صفحة جزء
18235 باب المهادنة على النظر للمسلمين

( أخبرنا ) أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي ، ثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، ثنا عبد الرزاق ، عن معمر قال الزهري : أخبرني عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، يصدق حديث كل واحد منهما صاحبه ، قالا : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهدي ، وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بوادي الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه الخزاعي ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابش . قال أحمد بن حنبل : وقال يحيى بن سعيد ، عن ابن المبارك : قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وإنهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " أشيروا علي ، أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله ؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - الله ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ نقاتل أحدا ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذا " . قال الزهري : وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم . قال الزهري في حديث المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين " . فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بغبرة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، خلأت القصواء . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : [ ص: 219 ] " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " . ثم قال : " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " . ثم زجرها ، فوثبت به قال : فعدل عنها حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبثه الناس أن نزحوه ، فشكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش ، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه . قال : فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه ، وكانوا عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ( قال أحمد : حدثناه يحيى بن سعيد ، عن ابن المبارك " ، وقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ) نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " . قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم نعرضه عليكم . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا في أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . يقول : قال : سمعته يقول كذا وكذا . . فحدثهم بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : أي قوم ، ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى . قال : أولست بالولد ؟ قالوا : بلى . قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما جمحوا علي جئتكم بأهلي ، وولدي ، ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته . فقالوا : ائته . فأتاه ، فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له نحوا من قوله لبديل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوها ، وأرى أوشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك . فقال له أبو بكر - رضي الله عنه : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ فقال : من ذا ؟ فقال أبو بكر قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنعل السيف وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع عروة يده فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . قال : أي غدر ، أولست أسعى في غدرتك ، وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء وأسلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء " . ثم إن عروة جعل يرمق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه قال : فوالله ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له . فرجع إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر ، وكسرى ، والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه ، وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة [ ص: 220 ] رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته قالوا : ائته . فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " . فبعثت له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فلم أر أن يصدوا عن البيت ، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز وهو رجل فاجر " . فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا هو يكلمه - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء سهيل بن عمرو - قال معمر : فأخبرني أيوب ، عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " قد سهل لكم من أمركم " . قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات أكتب بيننا وبينكم كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، كما كنت تكتب فقال المسلمون : لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم " . ثم قال : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " . فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " . قال الزهري وذلك لقوله : " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " . فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل . فكتب فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا . فقال المسلمون : سبحان الله ! ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ ! فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف ، وقال يحيى عن ابن المبارك : يرصف في قيوده ، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين . فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نقض الكتاب بعد " . قال : فوالله إذا لا نصالحك على شيء أبدا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " فأجره لي " . قال : ما أنا بمجيره . قال : " بلى فافعل " . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : بلى قد أجرناه لك . فقال أبو جندل : أي معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما قد أتيت ، وكان قد عذب عذابا شديدا في الله - عز وجل - فقال عمر - رضي الله عنه : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ألست نبي الله ؟ قال : " بلى " . قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " . قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : " إني رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري " . قلت : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : " بلى . فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " . قلت : لا . قال : " فإنك آتيه ومطوف به " . قال : فأتيت أبا بكر - رضي الله عنه - فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله ، ولن يعصي ربه ، وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق . قلت : أوليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به ؟ قال : بلى . أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنك آتيه فتطوف به . قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا . قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " قوموا فانحروا ، ثم احلقوا " . قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك . فقام ، فخرج ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، ونحر هديه ، ودعا حالقه يعني فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله - عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ ( بعصم الكوافر ) قال : فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، [ ص: 221 ] فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير ، رجل من قريش ، وهو مسلم - وقال يحيى عن ابن المبارك : فقدم عليه أبو بصير بن أسيد الثقفي مسلما مهاجرا ، فاستأجر الأخنس بن شريق رجلا كافرا من بني عامر بن لؤي ، ومولى معه ، وكتب معهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله الوفاء . قال : فأرسلوا في طلبه رجلين ، فقالوا : العهد الذي جعلت لنا فيه . فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى بلغا به ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلوا من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك يا فلان هذا جيدا ، فاستله الآخر فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت . قال أبو بصير : أرني أنظر إليه . فأمكنه منه فضربه به حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لقد رأى هذا ذعرا " . فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول . فجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله ، قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ، ثم أنجاني الله منهم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " ويل أمه مسعر حرب ، لو كان له أحد " . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر قال : وينفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة قال : فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فأنزل الله - عز وجل : ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ) حتى بلغ ( حمية الجاهلية ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت . رواه البخاري في الصحيح ، عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الرزاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية