صفحة جزء
القسم الثاني من قسمي الإيجاز : إيجاز الحذف ، وفيه فوائد .

ذكر أسبابه :

منها : مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث لظهوره .

ومنها : التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف ، وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم ، وهذه هي فائدة باب التحذير والإغراء ، وقد اجتمعتا في قوله تعالى : ناقة الله وسقياها [ الشمس : 13 ] ، ف ( ناقة الله ) تحذير بتقدير : ( ذروا ) ، و ( سقياها ) إغراء بتقدير : ( الزموا ) .

ومنها : التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام .

قال حازم في منهاج البلغاء : إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه ، أو يقصد به تعديد أشياء ، فيكون في تعدادها طول وسآمة ، فيحذف ، ويكتفى بدلالة الحال ، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال عن [ ص: 83 ] ذكرها .

قال : ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل على النفوس ، ومنه قوله في وصف أهل الجنة : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها [ الزمر : 73 ] ، فحذف الجواب ؛ إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى ، فجعل الحذف دليلا على صدق الكلام عن وصف ما يشاهدونه ، وتركت النفوس تقدر ما شاءته ، ولا تبلغ مع ذلك كنه ما هنالك .

وكذا قوله : ولو ترى إذ وقفوا على النار [ الأنعام : 27 ] ؛ أي : لرأيت أمرا فظيعا لا تكاد تحيط به العبارة .

ومنها : التخفيف لكثرة دورانه في الكلام كما في حذف حرف النداء ، نحو : يوسف أعرض [ يوسف : 39 ] ، ونون لم يك [ الأنفال : 53 ] ، والجمع السالم ، ومنه قراءة والمقيمي الصلاة [ الحج : 35 ] ، وياء والليل إذا يسر [ الفجر : 4 ] ، وسأل المؤرج السدوسي الأخفش عن هذه الآية فقال : عادة العرب أنها إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه ، والليل لما كان لا يسري ، وإنما يسرى فيه نقص منه حرف كما قال تعالى : وما كانت أمك بغيا [ مريم : 28 ] ، الأصل ( بغية ) ، فلما حول عن فاعل نقص منه حرف .

ومنها : كونه لا يصلح إلا له ، نحو : عالم الغيب والشهادة [ الأنعام : 73 ] ، فعال لما يريد . ومنها : شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء .

قال الزمخشري : هو نوع من دلالة الحال التي لسانها أنطق من لسان المقال ، وحمل عليه قراءة حمزة : تساءلون به والأرحام [ النساء : 1 ] ؛ لأن هذا مكان شهر بتكرر الجار ، فقامت الشهرة مقام الذكر .

ومنها : صيانته عن ذكره تشريفا كقوله تعالى : قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات الآيات ، حذف فيها المبتدأ في ثلاثة مواضع : قبل ذكر الرب ؛ أي : ( هو رب ) ، ( الله ربكم ) ، ( الله رب المشرق ) ; لأن موسى استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال ، فأضمر اسم الله تعظيما وتفخيما ، ومثله في عروس الأفراح بقوله تعالى : رب أرني أنظر إليك [ الأعراف : 143 ] ؛ [ ص: 84 ] أي : ذاتك .

ومنها : صيانة اللسان عنه تحقيرا له ، نحو : صم بكم [ البقرة : 18 ] ؛ أي : هم أو المنافقون .

ومنها : قصد العموم ، نحو : وإياك نستعين [ الفاتحة : 5 ] ؛ أي : على العبادة وعلى أمورنا كلها . والله يدعو إلى دار السلام [ يونس : 25 ] ؛ أي : كل واحد .

ومنها : رعاية الفاصلة ، نحو : ما ودعك ربك وما قلى [ الضحى : 3 ] ؛ أي : وما قلاك .

ومنها : قصد البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة ، نحو : فلو شاء لهداكم [ النحل : 9 ] ؛ أي : فلو شاء هدايتكم فإنه إذا سمع السامع ولو شاء تعلقت نفسه بمشاء انبهم عليه لا يدري ما هو ، فلما ذكر الجواب استبان بعد ذلك . وأكثر ما يقع ذلك بعد أداة شرط ؛ لأن مفعول المشيئة مذكور في جوابها .

وقد يكون مع غيرها استدلالا بغير الجواب ، نحو : ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [ البقرة : 255 ] .

وقد ذكر أهل البيان أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكر إلا إذا كان غريبا أو عظيما ، نحو : لمن شاء منكم أن يستقيم [ التكوير : 28 ] ، لو أردنا أن نتخذ لهوا [ الأنبياء : 17 ] ، وإنما اطرد أو كثر حذف مفعول المشيئة دون سائر الأفعال ؛ لأنه يلزم من وجود المشيئة وجود المشاء ، فالمشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مشيئة الجواب ؛ ولذلك كانت الإرادة مثلها في اطراد مفعولها ، ذكره الزملكاني والتنوخي في الأقصى القريب . قالوا : وإذا حذف بعد ( لو ) فهو المذكور في جوابها أبدا .

وأورد في عروس الأفراح قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة [ فصلت : 14 ] ، فإن المعنى : لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة ؛ لأن المعنى معين على ذلك .

فائدة : قال الشيخ عبد القاهر : ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره ، وسمى ابن جني الحذف شجاعة العربية ؛ لأنه يشجع على الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية