صفحة جزء
[ ص: 102 ] والثاني : يكون بأنواع :

أحدها : دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد السابقة في نوع الأدوات ، وهي إن ، وأن ، ولام الابتداء والقسم ، وألا الاستفتاحية ، وأما ، وهاء التنبيه ، وكأن في تأكيد التشبيه ، ولكن في تأكيد الاستدراك ، وليت في تأكيد التمني ، ولعل في تأكيد الترجي ، وضمير الشأن ، وضمير الفصل ، وأما في تأكيد الشرط ، وقد والسين وسوف ، والنونان في تأكيد الفعلية ، ولا التبرئة ، ولن ، ولما في تأكيد النفي .

وإنما يحسن تأكيد الكلام بها إذا كان المخاطب به منكرا أو مترددا . ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة الأولى : إنا إليكم مرسلون [ يس : 14 ] ، فأكد ب ( إن ) واسمية الجملة ، وفي المرة الثانية : ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون [ يس : 16 ] ، فأكد بالقسم و ( إن ) واللام واسمية الجملة لمبالغة المخاطبين في الإنكار ؛ حيث قالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون [ يس : 15 ] .

وقد يؤكد بها ، والمخاطب به غير منكر لعدم جريه على مقتضى إقراره ، فينزل منزلة المنكر ، وقد يترك التأكيد وهو معه منكر ؛ لأن معه أدلة ظاهرة لو تأملها لرجع عن إنكاره ؛ ولذلك يخرج قوله ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ المؤمنون : 15 ، 16 ] ، أكد الموت تأكيدين وإن لم ينكر ، لتنزيل المخاطبين - لتماديهم في الغفلة - تنزيل من ينكر الموت ، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أشد نكيرا ؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر ، فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر حثا لهم على النظر في أدلته الواضحة .

ونظيره قوله تعالى : لا ريب فيه [ البقرة : 2 ] ، نفى عنه الريبة ب ( لا ) على سبيل [ ص: 103 ] الاستغراق مع أنه ارتاب فيه المرتابون ، لكن نزل منزلة العدم تعويلا على ما يزيله من الأدلة الباهرة ، كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك .

وقال الزمخشري : بولغ في تأكيد الموت تنبيها للإنسان على أن يكون الموت نصب عينيه ، ولا يغفل عن ترقبه ، فإن مآله إليه ، فإنه أكدت جملته ثلاث مرات لهذا المعنى ؛ لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعي حتى كأنه يخلد ، ولم يؤكد جملة البعث إلا بإن ؛ لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ، ولا يقبل إنكارا .

وقال التاج بن الفركاح : أكد الموت ردا على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفا عن سلف ، واستغنى عن تأكيد البعث هنا لتأكيده والرد على منكره في مواضع ؛ كقوله : قل بلى وربي لتبعثن [ التغابن : 7 ] .

وقال غيره : لما كان العطف يقتضي الاشتراك استغنى عن إعادة اللام لذكرها في الأول . وقد يؤكد بها - أي : باللام - للمستشرف الطالب الذي قدم له ما يلوح بالخبر ، فاستشرفت نفسه إليه ، نحو : ولا تخاطبني في الذين ظلموا [ هود : 37 ] ؛ أي : لا تدعني يا نوح في شأن قومك ، فهذا الكلام يلوح بالخبر تلويحا ، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب ، فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم : هل صاروا محكوما عليهم بذلك أو لا ؟ فقيل : إنهم مغرقون بالتأكيد .

وكذا قوله : ياأيها الناس اتقوا ربكم [ الحج : 1 ] ، لما أمرهم بالتقوى ، وظهور ثمرتها ، والعقاب على تركها محله الآخرة ، تشوقت نفوسهم إلى وصف حال الساعة فقال : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ الحج : 1 ] ، بالتأكيد ليتقرر عليه الوجوب . وكذا قوله : وما أبرئ نفسي [ يوسف : 35 ] فيه تحيير للمخاطب وتردد في أنه كيف لا يبرئ نفسه وهي بريئة زكية ، ثبتت عصمتها وعدم مواقعتها السوء ، فأكده بقوله : إن النفس لأمارة بالسوء [ يوسف : 53 ] . وقد يؤكد لقصد الترغيب ، نحو : فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ البقرة : 37 ] ، أكد بأربع تأكيدات ترغيبا للعباد في التوبة ، وقد سبق على أدوات التأكيد المذكورة ومعانيها ومواقعها في النوع الأربعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية