صفحة جزء
وقد خص الله تعالى هذه الأمة في كتابهم هذا المنزل على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بما لم يكن لأمة من الأمم في كتبها المنزلة ، فإنه تعالى تكفل بحفظه دون سائر الكتب ، ولم يكل حفظه إلينا ، قال - تعالى - : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وذلك إعظام لأعظم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله تعالى تحدى بسورة منه أفصح العرب لسانا وأعظمهم عنادا وعتوا وإنكارا فلم [ ص: 5 ] يقدروا على أن يأتوا بآية مثله ، ثم لم يزل يتلى آناء الليل والنهار من نيف وثمانمائة سنة مع كثرة الملحدين وأعداء الدين ، ولم يستطع أحد منهم معارضة شيء منه ، وأي دلالة أعظم على صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم - من هذا ؟ وأيضا فإن علماء هذه الأمة لم تزل من الصدر الأول وإلى آخر وقت يستنبطون منه من الأدلة والحجج والبراهين والحكم وغيرها ما لم يطلع عليه متقدم ولا ينحصر لمتأخر ، بل هو البحر العظيم الذي لا قرار له ينتهي إليه ، ولا غاية لآخره يوقف عليه ، ومن ثم لم تحتج هذه الأمة إلى نبي بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - كما كانت الأمم قبل ذلك لم يخل زمان من أزمنتهم عن أنبياء يحكمون أحكام كتابهم ويهدونهم إلى ما ينفعهم في عاجلهم ومآبهم ، قال - تعالى - : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله فوكل حفظ التوراة إليهم ; فلهذا دخلها بعد أنبيائهم التحريف والتبديل .

ولما تكفل تعالى بحفظه خص به من شاء من بريته ، وأورثه من اصطفاه من خليقته ، قال - تعالى - : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وقال - صلى الله عليه وسلم - : إن لله أهلين من الناس ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصته رواه ابن ماجه وأحمد والدارمي وغيرهم من حديث أنس بإسناد رجاله ثقات .

وقد أخبرتنا به عاليا أم محمد ست العرب ابنة محمد بن علي بن أحمد بن عبد الواحد الصالحية مشافهة ، أنا جدي قراءة عليه وأنا حاضرة ، أنا أبو المكارم أحمد بن محمد اللبان في كتابه من أصبهان ، أنا الحسن بن أحمد الحداد سماعا ، أنا أبو نعيم الحافظ ، أنا عبد الله بن جعفر ، أنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا عبد الرحمن بن بديل العقيلي عن أبيه عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن لله أهلين من الناس ، قيل يا رسول الله من هم ؟ قال : [ ص: 6 ] أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ، وكذلك رواه عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الرحمن بن بديل .

ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب ، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن ربي قال لي : قم في قريش فأنذرهم فقلت له : رب إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة ، فقال : مبتليك ومبتلي بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان ، فابعث جندا أبعث مثلهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق ينفق عليك . فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرءوه في كل حال كما جاء في صفة أمته : " أناجيلهم في صدورهم " ، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه لا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا لا عن ظهر قلب ، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - حرفا حرفا ، لم يهملوا منه حركة ولا سكونا ولا إثباتا ولا حذفا ، ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم ، وكان منهم من حفظه كله ، ومنهم من حفظ أكثره ، ومنهم من حفظ بعضه ، كل ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في أول كتابه في القراءات : من نقل عنهم شيء من وجوه القراءة من الصحابة وغيرهم ، فذكر من الصحابة أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليا ، وطلحة ، وسعدا ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالما ، وأبا هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعمرو بن العاص ، وابنه عبد الله ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وعبد الله بن السائب ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وهؤلاء كلهم من المهاجرين ، وذكر من الأنصار أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وأبا الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وأبا زيد ، ومجمع بن جارية ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية