صفحة جزء
[ ص: 371 ] النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفضائله .

اختلف الناس : هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟

فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر الباقلاني ، وابن حبان إلى المنع لأن الجميع كلام الله ، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه ، وروى هذا القول عن مالك .

قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، ولذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها .

وقال ابن حبان في حديث أبي بن كعب : ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ، إن الله لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن ، إذ الله سبحانه وتعالى بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم ، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه . قال : وقوله : " أعظم سورة " أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض .

وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث منهم إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي والغزالي .

وقال القرطبي : إنه لحق ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين .

وقال الغزالي في جواهر القرآن : لعلك أن تقول : قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض ، والكلام كلام الله ، فكيف يفارق بعضها بعضا ، وكيف يكون بعضها أشرف من بعض ، فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية [ ص: 372 ] الكرسي وآية المداينات ، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت ، وترتاع على اعتقاد الفرق نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد ، فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فهو الذي أنزل عليه القرآن .

وقال : يس قلب القرآن و فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن و آية الكرسي سيدة آي القرآن و قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن .

والأخبار الواردة في فضائل القرآن ، وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل ، وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى . انتهى .

وقال ابن الحصار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك ، مع النصوص الواردة بالتفضيل .

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره ، ف قل هو الله أحد أفضل من تبت يدا أبي لهب .

وقال الخويي : كلام الله أبلغ من كلام المخلوقين . وهل يجوز أن يقال : بعض كلامه أبلغ من بعض الكلام ؟ جوزه قوم لقصور نظرهم ، وينبغي أن تعلم أن معنى قول القائل : هذا الكلام أبلغ من هذا ، أن هذا في موضعه له حسن ولطف ، وذاك في موضعه له حسن ولطف ، وهذا الحسن في موضعه أكمل من ذاك في موضعه .

قال : فإن من قال : إن قل هو الله أحد أبلغ من تبت يدا أبي لهب جعل المقابلة بين ذكر الله وذكر أبي لهب ، وبين التوحيد والدعاء على الكافر ، وذلك غير صحيح ، بل ينبغي أن يقال : تبت يدا أبي لهب دعاء عليه بالخسران ، فهل توجد عبارة للدعاء بالخسران أحسن من هذه ، وكذلك في قل هو الله أحد لا توجد عبارة تدل على الوحدانية أبلغ منها ، فالعالم إذا نظر إلى : تبت يدا أبي لهب في باب الدعاء بالخسران ، ونظر إلى قل هو الله أحد في باب التوحيد لا يمكنه أن يقول أحدهما أبلغ من الآخر . انتهى .

[ ص: 373 ] وقال غيره : اختلف القائلون بالتفضيل فقال بعضهم : الفضل راجع إلى عظم الأجر ومضاعفة الثواب ، بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود أوصاف العلا ، وقيل : بل يرجع لذات اللفظ ، وأن ما تضمنه قوله تعالى : وإلهكم إله واحد الآية ، وآية الكرسي ، وآخر سورة الحشر ، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في تبت يدا أبي لهب وما كان مثلها فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها .

وقال الحليمي ونقله عنه البيهقي : معنى التفضيل يرجع إلى أشياء .

أحدها : أن يكون العمل بآية أولى من العمل بأخرى ، وأعود على الناس ، وعلى هذا يقال : آية الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص ، لأنها إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتبشير ، ولا غنى بالناس عن هذه الأمور ، وقد يستغنون عن القصص ، فكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خيرا لهم مما يجعل لهم تبعا لما لا بد منه .

الثاني : أن يقال : الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى ، وبيان صفاته والدلالة على عظمته أفضل ، بمعنى أن مخبراتها أسنى ، وأجل قدرا .

الثالث : أن يقال : سورة خير من سورة ، أو آية خير من آية ، بمعنى أن القارئ يتعجل له بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل ، ويتأدى منه بتلاوتها عبادة ، كقراءة آية الكرسي ، والإخلاص ، والمعوذتين ، فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى ، والاعتصام بالله ، ويتأدى بتلاوتها عبادة الله ، لما فيها من ذكره سبحانه وتعالى بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها ، وسكون النفس إلى فضل ذلك الذكر وبركته . فأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم وإنما يقع بها علم .

ثم لو قيل في الجملة : إن القرآن خير من التوراة والإنجيل والزبور بمعنى أن التعبد بالتلاوة ، والعلم واقع به دونها ، والثواب بحسب قراءته لا بقراءتها ، أو أنه من حيث الإعجاز [ ص: 374 ] حجة النبي المبعوث ، وتلك الكتب لم تكن معجزة ، ولا كانت حجج أولئك الأنبياء ، بل كانت دعوتهم والحجج غيرها ، وكان ذلك أيضا نظير ما مضى .

وقد يقال : إن سورة أفضل من سورة; لأن الله جعل قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها ، وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب بغيرها وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا ، كما يقال : إن يوما أفضل من يوم ، وشهرا أفضل من شهر ، بمعنى العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره ، والذنب فيه أعظم منه في غيره ، وكما يقال : إن الحرم أفضل من الحل لأنه يتأدى فيه من المناسك ما لا يتأدى في غيره ، والصلاة فيه تكون كصلاة مضاعفة مما تقام في غيرها . انتهى كلام الحليمي .

وقال ابن التين في حديث البخاري : لأعلمنك سورة هي أعظم السور معناه : أن ثوابها أعظم من غيرها .

وقال غيره : إنما كانت أعظم السور ، لأنها جمعت جميع مقاصد القرآن; ولذلك سميت أم القرآن .

وقال الحسن البصري : إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ، ثم أودع علوم القرآن الفاتحة ، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة . أخرجه البيهقي .

وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري ، باشتمالها على الثناء على الله تعالى بما هو أهله ، وعلى التعبد بالأمر والنهي ، وعلى الوعد والوعيد ، وآيات القرآن لا تخلو عن أحد هذه الأمور .

وقال الإمام فخر الدين : المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة : الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى . فقوله : الحمد لله رب العالمين [ الفاتحة : 2 ] . يدل على الإلهيات ، وقوله : مالك يوم الدين يدل على [ ص: 375 ] المعاد وقوله : إياك نعبد وإياك نستعين يدل على نفي الخبر ، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره ، وقوله : اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله وعلى النبوات . فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وهذه السورة مشتملة عليها سميت أم القرآن .

وقال البيضاوي : هي مشتملة على الحكم النظرية ، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم ، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء .

وقال الطيبي : هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين .

أحدها : علم الأصول ومعاقدة الله تعالى وصفاته ، وإليها الإشارة بقوله : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ومعرفة النبوة وهي المرادة بقوله أنعمت عليهم ومعرفة المعاد وهو المومئ إليه بقوله : مالك يوم الدين .

وثانيها : علم الفروع ، وأسه العبادات ، وهو المراد بقوله إياك نعبد

وثالثها : علم يحصل به الكمال وهو علم الأخلاق ، وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والالتجاء إلى جناب الفردانية والسلوك لطريقه ، والاستقامة فيها وإليه الإشارة بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم .

ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة ، والقرون الخالية ، السعداء منهم والأشقياء وما يتصل بها من وعد محسنهم ووعيد مسيئهم ، وهو المراد بقوله : أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقال الغزالي : مقاصد القرآن ستة : ثلاثة مهمة وثلاثة متمة .

الأولى : تعريف المدعو إليه كما أشير إليه بصدرها ، وتعريف الصراط المستقيم ، وقد صرح به فيها ، وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى وهو الآخرة ، كما أشير إليه ب مالك يوم الدين والأخرى تعريف أحوال المطيعين كما أشير إليه بقوله : الذين أنعمت عليهم وحكاية أقوال الجاحدين وقد أشير إليها ب المغضوب عليهم ولا الضالين وتعريف [ ص: 376 ] منازل الطريق كما أشير إليه بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين انتهى .

ولا ينافي هذا وصفها في الحديث الآخر بكونها ثلثي القرآن; لأن بعضهم وجهه بأن دلالات القرآن العظيم : إما أن تكون بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام ، وهذه السورة تدل جميع مقاصد القرآن بالتضمن والالتزام دون المطابقة ، والاثنان من الثلاثة ثلثان . ذكره الزركشي في شرح التنبيه ، وناصر الدين بن الميلق .

قال : وأيضا الحقوق ثلاثة : حق الله على عباده ، وحق العباد على الله ، وحق بعض العباد على بعض ، وقد اشتملت الفاتحة صريحا على الحقين الأولين فناسب كونها بصريحها ثلثين . وحديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين شاهد لذلك .

قلت : ولا تنافي أيضا بين كون الفاتحة أعظم السور ، وبين الحديث الآخر أن البقرة أعظم السور; لأن المراد به ما عدا الفاتحة من السور التي فصلت فيها الأحكام ، وضربت الأمثال ، وأقيمت الحجج ، إذ لم تشتمل سورة على ما اشتملت عليه ولذلك سميت فسطاط القرآن .

قال ابن العربي في أحكامه : سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر ، ولعظيم فقهها أقام ابن عمر ثماني سنين على تعليمها . أخرجه مالك في الموطأ .

وقال ابن العربي أيضا : إنما صارت آية الكرسي أعظم الآيات لعظم مقتضاها ، فإن الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه وتعلقاته ، وهي في آي القرآن كسورة الإخلاص في سوره ، إلا أن سورة الإخلاص تفضلها بوجهين .

أحدهما : أنها سورة ، وهذه آية ، والسورة أعظم لأنه وقع التحدي بها ، فهي أفضل من الآية التي لم يتحد بها .

والثاني : أن سورة الإخلاص اقتضت التوحيد في خمسة عشر حرفا ، وآية الكرسي اقتضت التوحيد في خمسين حرفا ، فظهرت القدرة في الإعجاز بوضع معنى معبر عنه [ ص: 377 ] بخمسين حرفا ، ثم يعبر عنه بخمسة عشر ، وذلك بيان لعظيم القدرة والانفراد بالوحدانية .

وقال ابن المنير : اشتملت آية الكرسي على ما لم تشتمل عليه آية من أسماء الله تعالى ، وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ، ومستكنا في بعض ، وهي : الله ، هو ، الحي ، القيوم ، ضمير لا تأخذه ، وله ، وعنده ، وبإذنه ، ويعلم ، وعلمه ، وشاء ، وكرسيه ، ويئوده ، ضمير " حفظهما " ، المستتر الذي هو فاعل المصدر ، وهو ، العلي ، العظيم .

وإن عددت الضمائر المتحملة في : الحي ، القيوم ، العلي ، العظيم ، والضمير المقدر قبل " الحي " على أحد الأعاريب صارت اثنين وعشرين .

وقال الغزالي : إنما كانت آية الكرسي سيدة الآيات لأنها اشتملت على ذات الله وصفاته وأفعاله فقط ، ليس فيها غير ذلك ، ومعرفة ذلك هو المقصود الأقصى في العلوم ، وما عداه تابع له ، والسيد اسم للمتبوع المقدم ، فقوله : الله إشارة إلى الذات لا إله إلا هو إشارة إلى توحيد الذات الحي القيوم إشارة إلى صفة الذات وجلاله ، فإن معنى القيوم الذي يقوم بنفسه ، ويقوم به غيره ، وذلك غاية الجلال والعظمة . لا تأخذه سنة ولا نوم تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من أوصاف الحوادث ، والتقديس عما يستحيل أحد أقسام المعرفة له ما في السماوات وما في الأرض إشارة إلى الأفعال كلها ، وأن جميعها منه وإليه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إشارة إلى انفراده بالملك والحكم بالأمر ، وأن من يملك الشفاعة إنما يملكها بتشريفه إياه والإذن فيها ، وهذا نفي الشركة عنه في الحكم ، والأمر يعلم ما بين أيديهم إلى قوله " شاء " إشارة إلى صفة العلم وتفضيل بعض المعلومات ، والانفراد بالعلم حتى لا علم لغيره إلا ما أعطاه ووهبه ، على قدر مشيئته وإرادته وسع كرسيه السماوات والأرض إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته . ولا يئوده حفظهما إشارة إلى صفة القدرة وكمالها ، وتنزيهها عن الضعف والنقصان . وهو العلي العظيم إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات .

فإذا تأملت هذه المعاني ، ثم تلوت جميع آي القرآن لم تجد جملتها مجموعة في آية واحدة ، فإن شهد الله [ آل عمران : 18 ] . ليس فيها إلا التوحيد ، وسورة الإخلاص ليس فيها إلا التوحيد والتقديس ، و قل اللهم مالك الملك ليس فيها إلا الأفعال ، [ ص: 378 ] والفاتحة فيها الثلاثة ، لكن غير مشروحة بل مرموزة ، والثلاثة مجموعة مشروحة في آية الكرسي .

والذي يقرب منها في جمعها آخر الحشر وأول الحديد ، ولكنها آيات لا آية واحدة ، فإذا قابلت آية الكرسي ، بإحدى تلك الآيات ، وجدتها أجمع للمقاصد ، فلذلك استحقت السيادة على الآي ، كيف وفيها الحي القيوم وهو الاسم الأعظم كما ورد به الخبر انتهى كلام الغزالي .

ثم قال : إنما قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة : أفضل ، وفي أية الكرسي : سيدة ، لسر وهو أن الجامع بين فنون الفضل وأنواعها الكثيرة يسمى أفضل ، فإن الفضل هو الزيادة والأفضل هو الأزيد . وأما السؤدد فهو رسوخ معنى الشرف الذي يقتضي الاستتباع ، ويأبى التبعية ، والفاتحة تتضمن التنبيه على معان كثيرة ، ومعارف مختلفة ، فكانت أفضل ، وآية الكرسي تشتمل على المعرفة العظمى ، التي هي المقصودة المتبوعة التي تتبعها سائر المعارف ، فكان اسم السيد بها أليق . انتهى .

ثم قال في حديث : قلب القرآن يس إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر ، وهو مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، فجعلت قلب القرآن لذلك ، واستحسنه الإمام فخر الدين .

وقال النسفي : يمكن أن يقال : إن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة : الوحدانية والرسالة والحشر ، وهو القدر الذي يتعلق بالقلب والجنان . وأما الذي باللسان والأركان ففي غير هذه السورة ، فلما كان فيها أعمال القلب لا غير سماها قلبا ، ولهذا أمر بقراءتها عند المحتضر ، لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة والأعضاء [ ص: 379 ] ساقطة لكن القلب قد أقبل على الله تعالى ، ورجع عما سواه ، فيقرأ عنده ما يزداد به قوة في قلبه ، ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة . انتهى .

اختلف الناس في معنى كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ، فقيل : كأنه صلى الله عليه وسلم سمع شخصا يكررها تكرار من يقرأ ثلث القرآن ، فخرج الجواب على هذا وفيه بعد عن ظاهر الحديث ، وسائر طرق الحديث ترده .

وقيل : لأن القرآن يشتمل على قصص وشرائع وصفات ، وسورة الإخلاص كلها صفات فكانت ثلثا بهذا الاعتبار .

وقال الغزالي في الجواهر : معارف القرآن المهمة ثلاثة : معرفة التوحيد ، والصراط المستقيم ، والآخرة ، وهي مشتملة على الأول فكانت ثلثا .

وقال أيضا فيما نقله عنه الرازي : القرآن يشتمل على البراهين القاطعة على وجود الله تعالى ووحدانيته وصفاته : إما صفات الحقيقة ، وإما صفات الفعل ، وإما صفات الحكم ، فهذه أمور ثلاثة ، وهذه السورة تشتمل على صفات الحقيقة فهي ثلث .

وقال الخويي : المطالب التي في القرآن معظمها الأصول الثلاثة التي بها يصح الإسلام ، ويحصل الإيمان ، وهي : معرفة الله ، والاعتراف بصدق رسوله ، واعتقاده القيام بين يدي الله تعالى ، فإن من عرف أن الله واحد ، وأن النبي صادق ، وأن الدين واقع ، صار مؤمنا حقا ، ومن أنكر شيئا منها كفر قطعا ، وهذه السورة تفيد الأصل الأول ، فهي ثلث القرآن من هذا الوجه .

وقال غيره : القرآن قسمان : خبر وإنشاء . والخبر قسمان : خبر عن الخالق ، وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة أثلاث . وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق ، فهي بهذا الاعتبار ثلث .

وقيل : تعدل في الثواب ، وهو الذي يشهد له ظاهر الحديث ، والأحاديث الواردة في سورة الزلزلة والنصر والكافرون ، لكن ضعف ابن عقيل ذلك وقال : لا يجوز أن يكون [ ص: 380 ] المعنى فله أجر ثلث القرآن ، لقوله : من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات

وقال ابن عبد البر : السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم ، ثم أسند إلى إسحاق بن منصور ، قلت لأحمد بن حنبل : قوله صلى الله عليه وسلم : قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن . ما وجهه ؟ فلم يقم لي فيها على أمر .

وقال لي إسحاق بن راهويه : معناه أن الله لما فضل كلامه على سائر الكلام ، جعل لبعضه أيضا فضلا في الثواب لمن قرأه ، تحريضا على تعليمه ، لا أن من قرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن جميعه ، هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة .

وقال ابن عبد البر : فهذان إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة .

وقال ابن الميلق في حديث : إن الزلزلة نصف القرآن لأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة ، وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة كلها إجمالا ، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وتحديث الأخبار .

وأما تسميتها في الحديث الآخر ربعا ، فلأن الإيمان بالبعث ربع الإيمان ، في الحديث الذي رواه الترمذي : لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دعا إليه القرآن .

وقال أيضا في سر كون ألهاكم تعدل ألف آية : إن القرآن ستة آلاف آية ، [ ص: 381 ] ومائتا آية وكسر ، فإذا تركنا الكسر كان الألف سدس القرآن ، وهذه السورة تشتمل على سدس مقاصد القرآن ، فإنها فيما ذكره الغزالي ستة : ثلاث مهمة ، وثلاث متمة ، - وتقدمت - وأحدها معرفة الآخرة المشتمل عليه السورة ، والتعبير عن هذا المعنى بألف آية أفخم وأجل وأضخم من التعبير بالسدس .

وقال أيضا في سر كون سورة الكافرون ربعا ، وسورة الإخلاص ثلثا ، مع أن كلا منهما يسمى الإخلاص : أن سورة الإخلاص اشتملت من صفات الله على ما لم تشتمل عليه الكافرون .

وأيضا فالتوحيد إثبات إلهية المعبود وتقديسه ، ونفي إلهية ما سواه ، وقد صرحت الإخلاص بالإثبات والتقديس ، ولوحت إلى نفي عبادة غيره ، والكافرون صرحت بالنفي ولوحت بالإثبات والتقديس ، فكان بين الرتبتين من التصريحين والتلويحين ما بين الثلث والربع انتهى .

تذنيب : ذكر كثيرون في أثر : أن الله جمع علوم الأولين والآخرين في الكتب الأربعة وعلومها في القرآن ، وعلومه في الفاتحة فزادوا : وعلوم الفاتحة في البسملة ، وعلوم البسملة في بائها .

ووجه بأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب ، وهذه الباء باء الإلصاق ، فهي تلصق العبد بجناب الرب ، وذلك كمال المقصود . ذكره الإمام الرازي وابن النقيب في تفسيرهما .



التالي السابق


الخدمات العلمية