صفحة جزء
[ ص: 245 ] النوع العشرون .

في معرفة حفاظه ورواياته .

روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب أي : تعلموا منهم .

والأربعة المذكورون : اثنان من المهاجرين ، وهما المبتدأ بهما ، واثنان من الأنصار .

وسالم : هو ابن معقل مولى أبي حذيفة ، ومعاذ : هو ابن جبل .

قال الكرماني : يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد الإعلام بما يكون بعده ، أي أن هؤلاء الأربعة يبقون حتى ينفردوا بذلك .

وتعقب بأنهم لم ينفردوا ، بل الذين مهروا في تجويد القرآن بعد العصر النبوي أضعاف المذكورين ، وقد قتل سالم مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة ، ومات معاذ في خلافة عمر ، ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان ، وقد تأخر زيد بن ثابت ، وانتهت إليه الرياسة في القراءة ، وعاش بعدهم زمنا طويلا .

فالظاهر أنه أمر بالأخذ عنهم في الوقت الذي صدر فيه ذلك القول ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن ، بل كان الذين يحفظون مثل الذي حفظوه وأزيد جماعة من الصحابة .

وفي الصحيح في غزوة بئر معونة : أن الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء ، وكانوا سبعين رجلا .

[ ص: 246 ] روى البخاري - أيضا - عن قتادة ، قال : سألت أنس بن مالك : من جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟

فقال : أربعة كلهم من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد .

قلت : من أبو زيد ؟ .

قال : أحد عمومتي .

وروى أيضا من طريق ثابت ، عن أنس قال : مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد .

وفيه مخالفة لحديث قتادة من وجهين :

أحدهما : التصريح بصيغة الحصر في الأربعة .

والآخر : ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب ، وقد استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة .

وقال المازري : لا يلزم من قول أنس : ( لم يجمعه غيرهم ) أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك; لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه ، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة ، وتفرقهم في البلاد ؟ وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده ، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هذا في غاية البعد في العادة ، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك .

قال : وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ، ولا متمسك لهم فيه ، فإنا لا نسلم حمله على ظاهره ، سلمناه ، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك ! سلمناه ، لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير ، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه ، بل إذا حفظ الكل ولو على التوزيع كفى .

وقال القرطبي : قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء ، وقتل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ببئر معونة مثل هذا العدد .

[ ص: 247 ] قال : وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم ، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم .

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : الجواب عن حديث أنس من أوجه :

أحدها : أنه لا مفهوم له ، فلا يلزم أن لا يكون غيرهم جمعه .

الثاني : المراد لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها إلا أولئك .

الثالث : لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته وما لم ينسخ إلا أولئك .

الرابع : أن المراد بجمعه تلقيه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بواسطة ، بخلاف غيرهم ، فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة .

الخامس : أنهم تصدوا لإلقائه وتعليمه ، فاشتهروا به ، وخفي حال غيرهم عمن عرف حالهم ، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه ، وليس الأمر في نفس الأمر كذلك .

السادس : المراد بالجمع الكتابة فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظا ، عن ظهر قلبه . وأما هؤلاء فجمعوه كتابة ، وحفظوه عن ظهر قلب .

السابع : المراد أن أحدا لم يفصح بأنه جمعه ، بمعنى أكمل حفظه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أولئك ، بخلاف غيرهم ، فلم يفصح بذلك ; لأن أحدا منهم لم يكمله إلا عند وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت آخر آية ، فلعل هذه الآية الأخيرة وما أشبهها ما حضرها إلا أولئك الأربعة ممن جمع جميع القرآن قبلها ، وإن كان قد حضرها من لم يجمع غيرها الجمع الكثير .

الثامن : أن المراد بجمعه السمع والطاعة له والعمل بموجبه .

وقد أخرج أحمد في " الزهد " من طريق أبي الزاهرية ، أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال : إن ابني جمع القرآن ، فقال : اللهم غفرا إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع .

قال ابن حجر : وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف ، ولا سيما الأخير . قال : وقد ظهر لي احتمال آخر ، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط ، فلا ينفي ذلك ، عن غير القبيلتين من المهاجرين ، لأنه قال ذلك في معرض المفاخرة بين الأوس والخزرج ، كما أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس قال : افتخر الحيان : الأوس والخزرج ، فقال الأوس : منا أربعة : من اهتز له العرش سعد بن معاذ ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين خزيمة بن ثابت ، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر ، ومن حمته الدبر عاصم بن أبي ثابت .

[ ص: 248 ] فقال الخزرج : منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم . . . . . ، فذكرهم .

قال : والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيح : أنه بنى مسجدا بفناء داره ، فكان يقرأ فيه القرآن .

وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك .

قال : وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفراغ باله له وهما بمكة ، وكثرة ملازمة كل منهما للآخر ، حتى قالت عائشة : إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيهم بكرة وعشيا . وقد صح حديث يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وقد قدمه - صلى الله عليه وسلم - في مرضه إماما للمهاجرين والأنصار ، فدل على أنه كان أقرأهم . انتهى .

وسبقه إلى نحو : ذلك ابن كثير .

قلت : لكن أخرج ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح : عن محمد ابن سيرين ، قال : مات أبو بكر ولم يجمع القرآن ، وقتل عمر ولم يجمع القرآن .

قال ابن أشتة : قال بعضهم : يعني لم يقرأ جميع القرآن حفظا .

وقال بعضهم : هو جمع المصاحف .

قال ابن حجر : وقد ورد ، عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم - .

أخرجه ابن أبي داود .

[ ص: 249 ] وأخرج النسائي بسند صحيح ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : اقرأه في شهر . . . . الحديث .

وأخرج ابن أبي داود بسند حسن : عن محمد بن كعب القرظي ، قال : جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة من الأنصار : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبي بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو أيوب الأنصاري .

وأخرج البيهقي في المدخل ، عن ابن سيرين ، قال : جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة ، لا يختلف فيهم : معاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وزيد ، وأبو زيد ، واختلفوا في رجلين من ثلاثة : أبي الدرداء وعثمان .

وقيل : عثمان وتميم الداري .

وأخرج هو وابن أبي داود ، عن الشعبي ، قال : جمع القرآن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة : أبي وزيد ومعاذ وأبو الدرداء وسعيد بن عبيد وأبو زيد ، ومجمع بن جارية ، وقد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة .

وقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات : القراء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعد من المهاجرين : الخلفاء الأربعة ، وطلحة وسعدا ، وابن مسعود ، وحذيفة وسالما وأبا هريرة ، وعبد الله بن السائب ، والعبادلة وعائشة وحفصة وأم سلمة .

ومن الأنصار : عبادة بن الصامت ومعاذا الذي يكنى أبا حليمة ، ومجمع بن جارية وفضالة بن عبيد ، ومسلمة بن مخلد .

وصرح بأن بعضهم إنما أكمله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس ، وعد ابن أبي داود منهم تميما الداري وعقبة بن عامر .

وممن جمعه - أيضا - أبو موسى الأشعري ، ذكره أبو عمرو الداني .

تنبيه : أبو زيد المذكور في حديث أنس ، اختلف في اسمه ، فقيل : سعد بن عبيد بن النعمان ، أحد بني عمرو بن عوف ، ورد بأنه أوسي وأنس خزرجي . وقد قال : إنه أحد عمومته [ ص: 250 ] وبأن الشعبي عده هو وأبو زيد جميعا فيمن جمع القرآن كما تقدم ، فدل على أنه غيره .

وقال أبو أحمد العسكري : لم يجمع القرآن من الأوس غير سعد بن عبيد . وقال ابن حبيب في المحبر : سعد بن عبيد أحد من جمع القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال ابن حجر : قد ذكر ابن أبي داود فيمن جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة ، وهو خزرجي يكنى أبا زيد فلعله هو . وذكر أيضا سعيد بن المنذر بن أوس بن زهير ، وهو خزرجي ، لكن لم أر التصريح بأنه يكنى أبا زيد .

قال : ثم وجدت عن ابن أبي داود ما رفع الإشكال ، فإنه روى بإسناد على شرط البخاري إلى ثمامة ، عن أنس : أن أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السكن . قال : وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار أحد عمومتي ، ومات ولم يدع عقبا ، ونحن ورثناه .

قال ابن أبي داود : حدثنا أنس بن خالد الأنصاري قال : هو قيس بن السكن بن زعوراء من بني عدي بن النجار . قال ابن أبي داود : مات قريبا من وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب علمه ، ولم يؤخذ عنه وكان عقبيا بدريا . ومن الأقوال في اسمه : ثابت وأوس ومعاذ .

فائدة : ظفرت بامرأة من الصحابيات جمعت القرآن ، لم يعدها أحد ممن تكلم في ذلك فأخرج ابن سعد في الطبقات : أنبأنا الفضل بن دكين ، حدثنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، قال : حدثتني جدتي ، عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويسميها الشهيدة ، وكانت قد جمعت القرآن - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين غزا بدرا قالت له : أتأذن لي فأخرج معك وأداوي جرحاكم وأمرض مرضاكم لعل الله يهدي لي شهادة ؟

قال : إن الله مهد لك شهادة وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أمرها أن تؤم أهل دارها ، وكان لها مؤذن ، فغمها غلام لها وجارية كانت دبرتهما فقتلاها في إمارة عمر ، فقال عمر : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : انطلقوا بنا نزور الشهيدة
.

التالي السابق


الخدمات العلمية