صفحة جزء
المسألة الثانية :

في كيفية الإنزال والوحي :

قال الأصفهاني في أوائل تفسيره : اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل . واختلفوا في معنى الإنزال :

فمنهم من قال : إظهار القراءة . ومنهم من قال : إن الله - تعالى - ألهم كلامه جبريل وهو في السماء ، وهو عال من المكان ، وعلمه قراءته ، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان . وفي التنزيل طريقان : أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل .

والثاني : أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه والأول أصعب الحالين . انتهى .

وقال الطيبي : لعل نزول القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتلقفه الملك من الله - تعالى - تلقفا روحانيا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ ، فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه .

وقال القطب الرازي في " حواشي الكشاف " : والإنزال لغة بمعنى الإيواء ، وبمعنى تحريك الشيء من العلو إلى أسفل ، وكلاهما لا يتحقق في الكلام ، فهو مستعمل فيه في معنى مجازي : فمن قال : القرآن معنى قائم بذات الله - تعالى - فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ . ومن قال : القرآن هو الألفاظ ، فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ . وهذا المعنى مناسب لكونه منقولا عن المعنيين اللغويين . ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى الثاني . والمراد بإنزال الكتب على الرسل : أن يتلقفها الملك من الله تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ ، وينزل بها فيلقيها عليهم . انتهى .

وقال غيره : في المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه اللفظ والمعنى ، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به . وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ ، كل حرف منها بقدر جبل قاف ، وأن تحت كل حرف منها معاني لا يحيط بها إلا الله .

والثاني : أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة وأنه - صلى الله عليه وسلم - علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة [ ص: 166 ] العرب وتمسك قائل هذا بظاهر قوله - تعالى - : نزل به الروح الأمين على قلبك [ الشعراء : 193 - 194 ] .

والثالث : أن جبريل ألقى إليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية ، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك .

وقال البيهقي في معنى قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر يريد - والله أعلم - : إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع ، فيكون الملك منتقلا من علو إلى أسفل .

قال أبو شامة : هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه ، يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قدم القرآن ، وأنه صفة قائمة بذات الله - تعالى - .

قلت : ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعا من الله تعالى : ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعا إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السماء ، صعقوا وخروا سجدا ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به على الملائكة ، فكلما مر بسماء ، سأله أهلها : ماذا قال ربنا ؟ قال : الحق . فينتهي به حيث أمر .

وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ، فيفزعون ويرون أنه من أمر السرعة . وأصل الحديث في الصحيح .

[ ص: 167 ] وفي تفسير علي بن سهل النيسابوري : قال جماعة من العلماء : نزل القرآن جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له : بيت العزة ، فحفظه جبريل ، وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام الله ، فمر بهم جبريل ، وقد أفاقوا ، فقالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق - يعني القرآن - وهو معنى قوله : حتى إذا فزع عن قلوبهم [ سبأ : 23 ] فأتى به جبريل إلى بيت العزة ، فأملاه على السفرة الكتبة - يعني الملائكة - وهو معنى قوله - تعالى - : بأيدي سفرة كرام بررة [ عبس : 15 - 16 ] .

وقال الجويني : كلام الله المنزل قسمان :

قسم قال الله لجبريل : قل للنبي الذي أنت مرسل إليه : إن الله يقول : افعل كذا وكذا ، وأمر بكذا ، ففهم جبريل ما قاله ربه ، ثم نزل على ذلك النبي وقال له ما قاله ربه ، ولم تكن العبارة تلك العبارة ، كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان يقول لك الملك : اجتهد في الخدمة ، واجمع جندك للقتال . فإن قال الرسول : يقول الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند تتفرق ، وحثهم على المقاتلة ، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة .

وقسم آخر قال الله لجبريل : اقرأ على النبي هذا الكتاب ، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير . كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ، ويقول : اقرأه على فلان ، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا . انتهى .

قلت : القرآن هو القسم الثاني ، والقسم الأول هو السنة ، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن . ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى ; لأن جبريل أداه بالمعنى ، ولم تجز القراءة بالمعنى ; لأن جبريل أداه باللفظ ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى .

والسر في ذلك : أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه . وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه ، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين : قسم يروونه بلفظه الموحى به ، وقسم يروونه بالمعنى ، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف ، فتأمل .

وقد رأيت ، عن السلف ما يعضد كلام الجويني .

وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق عقيل ، عن الزهري : أنه سئل عن الوحي ، فقال : الوحي ما يوحي الله إلى نبي من الأنبياء ، فيثبته في قلبه ، فيتكلم به ويكتبه ، وهو كلام الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية