صفحة جزء
[ ص: 198 ] تنبيهات .

الأول .

قد تجتمع فواصل في موضع واحد ويخالف بينها : كأوائل النحل ، فإنه تعالى بدأ بذكر الأفلاك فقال خلق السماوات والأرض بالحق [ النحل : 3 ] . ثم ذكر خلق الإنسان من نطفة ثم خلق الأنعام ثم عجائب النبات فقال هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون [ النحل : 10 ، 11 ] . فجعل مقطع هذه الآية التفكر لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر المختار ، ولما كان هنا مظنة سؤال وهو أنه لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر ، وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال ، كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقيا فأجاب تعالى عنه من وجهين .

أحدهما : أن تغيرات العالم السفلي مربوطة بأحوال الأفلاك فتلك الحركات كيف حصلت فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل ، وإن كان من الخالق الحكيم فذاك إقرار بوجود الله تعالى وهذا هو المراد بقوله وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ النحل : 12 ] . فجعل مقطع هذه الآية العقل وكأنه قيل : إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل ، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك وهو الإله القادر المختار .

والثاني : أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة ، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة والآخر في غاية السواد ، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار فعلمنا أن المؤثر قادر مختار وهذا هو المراد من قوله وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون [ النحل : 13 ] . كأنه قيل اذكر ما ترسخ في عقلك أن الواجب بالذات والطبع لا يختلف تأثيره ، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع ، بل الفاعل المختار فلهذا جعل مقطع الآية التذكر .

[ ص: 199 ] ومن ذلك قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات ، فإن الأولى ختمت بقوله : لعلكم تعقلون والثانية بقوله : لعلكم تذكرون والثالثة بقوله : لعلكم تتقون لأن الوصايا التي في الآية الأولى إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى ، لأن الإشراك بالله لعدم استكمال العقل الدال على توحيده وعظمته ، وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقل لسبق إحسانهما إلى الولد بكل طريق ، وكذلك قتل الأولاد بالوأد من الإملاق مع وجود الرازق الحي الكريم ، وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل ، وكذا قتل النفس لغيظ أو غضب في القاتل ، فحسن بعد ذلك ( يعقلون ) .

وأما الثانية فتعلقها بالحقوق المالية والقولية ، فإن من علم أن له أيتاما يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يحب أن يعامل به أيتامه . ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره ، لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة ، ولا بخس ، وكذا من وعد لو وعد لم يحب أن يخلف ، ومن أحب ذلك عامل الناس ليعاملوه بمثله ، فترك ذلك إنما يكون لغفلة عن تدبر ذلك وتأمله ، فذلك ناسب الختم بقوله لعلكم تذكرون .

وأما الثالثة : لأن ترك اتباع شرائع الله الدينية مؤد إلى غضبه وإلى عقابه فحسن لعلكم تتقون أي : عقاب الله بسببه .

ومن ذلك قوله في الأنعام أيضا وهو الذي جعل لكم النجوم الآيات ، فإنه ختم الأولى بقوله لقوم يعلمون والثانية بقوله لقوم يفقهون والثالثة بقوله لقوم يؤمنون وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء بذلك فناسب ختمه ب يعلمون ، وإنشاء الخلائق من نفس واحدة ، ونقلهم من صلب إلى رحم ثم إلى الدنيا ، ثم إلى حياة وموت ، والنظر في ذلك والفكر فيه أدق فناسب ختمه ب يفقهون لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة .

ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة الأرزاق والأقوات والثمار وأنواع ذلك ، ناسب ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره تعالى على نعمه .

ومن ذلك قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [ الحاقة : 41 ، 42 ] . [ ص: 200 ] حيث ختم الأولى بتؤمنون والثانية بتذكرون .

ووجهه : أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة واضحة لا تخفى على أحد فقول من قال : شعر ، كفر وعناد محض ، فناسب ختمه بقوله : قليلا ما تؤمنون وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج إلى تذكر وتدبر ، لأن كلا منهما نثر فليست مخالفته له في وضوحها لكل أحد كمخالفته الشعر ، وإنما تظهر بتدبر ما في القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعاني الأنيقة ، فحسن ختمه بقوله : قليلا ما تذكرون .

ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين ، والمحدث عنه واحد ، لنكتة لطيفة كقوله تعالى : في سورة إبراهيم [ 34 ] . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ثم قال في سورة النحل [ 18 ] . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم قال ابن المنير : كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : كونك ظلوما وكونك كفارا : يعني لعدم وفائك بشكرها ، ولي عند إعطائها وصفان : وهما أني غفور رحيم ، أقابل ظلمك بغفراني ، وكفرك برحمتي ، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير ، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء .

وقال غيره : إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه ، وسورة النحل بوصف المنعم ، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان ، وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته .

ونظيره قوله تعالى : في سورة الجاثية [ 15 ] . من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون وفي فصلت [ 46 ] ختم بقوله : وما ربك بظلام للعبيد

ونكتة ذلك أن قبل الآية الأولى قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون [ الجاثية : 14 ] . فناسب الختام بفاصلة البعث ، لأن قبله وصفهم بإنكاره .

وأما الثانية فالختام بما فيها مناسب أنه لا يضيع عملا صالحا ، ولا يزيد على من عمل سيئا .

[ ص: 201 ] وقال في سورة النساء [ 48 ] . إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ثم أعادها وختم بقوله ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا [ النساء : 116 ] . ونكتة ذلك أن الأولى نزلت في اليهود ، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه ، والثانية نزلت في المشركين ، ولا كتاب لهم وضلالهم أشد .

ونظيره قوله في المائدة [ 44 ] : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ثم أعادها فقال فأولئك هم الظالمون [ المائدة : 45 ] . ثم قال في الثالثة : فأولئك هم الفاسقون [ المائدة : 47 ] . ونكتته أن الأولى نزلت في أحكام المسلمين ، والثانية في اليهود ، والثالثة في النصارى .

وقيل : الأولى فيمن جحد ما أنزل الله ، والثانية فيمن خالف مع علمه ولم ينكره ، والثالثة فيمن خالفه جاهلا .

وقيل : الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد وهو الكفر عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة ، واجتناب صورة التكرار .

وعكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدث عنه مختلف ، كقوله في سورة النور [ 58 ] : ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم إلى قوله كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ثم قال : كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم [ النور : 59 ] .

التنبيه الثاني : من مشكلات الفواصل قوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ المائدة : 118 ] . فإن قوله وإن تغفر لهم يقتضي أن تكون الفاصلة الغفور الرحيم وكذا نقلت عن مصحف أبي ، وبها قرأ ابن شنبوذ .

وذكر في حكمته أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه فهو العزيز : أي : الغالب والحكيم هو الذي يضع الشيء في محله ، وقد يخفى وجه الحكمة على بعض الضعفاء في بعض الأفعال فيتوهم أنه خارج عنها وليس [ ص: 202 ] كذلك فكان في الوصف بالحكيم احتراس حسن أي : وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك ، والحكمة فيما فعلته .

ونظير ذلك قوله في سورة التوبة [ 71 ] . أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وفي سورة الممتحنة [ 5 ] . واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم وفي غافر [ 8 ] . ربنا وأدخلهم جنات عدن إلى قوله : إنك أنت العزيز الحكيم وفي النور [ 10 ] . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم فإن بادئ الرأي يقتضي : تواب رحيم لأن الرحمة مناسبة للتوبة : لكن عبر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته ، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة .

ومن خفي ذلك قوله في سورة البقرة : [ 29 ] . هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم وفي آل عمران [ 29 ] . قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة وفي آية آل عمران الختم بالعلم .

والجواب أن آية البقرة لما تضمنت الإخبار عن خلق الأرض وما فيها على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم وخلق السماوات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت والخالق على الوصف المذكور يجب أن يكون عالما بما فعله كليا وجزئيا ، مجملا ومفصلا ، ناسب ختمها بصفة العلم ، وآية آل عمران لما كانت في سياق الوعيد على موالاة الكفار ، وكان التعبير بالعلم فيها كناية عن المجازاة بالعقاب والثواب ناسب ختمها بصفة القدرة .

ومن ذلك قوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا [ الإسراء : 44 ] . فالختم بالحلم والمغفرة عقب تسابيح الأشياء غير ظاهر في بادئ الرأي وذكر في حكمته أنه لما كانت الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون ، ختم به مراعاة للمقدر في الآية وهو العصيان ، كما جاء في الحديث : لولا بهائم رتع ، وشيوخ ركع ، وأطفال رضع ، لصب عليكم العذاب صبا ، ولرص رصا

[ ص: 203 ] وقيل : التقدير حليما عن تفريط المسبحين غفورا لذنوبهم . وقيل : حليما عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح ، بإهمالهم النظر في الآيات والعبر ، ليعرفوا حقه بالتأمل فيما أودع في مخلوقاته مما يوجب تنزيهه .

التنبيه الثالث في الفواصل ما لا نظير له في القرآن ، كقوله عقب الأمر بالغض في سورة النور إن الله خبير بما يصنعون وقوله عقب الأمر بالدعاء والاستجابة لعلهم يرشدون [ البقرة : 186 ] . وقيل : فيه تعريض بليلة القدر ، حيث ذكر ذلك عقب ذكر رمضان : أي : لعلهم يرشدون إلى معرفتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية