صفحة جزء
باب النهي عن البكاء على الميت

حدثني يحيى عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عتيك بن الحارث وهو جد عبد الله بن عبد الله بن جابر أبو أمه أنه أخبره أن جابر بن عتيك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب عليه فصاح به فلم يجبه فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل جابر يسكتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا يا رسول الله وما الوجوب قال إذا مات فقالت ابنته والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا فإنك كنت قد قضيت جهازك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته وما تعدون الشهادة قالوا القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد
12 - باب النهي عن البكاء على الميت

552 554 - ( مالك ، عن عبد الله بن عبد الله ) بفتح العين فيهما ، وهذا مما توافق فيه اسم الأب وابنه ( ابن جابر ) ويقال جبر ( ابن عتيك ) بفتح المهملة وكسر الفوقية وسكون التحتية وكاف ، الأنصاري المدني ( عن عتيك بن الحارث ) بن عتيك الأنصاري المدني ( وهو جد ) الراوي عنه ( عبد الله بن عبد الله بن جابر ، أبو أمه ، أنه أخبره أن جابر بن عتيك ) بن قيس الأنصاري ، صحابي جليل ، اختلف في شهوده بدرا ، مات سنة إحدى وستين وهو ابن إحدى وتسعين ( أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت ) بن قيس الأنصاري الأوسي ، ويقال إنه ظفري مات في العهد النبوي . وقال الواقدي وابن الكلبي : هو عبد الله بن عبد الله ، ولأبيه صحبة ، قال الكلبي : كفنه صلى الله عليه وسلم في قميصه ، وعاش الأب إلى خلافة عمر ، وكانا جميعا شهدا أحدا ، وكذا قال الطبري وابن السكن وآخرون ، وقال بعضهم : إنه أخو خزيمة بن ثابت ، قاله في الإصابة ( فوجده قد غلب عليه ) أي غلبه الألم حتى منعه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ( فصاح به ) أي ناداه ( فلم يجبه فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي قال : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) تصبيرا لنفسه وإشعارا لها أن الكل لله وراجع إليه ( وقال : غلبنا عليك ) قال الباجي : يحتمل أنه أراد التصريح بمعنى استرجاعه وتأسفه ( يا أبا الربيع ) كنيته رضي الله [ ص: 103 ] عنه وفيه تكنية الرئيس لمن دونه ولم يستكبر عن ذلك من الخلفاء إلا من حرم التقوى ( فصاح النسوة وبكين ) وفيه إباحة البكاء على المريض بالصياح وغيره عند حضور وفاته ( فجعل جابر يسكتهن ) ; لأنه سمع النهي عن البكاء فحمله على عمومه ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهن ) يبكين حتى يموت ( فإذا وجب فلا تبكين باكية ) أي لا ترفع صوتها بالبكاء ، أما دمع العين وحزن القلب فالسنة ثابتة بإباحة ذلك في كل وقت ، وعليه جماعة العلماء بكى صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وعلى ابنة زينب ابنته ، وقال : هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، ومر بجنازة يبكى عليها فانتهرهن عمر فقال : دعهن فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب ، قاله أبو عمر .

( قالوا : يا رسول الله وما الوجوب ؟ ) الذي أردت بقولك فإذا وجب ( قال : إذا مات ) فلا تبكين باكية ، قال الباجي : أشار به ، والله أعلم ، إلى بكاء مخصوص ، وهو ما جرت به العادة من الصياح والدعاء بالويل والثبور .

وفي الحديث : " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم " وأشار إلى لسانه ( فقالت ابنته : والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا فإنك كنت قد قضيت ) أي أتممت ( جهازك ) بفتح الجيم وكسرها ، ما تحتاج إليه في سفرك للغزو والخطاب لأبيها ، قال في الفتح : الجهاز بفتح الجيم وتكسر ، ومنهم من أنكره ، وهو ما يحتاج إليه في السفر ، وقال في النور : بكسر الجيم أفصح من فتحها بل لحن من فتح ، والذي في الصحاح : وأما جهاز العروس والسفر فيفتح ويكسر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته ) أي على مقدار العمل الذي نواه كما نواه ، فالنية بمعنى المنوي ، ويحتمل أن له من الأجر بقدر ما يجب لنيته ، وهذا أظهر من جهة اللفظ ، والأول أظهر من جهة المعنى ; لأن القصد أن يخبر أن ما نواه لم يفته ، ولو لم يكن له من الأجر إلا بقدر النية لما كان لابنته في ذلك راحة ، قاله الباجي ، وقال ابن عبد البر فيه أن المتجهز للغزو إذا حيل بينه وبينه يكتب له أجر الغزو على قدر نيته ، والآثار بذلك متواترة صحاح ، منها قوله صلى الله عليه وسلم في تبوك : " إن بالمدينة قوما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم حبسهم العذر " ، انتهى .

وفي مسلم عن أنس مرفوعا : " من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه " أي أعطي ثوابها ولو لم يقتل ، وأصرح منه ما أخرجه الحاكم بلفظ : " من سأل القتل في سبيل الله صادقا ثم [ ص: 104 ] مات أعطاه الله أجر شهيد " وللنسائي من حديث معاذ مثله ، وللحاكم من حديث سهل بن حنيف مرفوعا : " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه " .

( وما تعدون الشهادة ؟ قالوا : القتل في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد ابن ماجه من حديث أبي هريرة ، ومن وجه آخر من حديث جابر بن عتيك نفسه : أن شهداء أمتي إذن لقليل ( الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله ) وتقدم في باب العتمة والصبح من حديث أبي هريرة : الشهداء خمسة ، فقيل نسي بعض رواتها باقي السبع . قال الحافظ : وهو بعيد لكن يقربه أن مسلما روى من حديث أبي هريرة شاهدا لحديث جابر بن عتيك هذا ، وزاد فيه ونقص ، فمن زيادته : " ومن مات في سبيل الله فهو شهيد " والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم علم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر ، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك ، وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة ، وتبلغ بطرق فيها ضعف أزيد من ذلك ( المطعون ) الميت بالطاعون ( شهيد ) وفي الحديث : " أن فناء أمتي بالطعن والطاعون ، قالت عائشة : أما الطعن فقد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط " ( والغرق ) بفتح الغين وكسر الراء ، الذي يموت غريقا في الماء ( شهيد ، وصاحب ذات الجنب ) مرض معروف ، وهو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع ، ويقال هو الشوصة ( شهيد ، والمبطون ) قال ابن عبد البر : قيل هو صاحب الإسهال ، وقيل المحسور ، وقال ابن الأثير : هو الذي يموت بمرض بطنه كالاستسقاء ونحوه . وفي كتاب الجنائز لأبي بكر المروزي عن شيخه شريح أنه صاحب القولنج ( شهيد ، والحرق ) بفتح فكسر ، الميت بحرق النار ( شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بجمع ) بضم الجيم وتفتح وتكسر وسكون الميم ، الميتة في النفاس وولدها لم تلده وقد تم خلقه ، وقيل هي التي تموت من الولادة سواء ألقت ولدها أم لا ، وقيل التي تموت عذراء ، والأول أشهر وأكثر كما قال ابن عبد البر والحافظ وزاد : وقيل الميتة بمزدلفة ، وهو خطأ ظاهر ، انتهى . وفي النهاية : الجمع بالضم بمعنى المجموع ، والمعنى أنها ماتت مع شيء مجموع منفصل عنها من حمل أو بكارة .

( شهيد ) قال النضر بن شميل : سمي بذلك لأنه حي فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة . وقال ابن الأنباري : لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة ، وقيل لشهوده عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة ، وقيل : لأنه يشهد له بالأمان من النار ، وقيل : لأن عليه [ ص: 105 ] شاهدا بكونه شهيدا ، وقيل : لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة ، وقيل : لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل ، وقيل : لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة ، وقيل : لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع لهم ، وقيل : لأن الله يشهد له بحسن نيته وإخلاصه ، وقيل : لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره ، وقيل : لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ودار الآخرة ، وقيل : لأن عليه علامة شاهدة أي حاضرة بأنه قد نجا .

وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله ، وبعضها يعم غيره ، وبعضها قد ينازع فيه ، وقد زاد على هذه الثمانية مسلم في حديث أبي هريرة : " الميت على فراشه في سبيل الله " وأحمد من حديث راشد بن حبيش ، والطبراني من حديث سلمان والسل ، وهو بكسر المهملة وشد اللام . وروى أصحاب السنن وصححه الترمذي عن سعيد بن زيد مرفوعا : " من قتل دون ماله فهو شهيد " وقال في الدين والدم والأهل مثل ذلك . وللنسائي عن سويد بن مقرن مرفوعا : " من قتل دون مظلمته فهو شهيد " ولأبي داود والطبراني والحاكم عن أبي مالك الأشعري مرفوعا : " من وقصه فرسه أو بعيره في سبيل الله ، أو لدغته هامة ، أو مات على أي حتف شاء الله فهو شهيد " .

ولابن ماجه عن ابن عباس ، والبيهقي عن أبي هريرة والدارقطني وصححه عن ابن عمر والصابوني في المائتين عن جابر كله مرفوعا : " موت الغريب شهادة " . وللطبراني من حديث ابن عباس : " أن اللديغ والشريق والذي يفترسه السبع والخار عن دابته شهيد " ، وفي أبي داود من حديث أم حرام : " المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد " ، وتقدم قريبا أحاديث في من طلب الشهادة بنية صادقة أنه يكتب شهيدا .

والطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح : " من تردى من رءوس الجبال شهيد " ، وفي البخاري من حديث عائشة : " ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد " ، فهذه سبع وعشرون خصلة زائدة على القتل في سبيل الله ، ذكر الحافظ أن طرقها جيدة ، وأنه وردت خصال أخرى في أحاديث لم أعرج عليها لضعفها ، انتهى .

وروى الديلمي من حديث أنس : " صاحب الحمى " وابن منده من حديث علي : " الميت في السجن وقد حبس ظلما " ، والديلمي من حديث ابن عباس . " الميت عشقا " ، والبزار من حديث أبي ذر وأبي هريرة : " الميت وهو طالب للعلم " ، قال الباجي وتبعه ابن التين : هذه ميتات فيها شدة الألم فتفضل الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن جعلها تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجورهم حتى يبلغهم بها مراتب الشهداء . قال الحافظ : والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء ، ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان عن جابر ، والدارمي وأحمد والطحاوي عن عبد الله بن حبشي ، وابن ماجه عن عمرو بن عنبسة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الجهاد أفضل ؟ [ ص: 106 ] قال : من عقر جواده وأهريق دمه " وروى الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له بإسناد حسن عن علي قال : " كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد " غير أن الشهادة تتفاضل وتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان : شهداء الدنيا والآخرة ، وهو من قتل في حرب الكفار مقبلا غير مدبر مخلصا ، وشهداء الآخرة وهم من ذكر بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا . ولأحمد والنسائي عن العرباض ، وأحمد عن قتيبة بن عبد مرفوعا : " يختصم الشهداء والمتوفون على فراشهم في الذين يتوفون زمن الطاعون فيقول : " انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم معهم ، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم " وإذا تقرر ذلك فإطلاق الشهيد على غير المقتول في سبيل الله مجاز ، فيحتج به من يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، والمانع يجيب بأنه من عموم المجاز ، وقد يطلق الشهيد على من قتل في حرب الكفار لكن لا يكون له ذلك في حكم الآخرة لعارض يمنعه كالانهزام وفساد النية ، انتهى . وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق مالك وصححه ابن حبان ، وقال النووي : وهو صحيح باتفاق وإن لم يخرجه الشيخان .

التالي السابق


الخدمات العلمية