صفحة جزء
[ ص: 186 ] النوع التاسع والخمسون في فواصل الآي .

الفاصلة : كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع .

وقال الداني : كلمة آخر الجملة .

قال الجعبري : وهو خلاف المصطلح ، ولا دليل له في تمثيل سيبويه ب ( يوم يأت ) [ هود : 105 ] ، و ( ما كنا نبغ ) [ الكهف : 64 ] ، وليسا رأس آي ؛ لأن مراده الفواصل اللغوية لا الصناعية .

وقال القاضي أبو بكر : الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعاني .

وفرق الداني بين الفواصل ورءوس الآي ، فقال : الفاصلة هي الكلام المنفصل عما بعده ، والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس ، وكذلك الفواصل يكن رءوس آي وغيرها ، وكل رأس آية فاصلة وليس كل فاصلة رأس آية .

قال : ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في تمثيل القوافي : يوم يأت و ما كنا نبغ ، وليسا رأس آيتين بإجماع ، مع : ( إذا يسر ) [ الفجر : 4 ] ، وهو رأس آية باتفاق .

وقال الجعبري : لمعرفة الفواصل طريقان : توقيفي وقياسي .

أما التوقيفي : فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه دائما تحققنا أنه فاصلة ، وما وصله دائما تحققنا أنه ليس بفاصلة ، وما وقف عليه مرة ووصله مرة أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة ، أو لتعريف الوقف التام ، أو للاستراحة ، والوصل أن يكون غير فاصلة أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها .

وأما القياسي : ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب ، ولا محذور في ذلك ؛ لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان ، وإنما غايته أنه محل فصل أو وصل [ ص: 187 ] والوقف على كل كلمة جائز ، ووصل القرآن كله جائز فاحتاج القياس إلى طريق تعرفه ، فنقول : فاصلة الآية كقرينة السجعة في النثر وقافية البيت في الشعر ، وما يذكر من عيوب القافية - من اختلاف الحركة والإشباع والتوجيه - فليس بعيب في الفاصلة ، وجاز الانتقال في الفاصلة والقرينة وقافية الأرجوزة من نوع إلى آخر ، بخلاف قافية القصيدة .

ومن ثم ترى : ( يرجعون ) مع : ( عليم ) [ آل عمران : 72 ، 73 ] ، و ( الميعاد ) مع ( الثواب ) [ آل عمران : 194 ، 195 ] ، و ( الطارق ) مع ( الثاقب ) [ الطارق : 1 ، 3 ] .

والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة المساواة ، ومن ثم أجمع العادون على ترك عد : ( ويأت بآخرين ) [ النساء : 133 ] ، ( ولا الملائكة المقربون ) في النساء [ 172 ] ، ( كذب بها الأولون ) ب ( سبحان ) [ الإسراء : 59 ] ، و لتبشر به المتقين بمريم [ 97 ] ، و لعلهم يتقون ب ( طه ) [ 113 ] ، و من الظلمات إلى النور [ الطلاق : 11 ] ، أن الله على كل شيء قدير بالطلاق [ 12 ] ، حيث لم يشاكل طرفيه .

وعلى ترك عد : أفغير دين الله يبغون بآل عمران [ 83 ] ، و أفحكم الجاهلية يبغون بالمائدة [ 50 ] ، وعدوا نظائرها للمناسبة ، نحو : ( لأولي الألباب ) بآل عمران [ 190 ] ، و ( على الله كذبا ) بالكهف [ 15 ] ، و ( السلوى ) ب ( طه ) [ 80 ] .

وقال غيره : تقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها ، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام ، وتسمى فواصل ؛ لأنه ينفصل عنده الكلامان ، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها ، وأخذا من قوله تعالى : كتاب فصلت آياته [ فصلت : 3 ] .

ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعا ؛ لأن الله تعالى لما سلب عنه اسم الشعر وجب سلب القافية عنه أيضا لأنها منه ، وخاصة في الاصطلاح ، وكما يمتنع استعمال القافية فيه يمتنع استعمال الفاصلة في الشعر ؛ لأنها صفة لكتاب الله تعالى فلا تتعداه .

وهل يجوز استعمال السجع في القرآن ؟ خلاف ؛ الجمهور على المنع ؛ لأن أصله من سجع الطير ، فشرف القرآن أن يستعار لشيء منه لفظ أصله مهمل ، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في وصفه بذلك ، ولأن القرآن من صفاته تعالى فلا يجوز [ ص: 188 ] وصفه بصفة لم يرد الإذن بها .

قال الرماني في إعجاز القرآن : ذهب الأشعرية إلى امتناع أن يقال : في القرآن سجع ، وفرقوا بأن السجع هو الذي يقصد فيه نفسه ، ثم يحال المعنى عليه ، والفواصل التي تتبع المعاني ، ولا تكون مقصودة في نفسها .

قال : ولذلك كانت الفواصل بلاغة والسجع عيبا .

وتبعه على ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني ، ونقله عن نص أبي الحسن الأشعري وأصحابنا كلهم . قال : وذهب كثير من غير الأشاعرة إلى إثبات السجع في القرآن ، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام ، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالجناس والالتفات ونحوهما .

قال : وأقوى ما استدلوا به الاتفاق على أن موسى أفضل من هارون ، لمكان السجع قيل في موضع : هارون وموسى [ طه : 70 ] ، ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قيل : موسى وهارون [ الشعراء : 48 ] .

قالوا : وهذا يفارق أمر الشعر ؛ لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصودا إليه ، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي نسميه شعرا ، وذلك القدر مما يتفق وجوده من المفحم ، كما يتفق وجوده من الشاعر . وأما ما جاء في القرآن من السجع فهو كثير لا يصح أن يتفق غير مقصود إليه . وبنوا الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع . فقال أهل اللغة : هو موالاة الكلام على حد واحد .

وقال ابن دريد : سجعت الحمامة معناه : رددت صوتها .

قال القاضي : وهذا غير صحيح ، ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز .

ولو جاز أن يقال : هو سجع معجز لجاز أن يقولوا : شعر معجز . وكيف والسجع مما كان تألفه الكهان من العرب .

ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر; لأن الكهانة تنافي النبوات بخلاف الشعر .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : أسجع كسجع الكهان فجعله مذموما .

[ ص: 189 ] وقال : وما توهموا أنه سجع باطل ؛ لأن مجيئه على صورته لا يقتضي كونه هو ؛ لأن السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو في معنى السجع من القرآن ؛ لأن اللفظ وقع فيه تابعا للمعنى .

وفرق بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود منه ، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ . ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره ، ومتى انتظم في المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى .

قال : وللسجع منهج محفوظ وطريق مضبوط ، من أخل به وقع الخلل في كلامه ، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة ، كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئا ، وأنت ترى فواصل القرآن متفاوتة ، بعضها متداني المقاطع ، وبعضها يمتد حتى يتضاعف طوله عليه ، وترد الفاصلة في ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير ، وهذا في السجع غير مرضي ولا محمود .

قال : وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون في موضع ، وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع ، وتساوي مقاطع الكلام ، فليس بصحيح ، بل الفائدة فيه إعادة القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحدا ، وذلك من الأمر الصعب الذي تظهر فيه الفصاحة وتتبين فيه البلاغة ، ولهذا أعيدت كثير من القصص على ترتيبات متفاوتة ، تنبيها بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومتكررا ، ولو أمكنهم المعارضة لقصدوا تلك القصة ، وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي إلى تلك المعاني ونحوها ، فعلى هذا القصد - بتقديم بعض الكلمات على بعض وتأخيرها - إظهار الإعجاز دون السجع إلى أن قال :

فبان بذلك أن الحروف الواقعة في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الأسجاع لا تخرجها عن حدها ، ولا تدخلها في باب السجع ، وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء ، فكان بعض مصاريعه كلمتين وبعضها أربع كلمات ، ولا يرون ذلك فصاحة ، بل يرونه عجزا ، فلو فهموا اشتمال القرآن على السجع لقالوا : نحن نعارضه بسجع معتدل يزيد في الفصاحة على طريقة القرآن . انتهى كلام القاضي في كتاب الإعجاز .

[ ص: 190 ] ونقل صاحب " عروس الأفراح " عنه أنه ذهب في الانتصار إلى جواز تسمية الفواصل سجعا .

وقال الخفاجي في سر الفصاحة : قول الرماني : إن السجع عيب والفواصل بلاغة غلط ، فإنه إن أراد بالسجع ما يتبع المعنى وهو غير مقصود متكلف فذلك بلاغة والفواصل مثله ، وإن أراد به ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف فذلك عيب ، والفواصل مثله ، وأظن الذي دعاهم إلى تسمية جل ما في القرآن فواصل ، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم ، وهذا غرض في التسمية قريب ، والحقيقة ما قلناه .

قال : والتحرير أن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفواصل .

قال : فإن قيل : إذا كان عندكم أن السجع محمود فهلا ورد القرآن كله مسجوعا ؟ وما الوجه في ورود بعضه مسجوعا وبعضه غير مسجوع ؟

قلنا : إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعاداتهم ، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كله مسجوعا لما فيه من أمارات التكلف والاستكراه ، لا سيما مع طول الكلام ، فلم يرد كله مسجوعا جريا منه على عرفهم في اللطافة الغالبة أو الطبقة العالية من كلامهم ، ولم يخل من السجع لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة السابقة .

وقال ابن النفيس : يكفي في حسن السجع ورود القرآن به ، قال : ولا يقدح في ذلك خلوه في بعض الآيات ؛ لأن الحسن قد يقتضي المقام الانتقال إلى أحسن منه .

وقال حازم : من الناس من يكره تقطيع الكلام إلى مقادير متناسبة الأطراف غير متقاربة في الطول والقصر ، لما فيه من التكلف إلا ما يقع إلمام به في النادر من الكلام ، ومنهم من يرى أن التناسب الواقع بإفراغ الكلام في قالب التفقيه وتحليتها بمناسبات المقاطع أكيد جدا .

ومنهم - وهو الوسط - من يرى أن السجع وإن كان زينة للكلام فقد يدعو إلى التكلف ، فرأى ألا يستعمل في جملة الكلام ، وألا يخلو الكلام منه جملة ، وأنه يقبل منه ما اجتلبه الخاطر عفوا بلا تكلف .

قال : وكيف يعاب السجع على الإطلاق ، وإنما نزل القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب ، فوردت الفواصل فيه بإزاء ورود الأسجاع في كلامهم ، وإنما لم يجئ على [ ص: 191 ] أسلوب واحد لأنه لا يحسن في الكلام جميعا أن يكون مستمرا على نمط واحد لما فيه من التكلف ، ولما في الطبع من الملل ، ولأن الافتنان في ضروب الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد ، فلهذا وردت بعض آي القرآن متماثلة المقاطع ، وبعضها غير متماثل .

التالي السابق


الخدمات العلمية