صفحة جزء
[ ص: 29 ] النوع الثاني والخمسون في حقيقته ومجازه .

لا خلاف في وقوع الحقائق في القرآن وهي كل لفظ بقي على موضوعه ولا تقديم فيه ولا تأخير وهذا أكثر الكلام .

وأما المجاز فالجمهور أيضا على وقوعه فيه ، وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية ، وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير ، وذلك محال على الله تعالى .

وهذه شبهة باطلة ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن ، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها .

وقد أفرده بالتصنيف الإمام عز الدين ابن عبد السلام ولخصته مع زيادات كثيرة في كتاب سميته : مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن وهو قسمان .

الأول : المجاز في التركيب ، ويسمى مجاز الإسناد ، والمجاز العقلي وعلاقته الملابسة وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لملابسته له كقوله تعالى : وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [ الأنفال : 2 ] ، نسبت الزيادة - وهي فعل الله - إلى الآيات لكونها سببا لها يذبح أبناءهم [ القصص : 4 ] . ياهامان ابن لي [ غافر : 36 ] . نسب الذبح وهو فعل الأعوان إلى فرعون والبناء وهو فعل العملة إلى [ ص: 30 ] هامان لكونهما آمرين به .

وكذا قوله : وأحلوا قومهم دار البوار [ إبراهيم : 28 ] ، نسب الإحلال إليهم لتسببهم في كفرهم بأمرهم إياهم به .

ومنه قوله تعالى : يوما يجعل الولدان شيبا [ المزمل : 17 ] ، نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه . عيشة راضية [ الحاقة : 21 ] ؛ أي : مرضية فإذا عزم الأمر [ محمد : 21 ] ؛ أي : عزم عليه ، بدليل : فإذا عزمت [ آل عمران : 159 ] .

وهذا القسم أربعة أنواع :

أحدها : ما طرفاه حقيقيان كالآية المصدر بها ، وكقوله : وأخرجت الأرض أثقالها [ الزلزلة : 2 ] .

ثانيها : مجازيان ، نحو : فما ربحت تجارتهم [ البقرة : 16 ] ؛ أي : ما ربحوا فيها ، وإطلاق الربح والتجارة هنا مجاز .

ثالثها ورابعها : ما أحد طرفيه حقيقي دون الآخر .

أما الأول والثاني ، فكقوله : أم أنزلنا عليهم سلطانا [ الروم : 35 ] ؛ أي : برهانا كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعوا [ المعارج : 15 ، 16 ، 17 ] ، فإن الدعاء من النار مجاز .

وقوله : حتى تضع الحرب أوزارها [ محمد : 4 ] . تؤتي أكلها كل حين [ إبراهيم : 25 ] ، فأمه هاوية [ القارعة : 9 ] ، واسم الأم الهاوية مجاز ، أي : كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له ، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع .

القسم الثاني : المجاز في المفرد ، ويسمى المجاز اللغوي ، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا ، وأنواعه كثيرة .

أحدها : الحذف ، وسيأتي مبسوطا في نوع الإيجاز ، فهو به أجدر خصوصا إذا قلنا إنه ليس من أنواع المجاز .

الثاني : الزيادة وسبق تحرير القول فيها في نوع الإعراب .

[ ص: 31 ] الثالث : إطلاق اسم الكل على الجزء ، نحو : يجعلون أصابعهم في آذانهم [ البقرة : 19 ] ؛ أي : أناملهم . ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة من الفرار ، فكأنهم جعلوا الأصابع ، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم [ المنافقون : 4 ] ؛ أي : وجوههم ؛ لأنه لم ير جملتهم . فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 158 ] أطلق الشهر وهو اسم الثلاثين ليلة ، وأراد جزءا منه ، كذا أجاب به الإمام فخر الدين عن استشكال أن الجزاء إنما يكون بعد تمام الشرط ، والشرط أن يشهد الشهر وهو اسم لكله حقيقة ، فكأنه أمر بالصوم بعد مضي الشهر وليس كذلك ، وقد فسره علي وابن عباس وابن عمر على أن المعنى : من شهد أول الشهر فليصم جميعه ، وإن سافر في أثنائه .

أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما ، وهو أيضا من هذا النوع ويصلح أن يكون من نوع الحذف .

الرابع : عكسه ، نحو : ويبقى وجه ربك [ الرحمن : 27 ] ؛ أي : ذاته فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 144 ] ؛ أي : ذواتكم إذ الاستقبال يجب بالصدر وجوه يومئذ ناعمة [ الغاشية : 8 ] ، وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة [ الغاشية : 2 ، 3 ] ، عبر بالوجوه عن جميع الأجساد ؛ لأن التنعم والنصب حاصل بكلها ذلك بما قدمت يداك [ الحج : 10 ] ، فبما كسبت أيديكم [ الشورى : 30 ] ؛ أي : قدمت وكسبتم ، ونسب ذلك إلى الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها قم الليل [ المزمل : 2 ] ، وقرآن الفجر [ الإسراء : 78 ] ، واركعوا مع الراكعين [ البقرة : 43 ] ، ومن الليل فاسجد له [ الإنسان : 26 ] ، أطلق كلا من القيام والقراءة والركوع والسجود على الصلاة وهو بعضها هديا بالغ الكعبة [ المائدة : 95 ] ؛ أي : الحرم كله ، بدليل أنه لا يذبح فيها .

تنبيه : ألحق بهذين النوعين شيئان .

أحدهما : وصف البعض بصفة الكل كقوله : ناصية كاذبة خاطئة [ العلق : 16 ] ، فالخطأ صفة الكل وصف به الناصية ، وعكسه كقوله : إنا منكم وجلون [ الحجر : 52 ] ، والوجل صفة القلب ولملئت منهم رعبا [ الكهف : 18 ] ، والرعب إنما يكون في القلب .

[ ص: 32 ] والثاني : إطلاق لفظ بعض مرادا به الكل ، ذكره أبو عبيدة وخرج عليه قوله ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه [ الزخرف : 63 ] ؛ أي : كله وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم [ غافر : 28 ] ، وتعقب بأنه لا يجب على النبي بيان كل ما اختلف فيه ، بدليل الساعة والروح ونحوهما ، وبأن موسى كان وعدهم بعذاب في الدنيا وفي الآخرة فقال : يصبكم هذا العذاب في الدنيا ، وهو بعض الوعيد من غير نفي عذاب الآخرة . ذكره ثعلب .

قال الزركشي : ويحتمل أيضا أن يقال : إن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه ، فكيف بعضه ، ويؤيد ما قاله ثعلب قوله فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون [ يونس : 46 ] .

الخامس : إطلاق اسم الخاص على العام ، نحو : إنا رسول رب العالمين [ الشعراء : 16 ] ؛ أي : رسله .

السادس : عكسه ، نحو : ويستغفرون لمن في الأرض [ الشورى : 5 ] ؛ أي : المؤمنين ، بدليل قوله : ويستغفرون للذين آمنوا [ غافر : 7 ] .

السابع : إطلاق اسم الملزوم على اللازم

الثامن : عكسه ، نحو : هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء [ المائدة : 112 ] ؛ أي : هل يفعل ؟ أطلق الاستطاعة على الفعل لأنها لازمة له .

التاسع : إطلاق المسبب على السبب ، نحو : وينزل لكم من السماء رزقا [ غافر : 13 ] ، قد أنزلنا عليكم لباسا [ الأعراف : 26 ] ؛ أي : مطرا يتسبب عنه الرزق واللباس ، لا يجدون نكاحا [ النور : 33 ] ؛ أي : مؤنة من مهر ونفقة وما لا بد للمتزوج منه .

العاشر : عكسه ، نحو : ما كانوا يستطيعون السمع [ هود : 20 ] ؛ أي : القبول والعمل به لأنه مسبب عن السمع .

تنبيه : من ذلك نسبة الفعل إلى سبب السبب كقوله : فأخرجهما مما كانا فيه [ البقرة : 36 ] ، كما أخرج أبويكم من الجنة [ الأعراف : 27 ] ، فإن المخرج في الحقيقة هو الله [ ص: 33 ] تعالى وسبب ذلك أكل الشجرة ، وسبب الأكل وسوسة الشيطان .

الحادي عشر : تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، نحو : وآتوا اليتامى أموالهم [ النساء : 2 ] ؛ أي : الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد البلوغ فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن [ البقرة : 232 ] ؛ أي : الذين كانوا أزواجهن : من يأت ربه مجرما [ طه : 74 ] ، سماه مجرما باعتبار ما كان في الدنيا من الإجرام .

الثاني عشر : تسميته باسم ما يؤول إليه ، نحو : إني أراني أعصر خمرا [ يوسف : 36 ] ؛ أي : عنبا يؤول إلى الخمرية ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب [ نوح : 27 ] ؛ أي : صائرا إلى الكفر والفجور حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، سماه زوجا لأن العقد يؤول إلى زوجية ; لأنها لا تنكح إلا في حال كونه زوجا فبشرناه بغلام حليم [ الصافات : 101 ] ، نبشرك بغلام عليم [ الحجر : 53 ] ، وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم .

الثالث عشر : إطلاق اسم الحال على المحل ، نحو : ففي رحمة الله هم فيها خالدون [ آل عمران : 107 ] ؛ أي : في الجنة لأنها محل الرحمة بل مكر الليل [ سبإ : 33 ] ؛ أي : في الليل إذ يريكهم الله في منامك [ الأنفال : 33 ] ؛ أي : في عينيك على قول الحسن .

الرابع عشر : عكسه ، نحو : فليدع ناديه [ العلق : 17 ] ؛ أي : أهل ناديه ، أي : مجلسه ، ومنه التعبير باليد عن القدرة ، نحو : بيده الملك [ الملك : 1 ] ، وبالقلب عن العقل ، نحو : لهم قلوب لا يفقهون بها [ الأعراف : 179 ] ؛ أي : عقول . وبالأفواه عن الألسن ، نحو : يقولون بأفواههم [ آل عمران : 167 ] ، وبالقرية عن ساكنيها ، نحو : واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، وقد اجتمع هذا النوع وما قبله في قوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد [ الأعراف : 31 ] ، فإن أخذ الزينة غير ممكن لأنها مصدر ، فالمراد محلها ، فأطلق عليه اسم [ ص: 34 ] الحال ، وأخذها للمسجد نفسه لا يجب ، فالمراد به الصلاة فأطلق اسم المحل على الحال .

الخامس عشر : تسمية الشيء باسم آلته ، نحو : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ الشعراء : 84 ] ؛ أي : ثناء حسنا ؛ لأن اللسان آلته وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه [ إبراهيم : 4 ] ؛ أي : بلغة قومه .

السادس عشر : تسمية الشيء باسم ضده ، نحو : فبشرهم بعذاب أليم [ آل عمران : 21 ] ، والبشارة حقيقة في الخبر السار .

ومنه تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه ذكره السكاكي ، وخرج عليه قوله تعالى : ما منعك ألا تسجد [ الأعراف : 12 ] ، يعني : ما دعاك إلى ألا تسجد ؟ وسلم بذلك من دعوى زيادة ( لا ) .

السابع عشر : إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه تشبيها ، نحو : جدارا يريد أن ينقض فأقامه [ الكهف : 77 ] ، وصفه بالإرادة ، وهي من صفات الحي تشبيها لميله للوقوع بإرادته .

الثامن عشر : إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته ، نحو : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن [ الطلاق : 2 ] ؛ أي : قاربن بلوغ الأجل : أي : انقضاء العدة لأن الإمساك لا يكون بعده وهو في قوله : فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن [ البقرة : 232 ] ، حقيقة .

فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ الأعراف : 34 ] ؛ أي : فإذا قرب مجيئه ، وبه يندفع السؤال المشهور فيها أن عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير . وليخش الذين لو تركوا من خلفهم الآية [ النساء : 9 ] ؛ أي : لو قاربوا أن يتركوا خافوا ؛ لأن الخطاب للأوصياء ، وإنما يتوجه عليهم قبل الترك لأنهم بعده أموات إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا [ المائدة : 6 ] ؛ أي : أردتم القيام فإذا قرأت القرآن فاستعذ [ النحل : 98 ] ؛ أي : أردت القراءة لتكون الاستعاذة قبلها وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا [ الأعراف : 4 ] ؛ أي : أردنا إهلاكها ، وإلا لم يصح العطف بالفاء [ ص: 35 ] وجعل منه بعضهم قوله : من يهد الله فهو المهتدي [ الكهف : 17 ] ؛ أي : من يرد الله هدايته وهو حسن جدا لئلا يتحد الشرط والجزاء .

التاسع عشر : القلب إما قلب إسناد ، نحو : ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة [ القصص : 76 ] ؛ أي : لتنوء العصبة بها لكل أجل كتاب [ الرعد : 38 ] ؛ أي : لكل كتاب أجل وحرمنا عليه المراضع [ القصص : 12 ] ؛ أي : حرمناه على المراضع ويوم يعرض الذين كفروا على النار [ الأحقاف : 20 ] ؛ أي : تعرض النار عليهم لأن المعروض عليه هو الذي له الاختيار وإنه لحب الخير لشديد [ العاديات : 8 ] ؛ أي : وإن حبه للخير وإن يردك بخير [ يونس : 107 ] ؛ أي : يرد بك الخير فتلقى آدم من ربه كلمات [ البقرة : 37 ] ؛ لأن المتلقي حقيقة هو آدم كما قرئ بذلك أيضا .

أو قلب عطف ، نحو : ثم تول عنهم فانظر [ النمل : 28 ] ؛ أي : فانظر ثم تول ثم دنا فتدلى [ النجم : 8 ] ؛ أي : تدلى فدنا لأنه بالتدلي مال إلى الدنو .

أو قلب تشبيه وسيأتي في نوعه .

العشرون : إقامة صيغة مقام أخرى وتحته أنواع كثيرة .

منها : إطلاق المصدر على الفاعل ، نحو : فإنهم عدو لي [ الشعراء : 77 ] ، ولهذا أفرده ، وعلى المفعول ، نحو : ولا يحيطون بشيء من علمه [ البقرة : 255 ] ؛ أي : من معلومه ، صنع الله [ النمل : 88 ] ؛ أي : مصنوعه وجاءوا على قميصه بدم كذب [ يوسف : 18 ] ؛ أي : مكذوب فيه ؛ لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام .

ومنها : إطلاق البشرى على المبشر به ، والهوى على المهوي ، والقول على المقول .

ومنها : إطلاق الفاعل والمفعول على المصدر ، نحو : ليس لوقعتها كاذبة [ الواقعة : 2 ] ؛ أي : تكذيب بأييكم المفتون [ القلم : 6 ] ؛ أي : الفتنة ، على أن الباء غير زائدة .

ومنها : إطلاق فاعل على مفعول ، نحو : ماء دافق [ الطارق : 6 ] ؛ أي : مدفوق ، لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم [ هود : 43 ] ؛ أي : لا معصوم جعلنا حرما آمنا [ العنكبوت : 67 ] ؛ أي : مأمونا فيه .

[ ص: 36 ] وعكسه ، نحو : إنه كان وعده مأتيا [ مريم : 61 ] ؛ أي : آتيا حجابا مستورا [ الإسراء : 45 ] ؛ أي : ساترا .

وقيل : هو على بابه ؛ أي : مستورا عن العيون لا يحس به أحد .

ومنها : إطلاق ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) ، نحو : وكان الكافر على ربه ظهيرا [ الفرقان : 55 ] ، ومنها : إطلاق واحد من المفرد والمثنى والجمع على آخر منها .

منها : مثال إطلاق المفرد على المثنى والله ورسوله أحق أن يرضوه [ التوبة : 62 ] ؛ أي : يرضوهما فأفرد لتلازم الرضاءين .

وعلى الجمع ، نحو : إن الإنسان لفي خسر [ العصر : 2 ] ؛ أي : الأناسي ، بدليل الاستثناء منه إن الإنسان خلق هلوعا [ المعارج : 19 ] ، بدليل : إلا المصلين [ المعارج : 22 ] .

ومثال إطلاق المثنى على المفرد : ألقيا في جهنم [ ق : 24 ] ؛ أي : ألق .

ومنه كل فعل نسب إلى شيئين وهو لأحدهما فقط ، نحو : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب ، ونظيره ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ فاطر : 12 ] ، وإنما تخرج الحلية من الملح وجعل القمر فيهن نورا [ نوح : 16 ] ؛ أي : في إحداهن : نسيا حوتهما [ الكهف : 61 ] ، والناسي يوشع ، بدليل قوله لموسى فإني نسيت الحوت [ الكهف : 63 ] ، وإنما أضيف النسيان إليهما معا لسكوت موسى عنه فمن تعجل في يومين [ البقرة : 203 ] ، والتعجيل في اليوم الثاني على رجل من القريتين عظيم [ الزخرف : 31 ] ، قال الفارسي ؛ أي : من إحدى القريتين .

وليس منه ولمن خاف مقام ربه جنتان [ الرحمن : 46 ] ، وأن المعنى جنة واحدة ، خلافا للفراء ، وفي كتاب " ذا القد " لابن جني : أن منه : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين [ المائدة : 116 ] ، وإنما المتخذ إلها عيسى دون مريم .

ومثال إطلاقه على الجمع : ثم ارجع البصر كرتين [ الملك : 4 ] ؛ أي : كرات ؛ لأن البصر لا يحسر إلا بها ، وجعل منه بعضهم قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] .

[ ص: 37 ] ومثال إطلاق الجمع على المفرد قال رب ارجعون [ المؤمنون : 99 ] ؛ أي : أرجعني .

وجعل منه ابن فارس فناظرة بم يرجع المرسلون [ النمل : 35 ] ، والرسول واحد بدليل : ارجع إليهم [ النمل : 37 ] ، وفيه نظر ؛ لأنه يحتمل أنه خاطب رئيسهم لاسيما وعادة الملوك جارية أن لا يرسلوا واحدا . وجعل منه فنادته الملائكة [ آل عمران : 39 ] ، ينزل الملائكة بالروح [ النحل : 2 ] ؛ أي : جبريل وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها [ البقرة : 72 ] والقاتل واحد .

ومثال إطلاقه على المثنى : قالتا أتينا طائعين [ فصلت : 11 ] ، قالوا لا تخف خصمان [ ص : 32 ] ، فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ النساء : 11 ] ؛ أي : أخوان فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] ؛ أي : قلباكما وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله : وكنا لحكمهم شاهدين [ الأنبياء : 78 ] .

ومنها : إطلاق الماضي على المستقبل لتحقق وقوعه ، نحو : أتى أمر الله [ النحل : 1 ] ؛ أي : الساعة ، بدليل : فلا تستعجلوه [ النحل : 1 ] ، ونفخ في الصور فصعق من في السماوات [ الزمر : 68 ] ، وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس الآية [ المائدة : 116 ] ، وبرزوا لله جميعا [ إبراهيم : 21 ] ، ونادى أصحاب الأعراف [ الأعراف : 48 ] .

وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار ، فكأنه وقع واستمر ، نحو : أتأمرون الناس بالبر وتنسون [ البقرة : 44 ] .

واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [ البقرة : 102 ] ؛ أي : تلت ، ولقد نعلم [ النحل : 103 ] ؛ أي : علمنا ، قد يعلم ما أنتم عليه [ النور : 64 ] ؛ أي : علم فلم تقتلون أنبياء الله [ البقرة : 91 ] ؛ أي : قتلتم وكذا ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون [ البقرة : 87 ] ، ويقول الذين كفروا لست مرسلا [ الرعد : 43 ] ؛ أي : قالوا .

ومن لواحق ذلك : التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو المفعول ؛ لأنه حقيقة في الحال لا في الاستقبال ، نحو : وإن الدين لواقع [ الذاريات : 6 ] ، ذلك يوم مجموع له الناس [ هود : 103 ] ، ومنها : إطلاق الخبر على الطلب أمرا أو نهيا أو دعاء مبالغة في الحث عليه حتى كأنه وقع وأخبر عنه ، قال الزمخشري : ورود الخبر ، والمراد الأمر أو النهي أبلغ من صريح الأمر أو النهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال وأخبر عنه ، نحو : والوالدات يرضعن [ البقرة : 233 ] ، والمطلقات يتربصن [ البقرة : 228 ] ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ البقرة : 197 ] ، [ ص: 38 ] على قراءة الرفع وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله [ البقرة : 272 ] ؛ أي : لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله لا يمسه إلا المطهرون [ الواقعة : 79 ] ؛ أي : لا يمسه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله [ البقرة : 83 ] ؛ أي : لا تعبدوا ، بدليل : وقولوا للناس حسنا [ البقرة : 83 ] ، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم [ يوسف : 92 ] ؛ أي : اللهم اغفر لهم .

وعكسه ، نحو : فليمدد له الرحمن مدا [ مريم : 75 ] ؛ أي : يمد اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم [ العنكبوت : 12 ] ؛ أي : ونحن حاملون بدليل : إنهم لكاذبون [ العنكبوت : 12 ] ، والكذب إنما يرد على الخبر فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا [ التوبة : 82 ] .

قال الكواشي : في الآية الأولى الأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم ، نحو : إن زرتنا فلنكرمك ، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم .

وقال ابن عبد السلام : لأن الأمر للإيجاب ، فشبه الخبر به في إيجابه .

ومنها : وضع النداء موضع التعجب ، نحو : ياحسرة على العباد [ يس : 30 ] ، قال الفراء : معناها فيا لها حسرة . وقال ابن خالويه : هذه من أصعب مسألة في القرآن لأن الحسرة لا تنادى ، وإنما ينادى الأشخاص ; لأن فائدته التنبيه ، ولكن المعنى على التعجب .

ومنها : وضع جمع القلة موضع الكثرة ، نحو : وهم في الغرفات آمنون [ سبإ : 37 ] ، وغرف الجنة لا تحصى لهم درجات عند ربهم [ الأنفال : 4 ] ، ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة . الله يتوفى الأنفس [ الزمر : 42 ] ، أياما معدودات [ البقرة : 184 ] ، ونكتة التقليل في هذه الآية التسهيل على المكلفين .

وعكسه ، نحو : يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] .

ومنها : تذكير المؤنث على تأويله بمذكر ، نحو : فمن جاءه موعظة من ربه [ ص: 39 ] [ البقرة : 275 ] ؛ أي : وعظ ، وأحيينا به بلدة ميتا [ ق : 11 ] ، على تأويل البلدة بالمكان فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي [ الأنعام : 78 ] ؛ أي : الشمس أو الطالع إن رحمة الله قريب من المحسنين [ الأعراف : 56 ] ، قال الجوهري : ذكرت على معنى الإحسان .

وقال الشريف المرتضى في قوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ هود : 118 ، 119 ] ، إن الإشارة للرحمة ؛ وإنما لم يقل ( ولتلك ) ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي ، ولأنه يجوز أن يكون في تأويل ( أن يرحم ) .

ومنها : تأنيث المذكر ، نحو : الذين يرثون الفردوس هم فيها [ المؤمنون : 11 ] ، أنث الفردوس وهو مذكر حملا على معنى الجنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام : 160 ] ، أنث عشرا حيث حذف الهاء مع إضافتها إلى الأمثال وواحدها مذكر فقيل لإضافة الأمثال إلى مؤنث وهو ضمير الحسنات فاكتسب منه التأنيث .

وقيل : هو من باب مراعاة المعنى ؛ لأن الأمثال في المعنى مؤنثة لأن مثل الحسنة حسنة ، والتقدير : فله عشر حسنات أمثالها ، وقد قدمنا في القواعد المهمة قاعدة في التذكير والتأنيث .

ومنها : التغليب وهو إعطاء الشيء حكم غيره .

وقيل : ترجيح أحد المغلوبين على الآخر ، وإطلاق لفظه عليهما إجراء للمختلفين مجرى المتفقين ، نحو : وكانت من القانتين [ التحريم : 12 ] ، إلا امرأته كانت من الغابرين [ الأعراف : 83 ] ، والأصل : من ( القانتات ) و ( الغابرات ) ، فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب . بل أنتم قوم تجهلون [ النمل : 55 ] ، أتى بتاء الخطاب تغليبا لجانب ( أنتم ) على جانب ( قوم ) .

والقياس أن يؤتى بياء الغيبة لأنه صفة ل ( قوم ) ، وحسن العدول عنه وقوع الموصوف خبرا عن ضمير المخاطبين قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم [ الإسراء : 63 ] ، غلب في الضمير المخاطب وإن كان من تبعك يقتضي الغيبة ، وحسنه أنه لما كان الغائب تبعا للمخاطب في المعصية والعقوبة جعل تبعا له في اللفظ أيضا وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى [ ص: 40 ] ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض [ النحل : 49 ] ، غلب غير العاقل حيث أتى ب ( ما ) لكثرته . وفي آية أخرى ب ( من ) ، فغلب العاقل لشرفه .

لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا [ الأعراف : 88 ] ، أدخل شعيب في ( لتعودن ) بحكم التغليب إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود فيها .

وكذا قوله إن عدنا في ملتكم [ الأعراف : 89 ] ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس [ الحجر : 30 ، 31 ] ، عد منهم بالاستثناء تغليبا لكونه كان بينهم ياليت بيني وبينك بعد المشرقين [ الزخرف : 38 ] ؛ أي : المشرق والمغرب .

قال ابن الشجري : وغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين . مرج البحرين [ الرحمن : 19 ] ؛ أي : الملح والعذب . والبحر خاص بالملح فغلب لكونه أعظم . ولكل درجات [ الأنعام : 132 ] أي : من المؤمنين والكفار ، والدرجات للعلو والدركات للسفل فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا للأشرف .

قال في البرهان : وإنما كان التغليب من باب المجاز ؛ لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له ، ألا ترى أن ( القانتين ) موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف ، فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له ، وكذا باقي الأمثلة .

ومنها : استعمال حروف الجر في غير معانيها الحقيقية كما تقدم في النوع الأربعين .

ومنها : استعمال صيغة ( افعل ) لغير الوجوب وصيغة ( لا تفعل ) لغير التحريم ، وأدوات الاستفهام لغير طلب التصور والتصديق وأداة التمني والترجي والنداء لغيرها كما سيأتي كل ذلك في الإنشاء .

[ ص: 41 ] ومنها : التضمين وهو إعطاء الشيء معنى الشيء ، ويكون في الحروف والأفعال والأسماء . أما الحروف فتقدم في حروف الجر وغيرها . وأما الأفعال : فأن يضمن فعل معنى فعل آخر فيكون فيه معنى الفعلين معا ، وذلك بأن يأتي الفعل متعديا بحرف ليس من عادته التعدي به ، فيحتاج إلى تأويله أو تأويل الحرف ليصح التعدي به ، والأول تضمين الفعل والثاني تضمين الحرف .

واختلفوا أيهما أولى ، فقال أهل اللغة وقوم من النحاة : التوسع في الحرف .

وقال المحققون : التوسع في الفعل لأنه في الأفعال أكثر مثاله : عينا يشرب بها عباد الله [ الإنسان : 6 ] ، فيشرب إنما يتعدى بمن فتعديته بالباء إما على تضمينه معنى ( يروى ) أو ( يلتذ ) أو تضمين الباء معنى ( من ) . أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ البقرة : 187 ] ، فالرفث لا يتعدى بإلى إلا على تضمن معنى الإفضاء هل لك إلى أن تزكى [ النازعات : 18 ] ، والأصل في " أن " ضمن معنى ( أدعوك ) .

وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ الشورى : 25 ] ، عديت بعن لتضمنها معنى العفو والصفح .

وأما في الأسماء ، فأن يضمن اسم معنى اسم لإفادة معنى الاسمين معا ، نحو : حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق [ الأعراف : 105 ] ، ضمن ( حقيق ) معنى ( حريص ) ليفيد أنه محقوق بقول الحق وحريص عليه ؛ وإنما كان التضمين مجازا لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا ، فالجمع بينهما مجاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية