صفحة جزء
تنبيهات .

الأول : لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه ، وأما في محله ووضعه وترتيبه فكذلك عند محققي أهل السنة ، للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله ; لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم ، مما تتوفر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله ، فما نقل آحادا ولم يتواتر ، يقطع بأنه ليس من القرآن قطعا .

وذهب كثير من الأصوليين : إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله ، وليس بشرط في محله ووضعه وترتيبه ، بل يكثر فيها نقل الآحاد .

[ ص: 264 ] قيل : وهو الذي يقتضيه صنع الشافعي في إثبات البسملة من كل سورة .

ورد هذا المذهب بأن الدليل السابق يقتضي التواتر في الجميع ، ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر وثبوت كثير مما ليس بقرآن ، أما الأول : فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن ، مثل فبأي آلاء ربكما تكذبان [ الرحمن : 13 ] . وأما الثاني : فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل ، جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد .

وقال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة ، وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه .

[ ص: 265 ] وقال قوم من المتكلمين : إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف ; إذا كانت تلك الأوجه صوابا في العربية وإن لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها . وأبى ذلك أهل الحق ، وأنكروه ، وخطئوا من قال به . انتهى .

وقد بنى المالكية وغيرهم ممن قال بإنكار البسملة قولهم على هذا الأصل ، وقرروه بأنها لم تتواتر في أوائل السور ، وما لم يتواتر فليس بقرآن .

وأجيب من قبلنا بمنع كونها لم تتواتر ، فرب متواتر عند قوم دون آخرين ، وفي وقت دون آخر ، ويكفي في تواترها إثباتها في مصاحف الصحابة فمن بعدهم بخط المصحف ، مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه ، كأسماء السور ، وآمين ، والأعشار ;فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطه من غير تمييز ; لأن ذلك يحمل على اعتقادها ، فيكونون مغررين بالمسلمين ، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا ، وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة .

فإن قيل : لعلها أثبتت للفصل بين السور ; أجيب : بأن هذا فيه تغرير ، ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل ; ولو كانت له لكتبت بين " براءة " والأنفال .

ويدل لكونها قرآنا منزلا : ما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم ، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ( 2 ) . . . . الحديث ; وفيه : وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية ، ولم يعد عليهم .

وأخرج ابن خزيمة والبيهقي في " المعرفة " بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج البيهقي في الشعب ، وابن مردويه - بسند حسن - من طريق مجاهد ، عن ابن عباس قال : أغفل الناس آية من كتاب الله ، لم تنزل على أحد سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون سليمان بن داود : بسم الله الرحمن الرحيم .

[ ص: 266 ] وأخرج الدارقطني والطبراني في الأوسط بسند ضعيف ، عن بريدة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بآية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري ، ثم قال : بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة ، قلت : بسم الله الرحمن الرحيم قال : هي هي .

وأخرج أبو داود ، والحاكم ، والبيهقي ، والبزار من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم .

زاد البزار : فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت واستقبلت ، أو ابتدئت سورة أخرى .

وأخرج الحاكم من وجه آخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا نزلت علموا أن السورة قد انقضت . إسناده على شرط الشيخين .

وأخرج الحاكم - أيضا - من وجه آخر ، عن سعيد عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة . إسناده صحيح .

[ ص: 267 ] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره : عن ابن مسعود قال : كنا لا نعلم فصلا بين السورتين ، حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم .

قال أبو شامة : يحتمل أن يكون ذلك وقت عرضه - صلى الله عليه وسلم - على جبريل ، كان لا يزال يقرأ في السورة إلى أن يأمره جبريل بالتسمية ، فيعلم أن السورة قد انقضت . وعبر - صلى الله عليه وسلم - بلفظ النزول إشعارا بأنها قرآن في جميع أوائل السور . ويحتمل أن يكون المراد أن جميع آيات كل سورة كانت تنزل قبل نزول البسملة ، فإذا كملت آياتها ، نزل جبريل بالبسملة واستعرض السورة ، فيعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قد ختمت ، ولا يلحق بها شيء .

وأخرج ابن خزيمة ، والبيهقي - بسند صحيح - ، عن ابن عباس ، قال : السبع المثاني : فاتحة الكتاب .

قيل : فأين السابعة ؟ .

قال : بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج الدارقطني بسند صحيح : عن علي : أنه سئل عن السبع المثاني ، فقال : الحمد لله رب العالمين ( 2 ) ، فقيل : له : إنما هي ست آيات ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم آية .

وأخرج الدارقطني وأبو نعيم والحاكم في تاريخه - بسند ضعيف - عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كان جبريل إذا جاءني بالوحي أول ما يلقي علي بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج الواحدي من وجه آخر : عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : نزلت بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة .

[ ص: 268 ] وأخرج البيهقي من وجه ثالث ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يقرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وإذا ختم السورة قرأها ، ويقول : ما كتبت في المصحف إلا لتقرأ .

وأخرج الدارقطني - بسند صحيح - ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قرأتم " الحمد " فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن ، وأم الكتاب والسبع المثاني ، و بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها .

وأخرج مسلم ، عن أنس ، قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما ، فقال : أنزلت لي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) . الحديث .

فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنوي بكونها قرآنا منزلا في أوائل السور .

ومن المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين ، قال : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن ، وهو في غاية الصعوبة لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة يكون ذلك من القرآن ، فإنكاره يوجب الكفر .

[ ص: 269 ] وإن قلنا : لم يكن حاصلا في ذلك الزمان ، فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل .

قال : وإلا غلب على الظن أن نقل هذا المذهب ، عن ابن سعود نقل باطل ، وبه يحصل الخلاص ، عن هذه العقدة .

وكذا قال القاضي أبو بكر : لم يصح عنه أنها ليست من القرآن ولا حفظ عنه . إنما حكها وأسقطها من مصحفه إنكارا لكتابتها ، لا جحدا لكونها قرآنا ; لأنه كانت السنة عنده ألا يكتب في المصحف إلا ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإثباته فيه ، ولم يجده كتب ذلك ولا سمعه أمر به .

وقال النووي في شرح المهذب : أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد منها شيئا كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح .

وقال ابن حزم في المحلى : هذا كذب على ابن مسعود وموضوع ، وإنما صح عنه قراءة عاصم ، عن زر ، عنه ، وفيها المعوذتان والفاتحة .

وقال ابن حجر في شرح البخاري : قد صح عن ابن مسعود إنكار ذلك ، فأخرج أحمد وابن حبان عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه .

وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه : من طريق الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي ، قال : كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ، ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله .

وأخرج البزار والطبراني من وجه آخر عنه : أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ، ويقول : إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما وكان عبد الله لا يقرأ بهما . أسانيده صحيحة .

[ ص: 270 ] قال البزار : ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة .

قال ابن حجر : فقول من قال : إنه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل .

قال : وقد أوله القاضي وغيره على إنكار الكتابة كما سبق .

قال : وهو تأويل حسن ; إلا أن الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها : ( ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله ) .

قال : ويمكن حمل لفظ ( كتاب الله ) على المصحف ، فيتم التأويل المذكور .

قال : لكن من تأمل سياق الطرق المذكورة ، استبعد هذا الجمع .

قال : وقد أجاب ابن الصباغ بأنه لم يستقر عنده القطع بذلك ، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك ، وحاصله أنهما كانتا متواترتين في عصره ، لكنهما لم يتواترا عنده . انتهى .

وقال ابن قتيبة في " مشكل القرآن " : ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن لأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين ، فأقام على ظنه ، ولا نقول : إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار .

قال : وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه ، فليس لظنه أنها ليست من القرآن ، معاذ الله ! ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان ، ورأى أن ذلك مأمون في سورة الحمد ، لقصرها ووجوب تعلمها على كل واحد .

قلت : وإسقاطه الفاتحة من مصحفه ، أخرجه أبو عبيد بسند صحيح ، كما تقدم في أوائل النوع التاسع عشر .

التالي السابق


الخدمات العلمية