صفحة جزء
باب التكبير على الجنائز

حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات
5 - باب التكبير على الجنائز

اختلف السلف في عدده ، ففي مسلم عن زيد بن أسلم : يكبر خمسا ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وعن ابن مسعود أنه صلى على جنازة فكبر خمسا . وكان علي يكبر على أهل بدر ستا ، وعلى الصحابة خمسا ، وعلى سائر الناس أربعا . وعن ابن عباس وأنس ثلاثا رواها ابن المنذر . وعن أنس أيضا أربعا ، وجمع بأنه كان يرى الثلاث مجزئة والأربع أكمل منها ، أو من أطلق عنه الثلاث لم يذكر الأولى ; لأنها افتتاح الصلاة ، فقد جاء عنه التكبير ثلاثا فقيل له أربع ، قال : أجل غير أن واحدة هي افتتاح الصلاة . وللبيهقي عن أبي وائل : كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا وخمسا وستا وأربعا فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة . قال ابن عبد البر : انعقد الإجماع على الأربع وعليه فقهاء الأمصار ، وشذ ابن أبي ليلى فقال خمسا .

530 532 - ( مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي ) بفتح النون على المشهور ، وقيل بكسر وخفة الجيم ، وأخطأ من شددها ، وتشديد آخره ، وحكى المطرزي التخفيف ورجحه الصغاني ، وهو لقب لكل من ملك الحبشة ، واسمه أصحمة بن أبحر ، ملك الحبشة ، أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر إليه ، وكان ردءا للمسلمين نافعا ، وأصحمة بوزن أربعة وحاؤه مهملة وقيل معجمة ، وقيل بموحدة بدل الميم ، وقيل : صحمة بلا ألف ، وقيل كذلك لكن بتقديم الميم على الصاد ، وقيل بميم أوله بدل الألف ، فتحصل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ لم أرها مجموعة ، ومعناه بالعربية عطية قاله في الإصابة . ( للناس ) أي أخبرهم بموته ( في اليوم الذي مات فيه ) في رجب سنة تسع ، قاله ابن جرير وجماعة ، وقيل كان قبل الفتح ، ففيه جواز الإعلام بالجنازة ليجتمع الناس للصلاة ، والنعي المنهي عنه هو الذي يكون معه صياح ، خلافا لمن تأوله على الإعلام بالموت للاجتماع لجنازته ، وفي حديث : " من صلى على جنازة كان له من الأجر كذا " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة فيشفعون [ ص: 82 ] له إلا شفعوا فيه " دليل على الإباحة ، وشهود الجنائز خير ، والدعاء إلى الخير خير إجماعا ، قاله ابن عبد البر .

وقال ابن العربي : يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات : الأولى : إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح ، فهذا سنة . الثانية : دعوة الجفلى للمفاخرة ، فهذا يكره . الثالثة : الإعلام بالنياحة ونحوها ، فهذا يحرم .

وفي البخاري عن عقيل وصالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة : نعي لنا النجاشي يوم مات فقال : " استغفروا لأخيكم " ( وخرج بهم إلى المصلى ) مكان ببطحان ، فقوله في رواية ابن ماجه من طريق معمر عن ابن شهاب : فخرج وأصحابه إلى البقيع أي بقيع بطحان ، أو المراد بالمصلى موضع معد للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين ، والأول أظهر قاله الحافظ . وفي الصحيحين عن جابر : قال صلى الله عليه وسلم : " قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه " . وللبخاري : " فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة " . ولمسلم : " مات عبد لله صالح أصحمة " . وفي الإصابة جاء من طريق زمعة بن صالح ، عن الزهري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : " أصبحنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل فقال : إن أخاك أصحمة النجاشي قد توفي فصلوا عليه ، فوثب صلى الله عليه وسلم ووثبنا معه حتى جاء المصلى " ( فصف بهم ) لازم والباء بمعنى مع أي صف معهم ، أو متعد والباء زائدة للتوكيد أي صفهم ; لأن الظاهر أن الإمام متقدم فلا يوصف بأنه صاف معهم إلا على المعنى الآخر ولم يذكر كم صفهم . وفي النسائي عن جابر : " كنت في الصف الثاني يوم صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي " ، وفيه أن للصفوف على الجنازة تأثيرا ولو كثر الجمع ; لأن الظاهر أنه خرج معه صلى الله عليه وسلم عدد كثير ، والمصلى فضاء لا يضيق بهم لو صفوا فيه صفا واحدا ومع ذلك صفهم ، وهذا ما فهمه مالك بن عميرة الصحابي ، فكان صف من يحضر صلاة الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلوا أو كثروا ، ويبقى النظر إذا تعددت الصفوف والعدد قليل ، أو كان الصف واحدا والعدد كثير أيهما أفضل ، قاله الحافظ .

( وكبر أربع تكبيرات ) ففيه أن تكبير صلاة الجنازة أربع وهو المقصود من الحديث ، واعترض بأن هذا صلاة على غائب لا على الجنازة ، وأجيب بأن ذلك يفهم بطريق الأولى . وروى ابن أبي داود عن أبي هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر أربعا " وقال : لم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعا إلا في هذا ، قال : وإنما ثبت أنه كبر على النجاشي أربعا وعلى قبر أربعا ، وأما على الجنازة هكذا فلا إلا هذا الحديث . والظاهر أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه وإشاعة لموته على الإسلام ; لأن بعض الناس لم يعلم أنه أسلم ، وروى ابن أبي حاتم والدارقطني عن أنس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه : صلى على علج من الحبشة ، فنزلت : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ) [ ص: 83 ] ( سورة آل عمران : الآية 199 ) إلى آخر السورة " .

وله شاهد من حديث وحشي في الطبراني الكبير ، وآخر في الأوسط عن أبي سعيد ، وفيه أن قائل ذلك كان منافقا ، وفيه الصلاة على الميت الغائب عن البلد ، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر السلف . وقال الحنفية والمالكية : لا تشرع ، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء ، وإنهم قالوا : ذلك خصوصية له صلى الله عليه وسلم ، قال : ودلائل الخصوصية واضحة لا يجوز أن يشركه فيها غيره ; لأنه ، والله أعلم ، أحضر روحه بين يديه ، أو رفعت له جنازته حتى شاهدها ، كما رفع له بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته ، وعبر غيره عن ذلك بأنه كشف له حتى رآه . فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون ، ولا خلاف في جوازها . وقول ابن دقيق العيد : ( يحتاج هذا لنقل ) تعقب بأن الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع ، ويؤيده ما ذكره الواحدي بلا إسناد عن ابن عباس قال : " كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه " . ولابن حبان عن عمران بن حصين : " فقاموا وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه " . ولأبي عوانة عن عمران : " فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا " . وأجيب أيضا بأن ذلك خاص بالنجاشي لإشاعة أنه مات مسلما ، أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته ; إذ لم يأت في حديث صحيح أنه صلى على ميت غائب غيره .

وأما حديث صلاته على معاوية بن معاوية الليثي فجاء من طرق لا تخلو من مقال ، وعلى تسليم صلاحيته للحجية بالنظر إلى مجموع طرقه دفع بما ورد أنه صلى الله عليه وسلم رفعت له الحجب حتى شاهد جنازته . وقول الكرماني : قولهم رفع الحجاب عن النجاشي ممنوع ، وإن سلم فكان غائبا عن الصحابة رد بما تقدم أنه يصلى كالميت الذي يصلي عليه الإمام وهو يراه دون المأموم فإنه جائز اتفاقا . وأما ابن العربي إمام المالكية فتحامل عليهم فقال قولهم إنما ذلك لمحمد ، قلنا : وما عمل به محمد تعمل به أمته ، قالوا : طويت الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه ، قلنا : إن ربنا عليه لقادر ونبينا لأهل لذلك ، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ، ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ، ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى تلاف ما ليس له تلاف ، وقد علمت جوابه بأن الاحتمال يكفي في مثل هذا من جهة المانع خصوصا ، وقد جاء ما يؤيده بإسنادين صحيحين من حديث عمران فما حدثنا إلا بالثابتات ، وقول بعضهم : ولو فتح باب الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع مع أنه لو كان شيء مما ذكره لتوفرت الدواعي على نقله ممنوع ، فإنما جوزنا الخصوصية ; لأنها قضية عين يتطرق إليها الاحتمال إذ لم يثبت أنه صلى على غائب غيره ، ومثل هذا لا يلزم توفر الدواعي عليه . وأجيب أيضا بأنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد ، فتعينت الصلاة عليه لذلك فإنه لم يصل على أحد مات غائبا من [ ص: 84 ] أصحابه ، وبهذا جزم أبو داود واستحسنه الروياني ، قال الحافظ : وهو محتمل إلا أني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد اهـ . وهو مشترك الإلزام فلم يرو في شيء من الأخبار أنه صلى عليه أحد في بلده كما جزم به أبو داود ومحله في اتساع الحفظ معلوم ، والحديث أخرجه البخاري في موضعين هنا عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ، وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما عن ابن شهاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية