صفحة جزء
فصل .

وأما في كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير .

قال ابن الصلاح في فتاويه : وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر ، أنه قال : صنف أبو عبد الرحمن السلمي " حقائق التفسير " فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر .

قال ابن الصلاح : وأنا أقول : الظن بمن يوثق به منهم - إذا قال شيئا من ذلك - أنه [ ص: 458 ] لم يذكره تفسيرا ، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة ، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية ، وإنما ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن ، فإن النظير يذكر بالنظير ، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإيهام والإلباس .

وقال النسفي في عقائده : النصوص على ظاهرها ، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد .

قال التفتازاني في شرحه : سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها ، بل لها معان باطنية لا يعرفها إلا المعلم ، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية .

قال : وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان .

وسئل شيخ الإسلام سراج الدين البقليني عن رجل قال في قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ البقرة : 255 ] . إن معناه : من ذل أي من الذل . ذي : إشارة إلى النفس يشف ، من الشفاء جواب ( من ) ع : أمر من الوعي ، فأفتى بأنه ملحد ، وقد قال تعالى : إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا [ فصلت : 40 ] . قال ابن عباس : هو أن يضع الكلام على غير موضعه . أخرجه ابن أبي حاتم .

فإن قلت : فقد قال الفريابي : حدثنا سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : [ ص: 459 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل آية ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع .

وأخرج الديلمي من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا : القرآن تحت العرش ، له ظهر وبطن يحاج العباد .

وأخرج الطبراني وأبو يعلى والبزار وغيرهم عن ابن مسعود موقوفا . إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حد ، ولكل حد مطلع .

قلت : أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه .

أحدها : أنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها .

والثاني : أن ما من آية إلا عمل بها قوم ، ولها قوم سيعملون بها ، كما قاله ابن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم .

الثالث : أن ظاهرها لفظها ، وباطنها تأويلها .

الرابع : قال أبو عبيد : وهو أشبهها بالصواب : إن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ، ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، إنما هو حديث حدث به عن قوم ، وباطنها وعظ الآخرين ، وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم ، فيحل بهم مثل ما حل بهم .

وحكى ابن النقيب قولا خامسا : أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق .

ومعنى قوله : ولكل حرف حد أي : منتهى فيما أراد الله من معناه .

وقيل : لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب .

[ ص: 460 ] ومعنى قوله : ولكل حد مطلع . لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ، ويوقف على المراد به .

وقيل : كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة .

وقال بعضهم : الظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على الوعد الوعيد .

قلت : يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال : إن القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أوغل فيه بعنف هوى . أخبار وأمثال ، وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل ، فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء .

وقال ابن سبع في شفاء الصدور : ورد عن أبي الدرداء أنه قال : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها .

وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن . قال : وهذا الذي قالاه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر .

وقال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم ، فهذا يدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ، ومتسعا بالغا ، وأن المنقول من ظاهر التفسير ، ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل ، والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ، ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر ، بل لا بد منه أولا ، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ، ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت ، قبل أن يجاوز الباب . انتهى .

[ ص: 461 ] وقال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن :

اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني العربية ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان ، وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث ، لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء في الحديث : لكل آية ظهر وبطن فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم وأن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله ، فليس ذلك بإحالة ، وإنما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لم يقولوا ذلك ، بل يقرءون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية