صفحة جزء
( والقسم الثاني ) الذي ذكره بعض القراء التخفيف الرسمي ذهب إليه جماعة من أهل الأداء كالحافظ أبي عمرو الداني ، وشيخه أبي الفتح فارس بن [ ص: 446 ] أحمد وأبي محمد مكي بن أبي طالب وأبي عبد الله بن شريح وأبي القاسم الشاطبي ، ومن تبعهم على ذلك من المتأخرين . والمراد بالرسم صورة ما كتب في المصاحف العثمانية ، وأصل ذلك عندهم أن سليما روى عن حمزة أنه كان يتبع في الوقف على الهمز خط المصحف ، ومعنى ذلك أن حمزة لا يألو في وقفه على الكلمة التي فيها همز اتباع ما هو مكتوب في المصحف العثماني المجمع على اتباعه . يعني أنه إذا خفف الهمز في الوقف فمهما كان من أنواع التخفيف موافقا لخط المصحف خففه به دون ما خالفه ، وإن كان أقيس ، وهذا معنى قول الداني في " التيسير " : واعلم أن جميع ما يسهله حمزة من الهمزات فإنما يراعى فيه خط المصحف دون القياس كما قدمناه - يعني بما قدمه قوله قبل ذلك - فإن انضمت ، أي الهمزة ، جعلها بين الهمزة والواو نحو قوله : ( فادروا ، وبوسا ، ولا يوده ، ومستهزون ، وليواطوا ، ويا بنوم ) وشبهه ما لم تكن صورتها ياء نحو ( قل أونبيكم ، وسنقريك ، وكان سيئه ) وشبهه فإنك تبدلها ياء مضمومة اتباعا لمذهب حمزة في اتباع الخط عند الوقف ، وهو قول الأخفش - أعني التسهيل في ذلك بالبدل - انتهى . وهو غاية من الوضوح . معنى قوله : دون القياس - أي المجرد عن اتباع الرسم كما مثل به ، وليس معناه : وإن خالف القياس - كما توهمه بعضهم ، فإن اتباع الرسم لا يجوز إذا خالف قياس العربية كما بينا ونبين ، ولا بد حينئذ من معرفة كتابة الهمز ليعرف ما وافق القياس في ذلك مما خالفه ، فاعلم أن الهمزة وإن كان لها مخرج يخصها ولفظ تتميز به فإنه لم يكن لها صورة تمتاز كسائر الحروف ، ولتصرفهم فيها بالتخفيف إبدالا ، ونقلا ، وإدغاما ، وبين بين ، كتبت بحسب ما تخفف به ، فإن كان تخفيفها ألفا ، أو كالألف كتبت ألفا ، وإن كان ياء أو كالياء كتبت ياء ، وإن كان واوا أو كالواو كتبت واوا ، وإن كان حذفا ينقل ، أو إدغاما ، أو غيره حذفت ما لم تكن أولا ، فإن كانت أولا كتبت ألفا أبدا إشعارا بحالة الابتداء إذا كانت فيه لا يجوز تخفيفها بوجه . هذا هو الأصل والقياس في العربية ورسم المصحف [ ص: 447 ] وربما خرجت مواضع عن القياس المطرد لمعنى فمما خرج من الهمز الساكن اللازم في المكسور ما قبله ( ورئيا ) في سورة مريم حذفت صورة همزتها وكتبت بياء واحدة ، قيل : اكتفاء بالكسرة ، والصواب أن ذلك كراهة اجتماع المثلين ؛ لأنها لو صورت لكانت ياء ، فحذفت لذلك كما حذفت من ( و يستحيي و يحيي ) ونحو ذلك ؛ لاجتماع المثلين ، وكتبت ( هيئ لنا و يهيئ لكم ) في بعض المصاحف صورة الهمزة فيها ألفا ؛ من أجل اجتماع المثلين ، إذ لو حذفت لحصل الإجحاف من أجل أن الياء فيهما قبلها مشددة ، نص على تصويرها ألفا فيهما وفي ( ومكر السيئ و المكر السيئ ) الغازي بن قيس في هجاء السنة له ، أنكر الحافظ أبو عمرو الداني كتابة ذلك بألف ، وقال : إنه خلاف الإجماع ، وقال السخاوي : إن ذلك لم يقله أبو عمرو ، عن يقين ، بل عن غلبة ظن وعدم اطلاع ، ثم قال : وقد رأيت هذه المواضع في المصحف الشامي كما ذكره الغازي بن قيس .

( قلت ) : وكذلك رأيتها أنا فيه ، وقد نص الشاطبي وغيره على رسم ( هيئ و يهيئ ) بياءين ، والله أعلم .

وفي المضموم ما قبله ( تووي إليك ، وتوويه ) حذفت صورة الهمزة كذلك ؛ لأنها لو صورت لكانت واوا ، فيجتمع المثلان أيضا كما حذفت في ( داود ، وروي ، و يستوون ) لذلك . وكذلك حذفت في ( رؤياك ، و الرؤيا ، و رؤياي ) في جميع القرآن ، فلم يكتب لها أيضا صورة ؛ لأنها لو صورت في ذلك لكانت واوا ، والواو في الخط القديم الذي كتبت به المصاحف العثمانية قريبة الشكل بالراء ، فحذفت لذلك ، ويحتمل أن تكون كتبت على قراءة الإدغام ، أو لتشمل القراءتين تحقيقا وتقديرا ، وهو الأحسن ، وفي المفتوح ما قبلها ( فاداراتم فيها ) من سورة البقرة حذفت صورة الهمزة منه . ولو صورت لكانت ألفا ، وكذلك حذفت الألف التي قبلها بعد الدال . وإنما حذفا اختصارا وتخفيفا ، أو أنهما لو كتبا لاجتمعت الأمثال ، فإن الألف التي بعد الفاء ثابتة بغير خلاف ؛ تنبيها عليها لأنها ساقطة في اللفظ ، بخلاف الآخرتين ، فإنهما وإن حذفتا خطأ فإن موضعهما معلوم ، إذ لا يمكن النطق بالكلمة [ ص: 448 ] إلا بهما ، وقال بعض أئمتنا : في حذفهما تنبيه على أن اتباع الخط ليس بواجب ليقرأ القارئ بالإثبات في موضع الحذف ، ولا حذف في موضع الإثبات إذا كان ذلك من وجوه القراءات ، وكذلك حذفت صورة الهمزة من ( امتلات ) في أكثر المصاحف تخفيفا . وكذلك ( استاجره ، واستاجرت ) فيما ذكره أبو داود في التنزيل ، وكذلك ( يستأخرون ) في الغيبة والخطاب ، واستثنى بعضهم حرف الأعراف ، ومما خرج من الهمز المتحرك بعد ساكن غير الألف المنشأة في الثلاثة المواضع ، و ( يسألون عن ) في الأحزاب ، و ( موئلا ) في الكهف و ( السوأى ) في الروم و ( أن تبوء ) في المائدة و ( ليسوءوا ) في سبحان ، فصورت الهمزة في هذه الأحرف الخمسة ، وكان قياسها الحذف ، وأن لا تصور ; لأن قياس تخفيفها النقل ويلحق بها ( هزوا ) على قراءة حمزة وخلف و ( كفؤا ) على قراءتهما وقراءة يعقوب ، فـ " النشأة " كتبت بألف بعد الشين بلا خلاف ؛ لاحتمال القراءتين ، فهي قراءة أبي عمرو ومن معه ممن مد صورة المدة ، وفي قراءة حمزة ، ومن معه ممن سكن الشين صورة الهمزة ، و ( يسألون ) اختلفت المصاحف في كتابتها ، ففي بعضها بألف بعد السين ، وفي بعضها بالحذف فما كتبت فيه بألف فهي كالنشأة ؛ لاحتمال القراءتين ، فإنه قرأها بتشديد السين والمد يعقوب من رواية رويس وهي قراءة الحسن البصري وعاصم الجحدري ، وأبي إسحاق السبيعي ، وما كتبت فيه بالحذف فإنها على قراءة الجماعة الباقين ، و ( موئلا ) وأجمع المصاحف على تصوير الهمزة فيه ياء ، وذلك من أجل مناسبة رءوس الآي قبل وبعد نحو ( موعدا و مصرفا و موبقا ) ومحافظة على لفظها ، و ( السوأى ) صورت الهمزة فيها ألفا بعد الواو وبعدها ياء هي ألف التأنيث على مراد الإمالة ، ولما صورت ألف التأنيث لذلك ياء صورت الهمزة قبلها ألفا ؛ إشعارا بأنها تابعة لألف التأنيث في الإمالة ، و ( أن تبوء ) صورت فيه ألفا ولم تصور همزة متطرفة بغير خلاف بعد ساكن في غير هذا الموضع ، و ( ليسوءوا ) مثلها في قراءة حمزة ، ومن معه ، وأما على [ ص: 449 ] قراءة نافع ، ومن معه ، فإن الألف فيها زائدة ؛ لوقوعها بعد واو الجمع كما هي في ( قالوا ) وشبهه وحذف إحدى الواوين تخفيفا لاجتماع المثلين على القاعدة و ( هزوا و كفوا ) فكتبتا على الأصل بضم العين فصورت على القياس ، ولم تكتب على قراءة من سكن تخفيفا على أن هذه الكلمات السبع لم تصور الهمزة فيها صريحا إلا في ( موئلا ) قطعا ، وفي ( أن تبوء بإثمي ) في أقوى الاحتمالين ، وذكر الحافظ أبو عمرو الداني ( لتنوء بالعصبة ) في القصص مما صورت الهمزة فيه ألفا مع وقوعها متطرفة بعد ساكن ، وتبعه على ذلك الشاطبي ، فجعلها أيضا مما خرج عن القياس ، وليس كذلك ، فإن الهمزة من ( لتنوء ) مضمومة ، فلو صورت لكانت واوا كما صورت المكسورة في ( موئلا ) ياء كالمفتوحة ، وفي ( تبوء و النشأة والسوأى ، ) والصواب أن صورة الهمزة منها محذوف على القياس ، وهذه الألف وقعت زائدة كما كتبت في ( يعبؤا ) و ( تفتؤا ) و ( لؤلؤا ) و ( إن امرؤ ) تشبيها بما زيد بعد واو الجمع ، وهذا محتما أيضا في ( أن تبوء بإثمي ) والله أعلم .

وذكر بعضهم في هذا الباب ( لا تايسوا من روح الله إنه لا ييأس ) ، و أفلم ييأس الذين وليس كذلك ، فإن الألف في هذه المواضع الثلاثة لا تعلق لها بالهمز ، بل تحتمل أمرين : إما أن تكون رسمت على قراءة ابن كثير وأبي جعفر من روايتي البزي وابن وردان كما تقدم في باب الهمز المفرد ، والأمر الثاني : أنه قصد بزيادتها أن يفرق بين هذه الكلمات وبين يئس ويئسوا ، فإنها لو رسمت بغير زيادة لاشتبهت بذلك ، ففرق بين ذلك بألف كما فرق بزيادة الألف في مائة للفرق بينه وبين منه ، ولتحتمل القراءتين أيضا ، وكذلك زيادة الألف في : ( لشآي ) في الكهف ، أو فيها وفي غيرها ، وفي وجيء لا مدخل لها هنا ، والله تعالى أعلم . وأما ( المؤدة ) فرسمت بواو واحدة لاجتماع المثلين وحذفت صورة الهمزة فيها على القياس ، وكذلك في ( مسؤلا ) والعجب من الشاطبي كيف ذكر ( مسؤلا ) مما حذفت منه إحدى الواوين ، وكذلك حذف ألف قرآنا في أول سورة يوسف والزخرف بعد الهمزة كما كتبت في بعض المصاحف ، فما حذف اختصارا للعلم به فليس من [ ص: 450 ] هذا الباب ، وكذلك حذف في بعضها من وقرآنا فرقناه في سبحان . و قرآنا عربيا في الزمر ، فكتبت : ( ق . ر . ن ) فحذف غير ذلك من الألفات للتخفيف ، وخرج من الهمز المتحرك بعد الألف من المتوسط أصل مطرد وكلمات مخصوصة . فالأصل المطرد مما اجتمع فيه مثلان فأكثر ، وذلك في المفتوحة مطلقا نحو ( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ، وما جعل أدعياءكم أبناءكم ، وما كانوا أولياءه ، و دعاء ونداء ، و ماء ، و ملجأ ، و خطأ ) ومن المضمومة إذا وقع بعد الهمزة واو نحو ( جاءوكم ، و يراءون ) وفي المكسورة إذا وقع بعدها ياء نحو ( إسرائيل ) ومن ( وراي و شركاي والاي ) في قراءة حمزة كما تقدم ، فلم يكتب للهمز في ذلك صورة ؛ لئلا يجمع بين صورتين ، والكلمات المخصوصة أولياؤهم الطاغوت في البقرة ، و أولياؤهم من الإنس في الأنعام ، وفيها ليوحون إلى أوليائهم وفي الأحزاب إلى أوليائكم وفي فصلت نحن أولياؤكم فكتب في أكثر مصاحف أهل العراق محذوف الصورة ، وفي سائر المصاحف ثابتا . وحكى ابن المنادي وغيره أن في بعض المصاحف ( إن أولياؤه ) في الأنفال محذوف أيضا ، وأجمعت المصاحف على حذف ألف البينة قبل الهمز في ذلك كله ونحوه ، والله أعلم . وإنما حذفت صورة الهمز من ذلك ; لأنه لما حذفت الألف من المخفوض اجتمع الصورتان ، فحذفت صورة الهمز لذلك ، وحمل المرفوع عليه ، وفي إن أولياؤه ليناسب وما كانوا أولياءه والله تعالى أعلم ، واختلف أيضا في " جزاؤه " الثلاثة الأحرف من يوسف . فحكى حذف صورة الهمزة فيها الغازي بن قيس في كتابه " هجاء السنة " ، ورواه الداني في مقنعه عن نافع ، ووجه ذلك قرب شبه الواو من صورة الزاي في الخط القديم كما فعلوا في الرؤيا ، فحذفوا صورة الهمزة لشبه الواو بالراء ، والله أعلم .

وأجمعوا على رسم " تراء " من قوله تعالى : فلما تراء الجمعان في الشعراء بألف واحدة ، واختلف علماؤنا في الألف الثابتة والمحذوفة هل الأولى أم الثانية ؟ فذهب الداني إلى أن المحذوفة [ ص: 451 ] هي الأولى ، وأن الثانية هي الثابتة ، ووجه بثلاثة أوجه : أحدها أن الأولى زائدة ، والثانية أصلية ، والزائد أولى بالحذف ، والأصلي أولى بالثبوت . والثاني أنهما ساكنان ، وقياسه تغيير الأولى . والثالث أن الثانية قد أعلت بالقلب ، فلا تعل ثانيا بالحذف ؛ لئلا يجتمع عليها إعلالان . وذهب غيره إلى أن الثانية هي الأولى ، وأن الثانية هي المحذوفة ، واستدلوا بخمسة أوجه :

أحدها أن الأولى تدل على معنى وليست الثانية كذلك ، فحذفها أولى . والثاني أن الثانية طرف ، والطرف أولى بالحذف . والثالث أن الثانية حذفت في الوصل لفظا ، فناسب أن تحذف خطا . والرابع أن حذف إحدى الألفين إنما سببه كراهية اجتماع المثلين ، والاجتماع إنما يتحقق بالثانية ، فكان حذفها أولى . والخامس أن الثانية لو ثبتت لرسمت ياء ؛ لأنها قياسها لكونها منقلبة عن ياء ، وأجابوا عن الأولى بأن الزائد إنما يكون أولى بالحذف من الأصلي إذا كانت الزيادة لمجرد التوسع ، أما إذا كانت للأبنية فلا . وعن الثاني بأنها لم تحذف لالتقاء الساكنين ، بل للمثلين ، وأيضا فقد غير الثاني لالتقاء الساكنين كثيرا ، وعن الثالث بأن محل القلب اللفظ ، ومحل الحذف الخط ، فلم يتعدد الإعلال في واحد منهما ، وخرج من المتطرف بعد الألف كلمات وقعت الهمزة فيها مضمومة ومكسورة ، فالمضمومة منها ثمان كلمات كتبت الهمزة فيها واوا بلا خلاف ، وهي ( شركاء ) في الأنعام ( أنهم فيكم شركؤا ) ، وفي الشورى ( أم لهم شركؤا ) ونشاء في هود ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا ) ، والضعفاء في إبراهيم ( فقال الضعفؤا ) ، وشفعاء في الروم ( من شركائهم شفعؤا ) ، و دعاء في غافر ( وما دعاؤا الكافرين ) ، والبلاء في الصافات ( إن هذا لهو البلؤا المبين ) ، وفي الدخان ( بلؤا مبين ) ، وبرآء في الممتحنة ( إنا برؤاء ) ، وجزاء في الأولين من المائدة ( وذلك جزؤا الظالمين ) و ( إنما جزؤا الذين ) ، وفي الشورى ( وجزؤا سيئة ) ، وفي الحشر ( وذلك جزؤا الظالمين ) ، واختلف في أربع ، وهي جزاء المحسنين في الزمر ، و جزاء من تزكى في طه ، و جزاء الحسنى في الكهف وفي علماء بني إسرائيل في الشعراء ، [ ص: 452 ] و ( إنما يخشى الله من عباده العلمؤا ) في فاطر ، وفي ( أنباؤا ما كانوا به ) في الأنعام والشعراء . فما كتب من هذه الألفاظ بالواو ، فإن الألف قبله تحذف اختصارا ، وتلحق بعد الواو منه ألف تشبيها بواو يدعوا ، وقالوا : وما لا يكتب فيه صورة الهمزة فإن الألف فيه تثبت لوقوعها طرفا والمكسورة صورت الهمزة فيه ياء في أربع كلمات بغير خلاف ، وهي ( من تلقاي نفسي ) في يونس و ( إيتاي ذي القربى ) في النحل ، و ( من آناي الليل ) في طه ، و ( أو من وراي حجاب ) في الشورى ، والألف قبلها ثابتة فيها ، ولكن حذفت في بعض المصاحف من ( تلقاي نفسي ) ، و ( إيتاي ذي القربى ) قال السخاوي قد رأيت في المصحف الشامي الألف محذوفة من ( تلقي نفسي ) ، ومن ( ايتي ذي القربى ) كما كتبت إلى بغير ألف ، وثابتة في آناي الليل ، ووراي حجاب . انتهى . واختلف في ( بلقاي ربهم ، ولقاي الآخرة ) الحرفين في الروم ، فنص الغازي بن قيس على إثبات الياء فيهما ، وقال الداني : ومصاحف أهل المدينة على ما رواه الغازي بن قيس بالياء . وقال السخاوي : وقد رأيت الحرف الأول من بلقاء ربهم بغير ياء ، ورأيت الحرف الثاني " ولقاي الآخرة " بالياء . وأما اللاي فإنها كتبت في السور الثلاث ( إلى ) على صورة " إلى الجارة لتحتملها القراءات الأربع . فالألف حذفت اختصارا كما حذفت من تلقاء نفسي وبقيت صورة الهمزة عند من حذف الياء وحقق الهمزة ، أو سهلها بين بين ، وصورة الياء عند من أبدلها ياء ساكنة ، وأما عند وقف حمزة ، ومن معه ممن أثبت الهمزة والياء جميعا ، فحذفت إحدى الياءين لاجتماع الصورتين ، والظاهر أن صورة الهمزة محذوفة ، والثابت هو الياء ، والله أعلم .

وخرج من الهمز المتحرك المتطرف المتحرك ما قبله بالفتح كلمات وقعت الهمزة فيها مضمومة ومكسورة . فالمضمومة عشرة كتبت الهمزة فيها واوا ، وهي ( تفتوا ) في يوسف ، و ( يتفيوا ) في النحل ، و ( أتوكوا ) و ( لا تظموا ) كلاهما في طه ، و ( يدروا عنها ) في النور ، و ( يعبوا ) في الفرقان ، و ( الملا ) في أول المؤمنين ، وهو فقال الملأ الذين كفروا من قومه [ ص: 453 ] في قصة نوح ، وفي المواضع الثلاثة في النمل ، وهي ( الملوا اني ) ( والملوا فتواني ) ( والملوا ايكم ) و ( ينشوا في الحلية ) في الزخرف ( ونبو ) في غير حرف براءة ، وهو في إبراهيم ( نبوا الذين ) ، وكذلك في التغابن ، و ( نبوا عظيم ) في ص ، و ( نبوا الخصم ) فيها ، إلا أنه في بعض المصاحف كتب بغير واو ، و ( ينبوا الإنسان ) في القيامة على اختلاف فيه ، وزيدت الألف بعد الواو في هذه المواضع تشبيها بالألف الواقعة بعد واو الضمير ، والمكسورة موضع واحد صورت الهمزة فيه ياء ، وهي ( من نباي المرسلين ) في الأنعام ، إلا أن الألف زيدت قبلها ، وقد قيل : إن الألف هي صورة الهمزة في ذلك ، وإن الياء زائدة ، والأول هو الأولى ، بل الصواب . فإن الهمزة المضمومة من ذلك صورت واوا بالاتفاق ، فحمل المكسورة على نظيرها أصح ، وأيضا فإن الألف زيدت قبل الياء رسما في ( لشاي ) من سورة الكهف ، وفي " جيء " لغير موجب فزيادتها هنا لموجب الفتحة بعد الهمزة أولى ، وأيضا فإن الكتاب أجمعوا على زيادة الألف في ( ماية ) قبل الياء ليفرقوا بينها وبين منه ، وحمل علماء الرسم الألف في ياء ( يس ) على ذلك للفرق بينها وبين ( بيس ) مع وجود القراءة بهذه الصورة ، فحملها هنا للفرق بينها وبين بني ونبي أولى ، والله أعلم . وتقدم ذكر ( السيئ ) في موضعي فاطر وحكاية الغازي وغيره أن صورة الهمزة فيه كتبت ألفا على غير قياس ، وإنكار الداني ذلك وأنها كتبت ياء على القياس . ووجه رسم ما تقدم من مضموم المتطرف واوا ومكسوره ياء تنبيها على وجه تخفيفها وفقا لذلك على لغة من يقف عليه بذلك كما قدمناه . وقيل : تقوية للهمزة في الخط كما قويت في اللفظ بحرف المد . وقيل : اعتناء ببيان حركتها ، وقيل : إجراء للمتطرف في مجرى المتوسط باعتبار وصله بما بعده ، كما أجروا بعض الهمزات المبتدآت لذلك ، والأول هو الصواب ؛ لظهور فائدته وبيان ثمرته ، والله تعالى أعلم ، وخرج من الهمز المتوسط المتحرك بعد متحرك أصل مطرد ، وهو ما وقع بعد الهمزة فيه [ ص: 454 ] واوا أو ياء ، فلم ترسم في ذلك صورة ، وذلك نحو ( مستهزون ) و ( صابون ) و ( مالون ) و ( يستنبونك ) و ( ليطفو ) و ( بروسكم ) و ( يطون ) ونحو ( خاسين ) و ( صابين ) و ( متكين ) ، وذلك إما لاجتماع المثلين على القاعدة المألوفة رسما ، أو على لغة من يسقط الهمزة رأسا ، أو لتحتمل القراءتين إثباتا وحذفا ، والله أعلم . وكذلك حذفوها من ( سيات ) في الجمع نحو ( كفر عنهم سياتهم ) ، و ( اجترحوا السيات ) لاجتماع المثلين ، وعرضوا عنها إثبات الألف على غير قياسهم في ألفات جمع التأنيث ، وأثبتوا صورتها في المفرد ( سيئة ) ، و ( سيئا ) وجمعوا بين صورتها وألف الجمع في المنشآت ، وخرج من ذلك الهمزة المضمومة بعد كسر ما لم يكن بعدها واو نحو ( ولا ينبيك ) ، و ( سنقريك ) فلم يرسم على مذهب الجادة بواو ، بل رسم على مذهب الأخفش بالياء ورسم عكسه سئل و سئلوا على مذهب الجادة ، ولم يرسم على مذهب الأخفش ، واختلف من المفتوح بعد الفتح في ( اطمانوا ) ، وفي ( لاملن ) أعني التي قبل النون ، وفي : ( اشمزت ) فرسمت في بعض المصاحف بالألف على القياس ، وحذفت في أكثرها على غير قياس تخفيفا واختصارا إذا كان موضعها معلوما ، وكذلك اختلفوا في ( ارايت ) و ( اريتم ) و ( اريتكم ) في جميع القرآن ، فكتب في بعض المصاحف بالإثبات ، وفي بعضها بالحذف ، إما على الاختصار أو على قراءة الحذف ، وذكر بعضهم الحذف في سورة الدين فقط ، وذكره بعضهم فيها وفي ( أريتم ) فقط ، والصحيح إجراء الخلاف في الجميع ، والله أعلم .

وأما ( نأى ) في سبحان وفصلت فإنه رسم بنون وألف فقط ؛ ليحتمل القراءتين ، فعلى قراءة من قدم حرف المد على الهمز ظاهر ، وعلى قراءة الجمهور قد رسم الألف المنقلبة ألفا فاجتمع حينئذ ألفان فحذف إحداهما ، ولا شك عندنا أنها المنقلبة ، وأن هذه الألف الثابتة هي صورة الهمزة كما سيأتي بيانه ، وكذلك رأى كتب في جميع القرآن براء وألف لا غير ، والألف فيه صورة الهمزة كذلك وكتب في موضعي النجم وهما ما كذب الفؤاد ما رأى ، لقد رأى من آيات ربه الكبرى بألف بعدها ياء على لغة الإمالة فجمع [ ص: 455 ] في ذلك بين اللغتين ، والله أعلم .

وأما رسم ( ماية ) و ( مايتين ) و ( ملايه ) و ( ملايهم ) بالألف قبل الياء ، فالألف في ذلك زائدة كما قدمنا ، والياء فيه صورة الهمزة قطعا ، والعجب من الداني والشاطبي ومن قلدهما كيف قطعوا بزيادة الياء في ( ملايه ) و ( ملايهم ) فقال الداني في مقنعه : وفي مصاحف أهل العراق وغيرها و ( ملايه ) و ( ملايهم ) حيث وقع بزيادة ياء بعد الهمزة ، قال : كذلك رسمها الغازي بن قيس في كتاب " هجاء السنة " الذي رواه عن أهل المدينة ، قال السخاوي : وكذلك رأيته في المصحف الشامي .

( قلت ) : وكذلك في جميع المصاحف ، ولكنها غير زائدة ، بل هي صورة الهمزة ، وإنما الزائدة الألف ، والله أعلم .

وخرج من الهمز الواقع أولا كلمات لم تصور الهمزة فيه ألفا كما هو القياس فيما وقع أولا ، بل صورت بحسب ما تخفف به حالة وصلها بما قبلها ؛ إجراء للمبتدأ في ذلك مجرى المتوسط ، وتنبيها على جواز التخفيف جمعا بين اللغتين ، فرسمت المضمومة في ( أونبيكم ) بالواو بعد الألف ، ولم ترسم في نظيرها ( أأنزل أألقي ) بل كتبا بألف واحدة للجمع بين الصورتين ، وكذلك سائر الباب نحو ( أأنذرتهم ، أأنتم ، أأشفقتم ، أأمنتم من ، أألله أذن ) وكذلك ما اجتمع فيه ثلاث ألفات لفظا نحو أآلهتنا ، وكذلك إذا أإنا إلا مواضع كتبت بياء على مراد الوصل كما سنذكره ، ورسم " هؤلاء " بواو ، ثم وصل بها التنبيه بحذف ألفه كما فعل في ( يأيها ) ، ورسم ( يابنوم ) في طه بواو ، ووصل بنون ( ابن ) ثم وصلت ألف ابن بياء النداء المحذوفة الألف ، فالألف التي بعد الياء هي ألف ( ابن ) هذا هو الصواب كما نص عليه أبو الحسن السخاوي ، نقله عن المصحف الشامي رؤية ، وكذلك رأيتها أنا فيه غير أن بها أثر حك أظنه وقع بعد السخاوي ، والله أعلم .

( وهذا المصحف ) الذي ينقل عنه السخاوي ويشير إليه بالمصحف الشامي هو بالمشهد الشرقي الشمالي الذي يقال له مشهد علي بالجامع الأموي من دمشق المحروسة . وأخبرنا شيوخنا الموثوق بهم أن هذا المصحف كان أولا بالمسجد المعروف بالكوشك داخل دمشق الذي جدد [ ص: 456 ] عمارته الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله - وأن السخاوي - رحمه الله - كان سبب مجيئه إلى هذا المكان من الجامع ، ثم إني أنا رأيتها كذلك في المصحف الكبير الشامي الكائن بمقصورة الجامع الأموي المعروف بالمصحف العثماني ، ثم رأيتها كذلك بالمصحف الذي يقال له : الإمام ، بالديار المصرية ، وهو الموضوع بالمدرسة الفاضلية داخل القاهرة المعزية ، وكتبت الهمزة من أم في ( ابن أم ) في الأعراف ألفا مفصولة ، وأما ( هاؤم اقروا ) في الحاقة فالهمزة فيه ليست من هذا الباب ، فلم تكن كالهمزة من ( هؤلاء وهانتم ) ; لأن همزة هاؤم حقيقية ؛ لأنها تتمة كلمة " هاء " بمعنى خذ ، ثم اتصل بها ضمير الجماعة المتصل وهؤلاء ( وهانتم ) الهاء فيه للتنبيه دخلت على أولاء ، وعلى أنتم فتسهل همزة ( هاوم ) بلا خلاف بين بين ويوقف ( هاوم ) على الميم بلا نظر ، وقد منع أبو محمد مكي الوقف عليها ظنا منه أن الأصل ( هاومو ) بواو ، وإنما كتبت على لفظ الوصل فحذفت لالتقاء الساكنين كما حذفت في سندع الزبانية فقال : لا يحين الوقف عليه ؛ لأنك إن وقفت على الأصل بالواو خالفت الخط ، وإن وقفت بغير واو خالفت الأصل ، وذكر الشيخ أبو الحسن السخاوي في شرحه معنى ذلك ، وذلك سهو بين ، فإن الميم في ( هاوم ) مثل الميم في ( أنتم ) الأصل فيهما الصلة بالواو على ما تقدم في قراءة ابن كثير وأبي جعفر ورسم المصحف في جميع ذلك بحذف الواو فيما ليس بعده ساكن ، فما بعده ساكن أولى فالوقف على الميم لجميع القراء ، وإذا كان الذي يصل ميم الجمع بواو في الوصل لا يقف بالواو على الأصل فما الظن بغيره . وهذا مما نبه عليه الأستاذ أبو شامة - رحمه الله - ورسم ( لاصلبنكم ) في طه والشعراء وفي بعض المصاحف بالواو بعد الألف ، وكذلك ( ساوريكم ) فقطع الداني ومن تبعه بزيادة الواو في ذلك ، وإن صورة الهمزة هو الألف قبلها ، والظاهر أن الزائد في ذلك هو الألف ، وأن صورة الهمزة هو الواو ، كتبت على مراد الوصل تنبيها على التخفيف ، والدليل على ذلك زيادة الألف بعد اللام في نظير ذلك وهو ( لا اذبحنه ) و ( لا اوضعوا ) ، وكذلك إذا خففنا الهمزة [ ص: 457 ] في ذلك فإنا نخففها بين الهمزة والواو كما أنا إذا خففناها في هذا نخففه بين الهمزة والألف ، فدل على زيادة الألف في كل ذلك ، والله أعلم . " نعم " زيدت الواو بإجماع من أئمة الرسم والكتابة في أولي للفرق بينها وبين ( إلى ) الجارة ، وفي أولئك للفرق بينها وبين ( إليك ) واطردت زيادتها في ( أولوا ) و ( أولات ) ، و ( أولاء ) حملا على أخواته ، وهي في ( ياأولي ) تحتمل الزيادة ، وهو الظاهر لزيادتها في نظائرها ، وتحتمل أن تكون الواو صورة الهمزة كما كتبت في هؤلاء ، وتكون الألف ألف ياء ، وهو بعيد ؛ لاطراد حذف الألف من ياء حرف النداء ، ولكن إذا أمكن الحمل على عدم الزيادة بلا معارض فهو أولى ، والله أعلم .

ورسمت المكسورة في : ( لين ) ، ( ويوميذ ) ، ( وحينيذ ) ياء موصولة بما قبلها كلمة واحدة . وكذلك صورت في ( اينكم ) في الأنعام والنمل ، والثاني من العنكبوت وفصلت ( و أين لنا ) في الشعراء ( و أينا لمخرجون ) في النمل و ( أينا لتاركوا ) في الصافات و ( ايذا متنا ) في الواقعة ، وكذا رسم ( أين ذكرتم ) في يس و ( ايفكا ) في الصافات في مصاحف العراق ورسما في غيرها بألف واحدة ، وكذلك سائر الباب ، والله أعلم .

وأما " أيمة " فليست من هذا الباب ، وإن كان قد ذكرها الشاطبي وغيره فيه ، فإن الهمزة فيه ليست أولا ، وإن كانت فاء ، بل هي مثلها في يئن ويئط ، وكذلك في ( ييس ) ، وإن كانت عينا فرسمها ياء على الأصل ، وهذا مما لا إشكال فيه ، والله أعلم .

وحذفت الهمزة المفتوحة بعد لام التعريف من كلمتين ، إحداهما ( الآن ) في موضعي يونس وفي جميع القرآن إجراء للمبتدأ مجرى المتوسطة ، وذلك باعتبار لزوم هذه الكلمة الأداة ، واختلف في الذي في سورة الجن وهو : ( فمن يستمع الآن ) فكتب في بعضها بألف ، وهذه الألف هي صورة الهمزة ، إذ الألف التي بعدها محذوفة على الأصل اختصارا ، والثانية ( الايكة ) في الشعراء وص رسمت في جميع المصاحف بغير ألف بعد اللام ، وقبلها لاحتمال القراءتين فهي على قراءة أهل الحجاز والشام ظاهرة تحقيقا ، وعلى قراءة الكوفيين والبصريين [ ص: 458 ] تحتمل تقديرا على اللفظ ومراد النقل . ورسم ( أفاين مات ) في آل عمران ( أفاين مت ) في الأنبياء بياء بعد الألف . فقيل : إن الياء زائدة ، والصواب زيادة الألف كما أذكره ، ورسم ( باييد ، وباييكم ) بألف بعد الباء وبياءين بعدها ، فقيل : إن الياء الواحدة زائدة ، ولا وجه لزيادتها هنا ، والصواب عندي - والله أعلم - أن الألف هي الزائدة كما زيدت في مائة ومائتين ، والياء بعدها هي صورة الهمزة كتبت على مراد الوصل وتنزيلا للمبتدأة منزلة المتوسطة كغيرها ، وأما ( باية ، وباياتنا ) فرسم في بعض المصاحف بألف بعد الياء وياءين بعدها ، فذهب جماعة إلى زيادة الياء الواحدة ، وقال السخاوي : وقد رأيته في المصاحف العراقية ( بايية ، وباييتنا ) بياءين بعد الألف ، ولم أر فيها غير ذلك . ثم رأيته في المصحف الشامي كذلك بياءين ، قال : إنما كتبت ذلك على الإمالة ، فصورت الألف الممالة ياء ، وحذفت الألف التي بعد الياء الثانية من ( بآية ، وبآياتنا ) كما حذفت من ( آيات ) انتهى . وقوله : حذفت الألف التي بعد الياء الثانية من ( بآية ) فيه نظر ; لأنه ليس بعد الياء في ( بآية ) ألف ، إنما الألف التي بعد الياء في ( بآياتنا ) ، ولو قال : الألف التي بعد الهمزة في ( بآية ) والألف التي بعد الياء في ( بآياتنا ) لكان ظاهرا . ولعله أراد ذلك فسبق قلمه ، أو لعله إنما رأى بـ " آية " الجمع مثل ( بآياتنا ) ، وعليه يصح كلامه ، ولكن سقط من الناسخ سنة ، والله أعلم .

( فهذا ) ما علمناه خرج من رسم الهمز عن القياس المطرد ، وأكثره على قياس مشهور ، وغالبه لمعنى مقصود ، وإن لم يرد ظاهره فلا بد له من وجه مستقيم يعلمه من قدر للسلف قدرهم وعرف لهم حقهم . وقد كان بعض الناس يقول في بعض ما خرج عما عرفه من القياس : هو عندنا مما قال فيه عثمان - رضي الله عنه - : أرى في المصاحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها . وقال الحافظ أبو عمرو الداني : ولا يجوز عندنا أن يرى عثمان - رضي الله عنه - شيئا في المصحف يخالف رسم الكتابة مما لا وجه له فيها فيقره على حاله ويقول : إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، ولو جاز ذلك لم يكن للكتابة معنى ولا فائدة ، بل كانت تكون وبالا لاشتغال [ ص: 459 ] القلوب بها ، ثم قال : وعلة هذه الحروف وغيرها من الحروف المرسومة في المصحف على خلاف ما جرى به رسم الكتاب من الهجاء - الانتقال من وجه معروف مستفيض إلى وجه آخر مثله في الجواز والاستعمال ، وإن كان المنتقل عنه أكثر استعمالا . انتهى . والأثر فقد رواه الحافظ أبو بكر بن أبي داود بألفاظ مضطربة مختلفة وكلها منقطعة لا يصح شيء منها ، وكيف يصح أن يكون عثمان - رضي الله عنه - يقول ذلك في مصحف جعل للناس إماما يقتدى به ، ثم يتركه لتقيمه العرب بألسنتها ويكون ذلك بإجماع من الصحابة حتى قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : لو وليت من المصاحف ما ولي عثمان لفعلت كما فعل . وأيضا فإن عثمان - رضي الله عنه - لم يأمر بكتابة مصحف واحد ، إنما كتب بأمره عدة مصاحف ، ووجه كلا منها إلى مصر من أمصار المسلمين ، فماذا يقول أصحاب هذا القول فيها ؟ أيقولون : إنه رأى اللحن في جميعها متفقا عليه فتركه لتقيمه العرب بألسنتها أم رآه في بعضها ؟ فإن قالوا في بعض دون بعض ، فقد اعترفوا بصحة البعض ولم يذكر أحد منهم ولا من غيرهم أن اللحن كان في مصحف دون مصحف ، ولم تأت المصاحف مختلفة إلا فيما هو من وجوه القراءات وليس ذلك بلحن ، وإن قالوا : رآه في جميعها لم يصح أيضا ، فإنه يكون مناقضا لقصده في نصب إمام يقتدى به على هذه الصورة ، وأيضا فإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم سادات الأمة وعلماؤها ، فكيف يقيمه غيرهم .

وإنما قصدنا استيعاب ما رسم في ذلك مما يتعلق بالهمز لأنا لما أتينا على تحقيقه على مذاهب أهل العربية ، وكان منه ما صح نقلا وما لا يصح تعين أن تأتي على رسم الهمز لنذكر ما يصح أيضا مما لا يصح . قال الذين أثبتوا الوقف بالتخفيف الرسمي : اختلفوا في كيفيته اختلافا شديدا ، فمنهم من خصه بما وافق التخفيف القياسي ولو بوجه كما ذهب إليه محمد بن واصل وأبو الفتح فارس بن أحمد ، وصاحبه أبو عمرو الداني ، وابن شريح ، ومكي والشاطبي ، وغيرهم . فعلى قول هؤلاء [ ص: 460 ] إذا كان في التخفيف القياسي وجه راجح ، وهو مخالف ظاهر الرسم ، وكان الوجه الموافق ظاهره مرجوحا كان هذا الموافق الرسم هو المختار ، وإن كان مرجوحا باعتبار التخفيف القياسي فقد يكون ذلك بالواو المحضة نحو ( يعبوا ، والبلوا ، وهزوا ، و كفوا ) مما كتب بالواو . وقد يكون بالياء المحضة نحو ( من نباي المرسلين ، ومن أناي الليل ) مما كتب بالياء ، وقد يكون بالألف نحو ( النشاة ) مما كتب بألف . وقد يكون بين بين نحو ما مثلنا به عند من وقف عليه بالروم الموافق للمصحف كما سيأتي ، ونحو ( سنقريك ، وسيية ) ، ونحو ( هؤلاء و أينكم ) عند جمهورهم ، ونحو ( يابنوم ، ويوميذ ) ، ونحو ( السواى ، ومويلا ) على رأي . وقد يكون بالحذف نحو : ( يستهزون و المنشيون ، وخاسيين و متكيين و دعاء ونداء و ملجأ ) وقد يكون بالنقل نحو ( أفيدة ، ومسولا ، والظمان ) وقد يكون بالنقل والإدغام نحو ( شيا ، وسوا ) وقد يكون بالإدغام نحو ( رءيا ، وتؤي ) ، ونحو ( روياك ، والرويا ) عند بعضهم . وهذا هو الرسم القوي ، وقد يقال له : الصحيح ، وقد يقال : المختار . قال أبو عبد الله بن شريح في كافيه : الاختيار عند القراء الوقف لحمزة على المهموز بتسهيل لا يخالف المصحف . وقال الحافظ أبو عمرو الداني في جامعه : وقد اختلف علماؤنا في كيفية تسهيل ما جاء من الهمز المتطرف مرسوما في المصحف على نحو حركته ، كقوله : ( فقال الملؤا الذين كفروا ) وهو الحرف الأول من سورة المؤمنين ، وكذلك الثلاثة الأحرف من النمل . وكذلك ( تفتوا ، ونشوا ) ، وما أشبهه مما صورت الهمزة فيه واوا على حركتها ، أو على مراد الوصل ، وكذلك : ( من نباي المرسلين ) وشبهه مما رسمت فيه ياء على ذلك أيضا ، فقال بعضهم : تسهيل الهمزة في جميع ذلك على حركة ما قبلها فتبدل ألفا ساكنة حملا على سائر نظائره وإن اختلفت صورتها فيه ؛ إذ ذاك هو القياس قال : وكان هذا مذهب شيخنا أبي الحسن - رحمه الله . وقال آخرون : تسهل الهمزة في ذلك بأن تبدل بالحرف الذي منه حركتها موافقة على رسمها ، تبدل واوا ساكنة في قوله : ( الملوا ) وبابه ، [ ص: 461 ] وتبدل ياء ساكنة في قوله : ( من نباي المرسلين ) ونحوه . قال : وهذا كان مذهب شيخنا أبي الفتح - رحمه الله - وهو اختياري أنا ، وإن كان المذهب الأول هو القياس فإن هذا أولى من جهتين : أحدهما أن أبا هشام وخلفا رويا ، عن حمزة نصا أنه كان يتبع في الوقف على الهمزة خط المصحف ، فدل على أن وقفه على ذلك كان بالواو وبالياء على حال رسمه دون الألف لمخالفتهما إياه ، والجهة الثانية أن خلفا قد حكى ذلك عن حمزة منصوصا ، ثم حكى ذلك ثم قال : وهذه الكلم في المصاحف مرسومة بالياء والواو . ومع هاتين الجهتين فإن إبدال الهمزة بالحرف الذي منه حركتها دون حركة ما قبلها في الوقف خاصة في نحو ذلك لغة معروفة حكاها سيبويه وغيره من النحويين ، قال سيبويه : يقولون في الوقف : هذا الكلو ، فيبدلون من الهمزة واوا ، و : مررت بالكلي ، فيبدلون منها ياء ، و : رأيت الكلا ، فيبدلون منها ألفا حرصا على البيان . قال - يعني سيبويه - : وهم الذين يحققون في الوصل . قال الداني : فواجب استعمال هذه اللغة في مذهب هشام وحمزة في الكلم المتقدمة ؛ لأنهما من أهل التحقيق في الوصل كالعرب الذين جاء عنهم ذلك . انتهى . وقال أيضا : وقد اختلف أهل الأداء في إدغام الحرف المبدل من الهمزة وفي إظهاره في قوله : ( وتؤوي إليك ) و ( التي تؤويه ) ، وفي قوله : ( روحا ) فمنهم من رأى إدغامه موافقة للخط ، ومنهم من رأى إظهاره لكون البدل عارضا ، فالهمزة في التقدير والنية ، وإدغامها ممتنع ، قال : والمذهبان في ذلك صحيحان ، والإدغام أولى ; لأنه قد جاء منصوصا عن حمزة في قوله : ( روحا ) لموافقة رسم المصحف الذي جاء عنه اتباعه عند الوقف على الهمز ، ومنهم من عمم في التخفيف الرسمي فأبدل الهمزة بما صورت به وحذفها فيما حذفت فيه ، فيبدلها واوا خالصة في نحو ( روف ) ( أبناوكم ) و ( توزهم ) ، و ( شركاوكم ) ، و ( يذروكم ) ، و ( نساوكم ) ، و ( أحباوه ) ، و ( هولاء ) ويبدلها ياء خالصة في نحو ( تايبات ) ( سايحات ) و ( نسايكم ) و ( أبنايكم ) و ( خايفين ) و ( أوليك ) و ( جاير ) و ( مويلا ) و ( لين ) ويبدلها ألفا خالصة في نحو ( سال ) و ( امراته ) و ( سالهم ) و ( بداكم ) [ ص: 462 ] و ( اخاه ) وحذفها في نحو ( وما كانوا أولياه إن أولياوه ، إلى أوليايهم ) ، ويقول في ( فاداراتم : فادارتم ) ، وفي ( امتلأت : امتلت ) ، وفي ( اشمأزت : اشمازت ، واشمزت ) ، وفي ( أأنذرتهم : أنذرتهم ) ، وفي ( الموءودة : المودة ) على وزن الموزة ( ولا يبالون ) ورد ذلك على قياس أم لا ، صح ذلك في العربية أم لم يصح ، اختلت الكلمة أم لم تختل ، فسد المعنى أم لم يفسد ، وبالغ بعض المتأخرين من شراح قصيدة الشاطبي في ذلك حتى أتى بما لا يحل ولا يسوغ . فأجاز في نحو ( رأيت ، وسألت : رايت وسالت ) فجمع بين ثلاث سواكن ، ولا يسمع هذا إلا من اللسان الفارسي ، وأجاز في نحو ( يجأرون : يجرون ) ( ويسألون : يسلون ) فأفسد المعنى وغير اللفظ ، وفي برآء - بروا فغير المعنى وأفسد اللفظ ، وأتى بما لا يسوغ ، ورأيت فيما ألفه ابن بصخان في وقف حمزة أن قال : وما رسم منه بالألف وقف عليه بها نحو ( وأخاه ، بأنهم ) ، وكنت أظن أنه إنما قال : ( فآتهم ) على ما فيه حتى رأيته بخطه ( بانهم ) فعلمت أنه يريد أن يقال في الوقف ( بانهم ) فيفتح الباء التي قبل الهمزة ، إذ لا يمكن أن ينطق بالألف بعدها إلا بفتحها ، ثم يمد على الألف من أجل التقاء الساكنين . وهذا كله لا يجوز ولا يصح نقله ولا تثبت روايته عن حمزة ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عمن نقل عنهم ، ويقال له : الرسمي . وقد يقال له : الشاذ ، وقد يقال له : المتروك ، على أن بعضه أشد نكرا من بعض . فأما إبدال الهمزة ياء في نحو ( خايفين ، وجاير ، وأوليك ) ، وواوا في نحو ( ابناوكم ، وأحباوه ) فإني تتبعته من كتب القراءات ونصوص الأئمة ، ومن يعتبر قولهم فلم أر أحدا ذكره ولا نص عليه ولا صرح به ، ولا أفهمه كلامه ، ولا دلت عليه إشارته سوى أبي بكر بن مهران ، فإنه ذكر في كتابه في وقف حمزة وجها في نحو ( تائبات ) بإبدال الياء ، وفي نحو ( رووف ) بإبدال الواو . ورأيت أبا علي الأهوازي في كتابه " الاتضاح " حكى هذا عن شيخه أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري ، وقال : ولم أر أحدا ذكره ولا حكاه من جميع من لقيت غيره ( قلت ) : ثم إني راجعت [ ص: 463 ] كتاب الطبري ، وهو " الاستبصار " فلم أره حكى في جميع ذلك سوى بين بين لا غير ، والقصد أن إبدال الياء والواو محضتين في ذلك ، هو مما لم تجزه العربية ، بل نص أئمتها على أنه من اللحن الذي لم يأت في لغة العرب ، وإن تكلمت به النبط ، وإنما الجائز من ذلك هو بين بين لا غير . وهو الموافق لاتباع الرسم أيضا ، وأما غير ذلك فمنه ما ورد على ضعف ، ومنه ما لم يرد بوجه ، وكله غير جائز من القراءة من أجل عدم اجتماع الأركان الثلاثة فيه . فهو من الشاذ المتروك الذي لا يعمل به ولا يعتمد عليه ، والله أعلم .

وسيأتي النص في كل فرد فرد ليعلم الجائز من الممتنع والله الموفق . وذهب جمهور أهل الأداء إلى القول بالتخفيف القياسي حسبما وردت الرواية به دون العمل بالتخفيف الرسمي ، وهذا الذي لم يذكر ابن سوار وابن شيطا وأبو الحسن بن فارس وأبو العز القلانسي ، وأبو محمد سبط الخياط وأبو الكرم الشهرزوري ، والحافظ أبو العلاء ، وسائر العراقيين ، وأبو طاهر بن خلف ، وشيخه أبو القاسم الطرسوسي وأبو علي المالكي وأبو الحسن بن غلبون وأبو القاسم بن الفحام وأبو العباس المهدوي ، وأبو عبد الله بن سفيان ، وغيرهم من الأئمة سواه ، ولا عدلوا إلى غيره ، بل ضعف أبو الحسن بن غلبون القول به ، ورد على الآخذين به ، ورأى أن ما خالف جادة القياس لا يجوز اتباعه ولا الجنوح إليه إلا برواية صحيحة ، وأنها في ذلك معدومة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية