صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصيام باب ما جاء في رؤية الهلال للصوم والفطر في رمضان

حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له
[ ص: 224 ] كتاب الصيام

بكسر الصاد والياء بدل من الواو ، وهما مصدران لصام ، وهو ربع الإيمان لحديث : " الصوم نصف الصبر " ، وحديث : " الصبر نصف الإيمان " ، وأتبعه الإمام للزكاة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج . فقال رجل : والحج وصيام رمضان ؟ فقال ابن عمر : لا ؛ صيام رمضان والحج هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه مسلم من رواية سعد بن عبيد ، عن ابن عمر .

وأفاد الخطيب أن اسم الرجل القائل لابن عمر يزيد بن بشر السكسكي ، وفيه إفادة أن رواية حنظلة ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر في البخاري بتقديم الحج مروية بالمعنى ، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجالس أو حضر ذلك ونسيه ، وتجويز أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين ونسي أحدهما عند رده على الرجل بعيد ، لأن تطرق النسيان إلى الراوي أولى من الصحابي ، كيف ! وفي مسلم من طريق حنظلة المذكورة بتقديم الصوم على الحج ، فدل على أنه رواه بالمعنى ، ويؤيده أنه عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة فيقال : إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه ، هذا بعيد كما في فتح الباري .

وشرع الصيام لفوائد ؛ أعظمها كسر النفس وقهر الشيطان ، فالشبع نهر في النفس يرده الشيطان ، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة .

ومنها : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره على ما منع منه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح ، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من منع ذلك على الإطلاق ، فيوجب ذلك شكر نعم الله عليه بالغنى ، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك ، وذكر بعض الصوفية أن آدم لما تاب من أكل الشجرة تأخر قبول توبته لما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوما فلما صفا جسده منها تيب عليه ، ففرض على ذريته صيام ثلاثين يوما ، قال الحافظ : وهذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يقبل قوله في ذلك ، وهيهات وجدان ذلك ، ا هـ .

وهو لغة الإمساك عن أي شيء قولا كقوله : إني نذرت للرحمن صوما ( سورة مريم : الآية 26 ) أي : إمساكا وسكوتا أو فعلا كقول النابغة :


خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما



أي : ممسكة عن الحركة ، وشرعا : إمساك عن المفطر على وجه مخصوص .

وقال الطيبي : إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين والاستمناء ، فهو وصف سلبي ، وإطلاق العمل عليه تجوز ، انتهى .

ويقع في بعض النسخ زيادة : والاعتكاف [ ص: 225 ] وليلة القدر ، مع أنه ترجم لهما بعد ذلك ، فإن صح عن الإمام ذلك هنا ، فلعله للإشارة إلى أن الصيام شرط في صحة الاعتكاف كما هو مذهبه رحمه الله ، وليلة القدر ؛ لكونها غالبا برمضان .

( بسم الله الرحمن الرحيم ) ابتدأ بها تبركا وتفننا ، فأخرها عن ترجمة كتاب الصيام وقدمها في الزكاة ، وكفى بالتفنن نكتة وفي نسخ تقديمها على الترجمة .

1 - باب ما جاء في رؤية الهلال للصائم والفطر في رمضان

الأكثر أن الهلال القمر في حالة خاصة ، قال الأزهري : يسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالا ، وفي ليلة ست وسبع وعشرين أيضا هلالا ، وما بين ذلك يسمى قمرا .

وقال الجوهري : الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك ، وقيل : الهلال هو الشهر بعينه ، وتعبير الإمام برمضان إيماء إلى جواز ذكره بدون شهر ، قال الباجي : وهو الصواب فقد جاء ذلك في أحاديث صحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء " الحديث .

وكذا قال عياض : أنه الصحيح ، ومنعه أصحاب مالك لحديث : " لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا شهر رمضان " أخرجه ابن عدي وضعفه ، وفرق ابن الباقلاني فقال : إن دلت قرينة على صرفه إلى الشهر كصمنا رمضان جاز ، وإلا امتنع كجاء ودخل ، ا هـ .

وبالفرق قال كثير من الشافعية ، قال النووي : والمذهبان فاسدان لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت فيه نهي ، ولا يصح قولهم : أنه اسم من أسماء الله ؛ لأنه جاء فيه أثر ضعيف ، وأسماء الله توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح ، ولو ثبت أنه اسم لم يلزم كراهة ، والصواب ما ذهب إليه المحققون أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبلا قرينة .

633 629 - ( مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ) أي : إذا لم يكمل شعبان ثلاثين يوما ، وظاهره إيجاب الصوم متى [ ص: 226 ] وجدت الرؤية ليلا أو نهارا لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل .

وفرق بعض العلماء بين ما قبل الزوال وما بعده ، وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقا ، وظاهره أيضا النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها .

قال الباجي : مقتضاه مع صوم آخر شعبان يريد على معنى التلقي لرمضان أو الاحتياط ، وأما نفلا فيجوز .

قال ابن عبد البر : عند مالك والجمهور ؛ واستحب ابن عباس وجماعة الفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو يومين أو أيام ، كما استحبوا الفصل بين صلاة الفريضة والنافلة بكلام أو مشي أو تقدم أو تأخر من المكان ، وصح مرفوعا : " إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا " ولم يأخذ به أئمة الفتوى ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صام شعبان كله ، قالت عائشة : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله " .

وقالت أم سلمة : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان " .

وقال عبد الله بن المبارك : جائز في كلام العرب أن يقال : صام الشهر كله إذا صام أكثره .

( ولا تفطروا ) من صومه ( حتى تروه ) أي : الهلال ، وليس المراد رؤية جميع الناس ؛ بحيث يحتاج كل فرد فرد إلى رؤيته ، بل المعتبر رؤية بعضهم ، وهو العدد الذي يثبت به الحقوق وهو عدلان ، ولا يثبت رمضان بعدل واحد خلافا لأبي حنيفة والشافعي لحديث ابن عباس في السنن : قال : " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني رأيت الهلال فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ، أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا " لكن أعله ابن عبد البر بأن أكثر الرواة يرسله عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون ابن عباس .

وروى أبو داود وابن حبان ، عن ابن عمر قال : " تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه " ، وهذا أشهر قولي الشافعي عند أصحابه وأصحهما ، لكن آخر قوليه أنه لا بد من عدلين ، قال في الأم : لا يجوز على هلال رمضان إلا شاهدان ، ولا يثبت شوال بواحد عند الجميع إلا أبا ثور ، ( فإن غم عليكم ) بضم الغين المعجمة وشد الميم ؛ أي : حال بينكم وبين الهلال غيم في صومكم أو فطركم ( فاقدروا له ) بهمزة وصل وضم الدال تأكيد لقوله : " لا تصوموا حتى تروا الهلال " إذ المقصود حاصل به ، وقد أورثت هذه الزيادة المؤكدة عند المخالف شبهة بحسب تفسيره لقوله : فاقدروا له ، فقال الأئمة الثلاثة والجمهور : معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما ، يقال : قدرت الشيء وأقدرته وقدرته بمعنى التقدير ؛ أي : انظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يوما كما جاء مفسرا في الحديث اللاحق ، ولذا أتى به الإمام للإشارة إلى أنه مفسر ، ولذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا ، وتارة يذكر هذا ، وقالت طائفة : معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب ، وبه قال أحمد وغيره ممن يجوز صوم ليلة الغيم عن رمضان .

وقال ابن سريج : معناه قدروه بحسب المنازل ، [ ص: 227 ] وكذا قاله ابن قتيبة من المحدثين ومطرف بن عبد الله من التابعين .

قال ابن عبد البر : لا يصح عن مطرف ، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا ، قال : ونقله ابن خويزمنداد عن الشافعي ، والمعروف عنه مثل الجمهور .

ونقل الباجي هذا التفسير عن الداودي وقال : لا يعلم أحد قاله إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين ، والإجماع حجة عليهم ، فإن فعل ذلك أحد رجع إلى الرؤية ولم يعتد بما صام على الحساب ، فإن اقتضى ذلك قضاء شيء من صومه قضاه .

وسبقه إلى ذلك ابن المنذر ؛ فقال : صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة ، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ، ولم يفصل بين حاسب وغيره ، فمن فرق بينهما كان محجوجا بالإجماع قبله .

ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله : " فاقدروا له " خطاب لمن خصه الله بهذا العلم .

وأن قوله ولتكملوا العدة ( سورة البقرة : الآية 185 ) خطاب للعامة .

قال ابن العربي : فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال ؛ يجب على قوم بحساب الشمس والقمر ، وعلى آخرين بحساب العدد ، وهذا بعيد عن النبلاء ، انتهى . بل هو تحكم محجوج بالإجماع .

وقال ابن الصلاح : معرفة منازل القمر هو معرفة سير الأهلة ، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته آحاد ، فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه مراقب النجوم ، وهذا هو الذي أراده ابن سريج ، وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه ، ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوبه بل بجوازه .

وقال المازري : احتج من قال معناه بحساب المنجمين بقوله تعالى : وبالنجم هم يهتدون ( سورة النحل : الآية 16 ) والآية عند الجمهور محمولة على الاهتداء في السير في البر والبحر ، قالوا : ولا يصح أن المراد حساب المنجمين ؛ لأن الناس لو كلفوا ذلك لشق عليهم ، لأنه لا يعرفه إلا أفراد ، والشرع إنما يكلف الناس بما يعرفه جماهيرهم ، وأيضا فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة ، ويصح أن يرى في إقليم دون آخر فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها مع كون الصائمين منهم لا يصومون على طريق مقطوع به ، ولا يلزم قوما ما ثبت عند غيرهم ، والشهر على مذهب الجمهور مقطوع به لقوله : " الشهر تسع وعشرون فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " فالتسع وعشرون مقطوع بها ، وإن غم كمل ثلاثين وهي غايته .

وقال النووي : عدم البناء على حساب المنجمين ؛ لأنه حدس وتخمين ، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت ، قال : وفيه دليل لمالك والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك ، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم ، وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة ، ومسلم عن يحيى كلاهما ، عن مالك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية