قال ; لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن .

قال : وإنما هذا من المنسأ لا النسخ ، وهما مما يلتبسان ، والفرق بينهما أن المنسأ لفظه قد يعلم حكمه . انتهى .

وقوله : ( لعله كان يعتقد أنه خبر واحد ) مردود ، فقد صح أنه تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت ، قال : كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان المصحف ، فمرا على هذه الآية فقال زيد : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) ، فقال عمر : لما نزلت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أكتبها ؟ فكأنه كره ذلك ، فقال عمر : ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد ، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم .

قال ابن حجر في شرح المنهاج : فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها ; لكون العمل على غير الظاهر من عمومها .

قلت : وخطر لي في ذلك نكتة حسنة ، وهو أن سببه التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف ، وإن كان حكمها باقيا لأنه أثقل الأحكام وأشدها ، وأغلظ الحدود ، وفيه الإشارة إلى ندب الستر .

وأخرج النسائي : أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت : ألا تكتبها في [ ص: 667 ] المصحف ؟ قال : ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان ! ولقد ذكرنا ذلك ، فقال عمر : أنا أكفيكم ، فقال : يا رسول الله ، اكتب لي آية الرجم قال : لا تستطيع .

قوله : ( اكتب لي ) أي : ائذن لي في كتابتها ، أو مكني من ذلك .

وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن ، عن يعلى بن حكيم ، عن زيد بن أسلم : أن عمر خطب الناس ، فقال : لا تشكو في الرجم ، فإنه حق ، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف ، فسألت أبي بن كعب ، فقال : أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدفعت في صدري وقلت : تستقرئه آية الرجم ، وهم يتسافدون تسافد الحمر ؟ .

قال ابن حجر : وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها ، وهو الاختلاف .

تنبيه : قال ابن الحصار في هذا النوع : إن قيل : كيف يقع النسخ إلى غير بدل ، وقد قال تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ البقرة : 106 ] . وهذا إخبار لا يدخله خلف ؟ .

فالجواب : أن تقول : كل ما ثبت الآن في القرآن ولم ينسخ فهو بدل مما قد نسخت تلاوته ، وكل ما نسخه الله من القرآن - مما لا نعلمه الآن - فقد أبدله بما علمناه ، وتواتر إلينا لفظه ومعناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية