صفحة جزء
باب جامع الحج

حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بمنى والناس يسألونه فجاءه رجل فقال له يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انحر ولا حرج ثم جاءه آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج قال فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج
81 - باب جامع الحج

959 942 - ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ، وللنسائي من طريق يحيى القطان عن مالك : حدثني الزهري ( عن عيسى بن طلحة ) بن عبيد الله القرشي التيمي المدني أبي محمد ، ثقة فاضل ، مات سنة مائة ، وأبوه طلحة أحد العشرة .

وفي رواية ابن جريج عند مسلم وصالح بن كيسان عند البخاري ، كلاهما عن ابن شهاب قال : حدثني عيسى بن طلحة ( عن عبد الله بن عمرو ) بفتح العين ( ابن العاصي ) بالياء وحذفها ، والإثبات أصح ، وفي رواية ابن جريج : حدثني عبد الله ، وللبخاري عنه : أن عبد الله حدثه ، وكذا في رواية صالح أن [ ص: 587 ] عبد الله حدثه : ( أنه قال : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) على ناقته كما في رواية صالح عند البخاري ، ويونس عند مسلم بلفظ : على راحلته ، ومعمر عند أحمد والنسائي ، كلهم عن ابن شهاب ، فرواية يحيى القطان عن مالك : جلس في حجة الوداع ، فقام رجل محمول على أنه ركب ناقته ، وجلس عليها ( للناس بمنى ) زاد التنيسي والنيسابوري وغيرهما : في حجة الوداع ، وفي رواية : وقف عند الجمرة ، وأخرى : فخطب يوم النحر ، قال عياض : جمع بعضهم بأنه موقف واحد ، ومعنى خطب أي علم الناس لا أنها من خطب الحج المشروعة ، قال : ويحتمل أن ذلك في موطنين : أحدهما على راحلته عند الجمرة ، ولم يقل في هذا خطب .

والثاني : يوم النحر بعد صلاة الظهر ، وذلك في وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام فيها الناس ما بقي عليهم من مناسكهم ، وصوب النووي هذا الثاني .

قال الحافظ : فإن قيل : لا فرق بين الاحتمالين ، فإنه ليس في شيء من طريق حديث ابن عمرو وابن عباس بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار ، قلنا : نعم ، لم يقع التصريح بذلك ، لكن في رواية ابن عباس أن بعض السائلين قال : رميت بعدما أمسيت ، فدل على أن القصة كانت بعد الزوال لإطلاق المساء على ما بعده فكأن السائل علم أن السنة رمي الجمرة ضحى ، فلما أخرها إلى الزوال سأل عنه على أن حديث ابن عمرو مخرجه واحد ، لا يعرف إلا من طريق الزهري ، ولا خلاف فيه بين أصحابه غايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر ، واجتمع من مرويهم ، ومروي ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال ، وهو على راحلته يخطب عند الجمرة ، فإذا تقرر ذلك تعين أنها الخطبة المشروعة لتعلم بقية المناسك ، فليس قوله خطب مجازا عن مجرد التعليم بل هي حقيقية ، ولا يلزم من وقوعه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها ، ففي البخاري وغيره عن ابن عمر : " أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات ، فذكر خطبته " فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ، ورجع إلى منى ، انتهى .

وقال الأبي : ترجم البخاري الفتيا على الدابة عند الجمرة ، فهو يدل على أنها لم تكن خطبة .

( والناس يسألونه ) وفي رواية : فجعلوا يسألونه ، وأخرى فطفق ناس يسألونه ( فجاءه رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ، ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة ، وكانوا جماعة ، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره : كان الأعراب يسألونه ، فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم ( فقال له : يا رسول الله لم أشعر ) بضم العين ، أي أفطن ، يقال : شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له ، وقيل : الشعور : العلم ، ولم يفصح في رواية مالك بمتعلق الشعور ، وبينه يونس عند مسلم بلفظ : لم أشعر أن الرمي قبل الحلق ( فحلقت ) شعر رأسي ( قبل أن أنحر ) وفي رواية : قبل أن أذبح ، والفاء سببية ، جعل الحلق مسببا عن عدم [ ص: 588 ] الشعور كأنه يعتذر لتقصيره ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : انحر ) وفي رواية : اذبح ( ولا حرج ) قال عياض : ليس أمرا بالإعادة ، وإنما هو إباحة لما فعل ، لأنه سأل عن أمر فرغ منه ، فالمعنى : افعل ذلك متى شئت ، ونفي الحرج بين في رفع الفدية عن العامد والساهي ، وفي رفع الإثم عن الساهي ، وأما العامد ، فالأصل أن تارك السنة عمدا لا يأثم إلا أن يتهاون ، فيأثم للتهاون لا للترك .

( ثم جاءه آخر فقال : يا رسول الله لم أشعر ) : أفطن ، أو أعلم ، زاد يونس : أن الرمي قبل النحر ( فنحرت ) الهدي ( قبل أن أرمي ) الجمرة ( قال : ارم ولا حرج ) أي لا ضيق عليك في ذلك ، زاد في رواية ابن جريج في الصحيحين : وأشباه ذلك ، وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم : " وقال آخر : أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج " ، وفي رواية معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي ، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء : الحلق قبل الذبح ، والنحر قبل الرمي ، والحلق قبل الرمي ، والإفاضة قبل الرمي ، والأوليان في حديث ابن عباس أيضا في الصحيح ، وللدارقطني من حديثه أيضا السؤال عن الحلق قبل الرمي ، وكذا في حديث جابر ، وأبي سعيد عند الطحاوي ، وفي حديث علي عند أحمد : السؤال عن الإفاضة قبل الحلق وفي حديثه عند الطحاوي : والسؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق ، وفي حديث جابر عند ابن حبان وغيره : السؤال عن الإفاضة قبل الذبح ، وفي حديث أسامة بن شريك : السؤال عن السعي قبل الطواف ، وهو محمول على من سعى بعد طواف القدوم ، ثم طاف طواف الإفاضة ، فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف ، أي الركن ، فهذا ما تحذر من مجموع الأحاديث ، وبقي عدة صور لم يذكرها الرواة إما اختصارا ، وإما لأنها لم تقع ، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة منها صورة الترتيب المتفق عليها ، وهي رمي جمرة العقبة ، ثم نحر الهدي أو ذبحه ، ثم الحلق ، أو التقصير ثم طواف الإفاضة .

وفي الصحيحين عن أنس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى ، فأتى الجمرة فرماها ، ثم أتى منزله بمنى ، فنحر ، وقال للحالق : جز " ولأبي داود : " رمى ثم نحر ثم حلق " ، وأجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب ، إلا أن ابن الجهم استثنى القارن ، فقال : لا يحلق حتى يطوف ، كأنه لاحظ أنه في عمل العمرة والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف ، ورد عليه النووي ، وأجمع العلماء على الإجزاء في التقديم والتأخير ، إلا أنه اختلفوا في الدم ، فأوجبه مالك في تقديم الإفاضة على الرمي ، لأنه لم يقع في روايته حديث الباب ، ولا يلزم بزيادة غيره ، لأنه أثبت الناس في ابن شهاب ، وأوجب الفدية في تقديم الحلق على الرمي لوقوعه قبل شيء من التحلل .

وذلك أبو حنيفة إلى أن الترتيب واجب ، وعليه الدم في كل المخالفة ، وتأول : لا حرج على نفي الإثم ، لأنه فعل على الجهل لا [ ص: 589 ] القصد فأسقط الحرج ، وعذرهم لعدم العلم بدليل قول السائل : لم أشعر .

وذهب الجمهور والشافعي وأحمد في رواية إلى الجواز وعدم وجوب الدم في شيء لعموم قوله ( قال ) عبد الله بن عمرو : ( فما سئل رسول الله ) زاد في رواية : يومئذ ( عن شيء قدم ، ولا أخر إلا قال : افعل ولا حرج ) عليك ، فإنه ظاهر في نفي الإثم والفدية والدم ، لأن اسم الضيق يشمل ذلك ، قال الطحاوي : لكن يحتمل أنه لا إثم في ذلك الفعل لمن كان ناسيا أو جاهلا أي كالسائلين ، قال : وأما من تعمد المخالفة فيجب عليه الفدية ، وتعقب بأن وجوبها يحتاج إلى دليل ، ولو وجبت لبينه - صلى الله عليه وسلم - حينئذ وقت الحاجة ، فلا يجوز تأخيره .

قال الطبري : ولم يسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرج ، وقد أجزأ الفعل ، إذ لو لم يجز لأمره بالإعادة ، لأن الجهل والنسيان لا يضعان الحكم اللازم في الحج ، كما لو ترك الرمي ونحوه ، فلا يأثم بتركه جاهلا أو ناسيا ، لكن تجب عليه الإعادة ، قال : والعجب ممن يحمل قوله : ولا حرج ، على نفي الإثم فقط ، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض ، فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم ، فليكن في الجميع ، وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج - كذا قال - وجوابه : إن مالكا خص من العلوم تقديم الحلق على الرمي ، فأوجب فيه الفدية لعلة أخرى ، وهي إلقاء التفث قبل فعل شيء من التحلل ، وقد أوجب الله ورسوله الفدية على المريض ، أو من برأسه أذى إذا حلق قبل محل الحلق ، مع جواز ذلك له لضرورته ، فكيف بالجاهل والناسي ؟ وخص منه أيضا تقديم الإفاضة على الرمي لئلا يكون وسيلة إلى النساء والصيد قبل الرمي ، ولأنه خلاف الواقع منه - صلى الله عليه وسلم - وقد قال : " خذوا عني مناسككم " ولم يثبت عنده زيادة ذلك في حديث الباب ، فلا يلزمه زيادة غيره ، وهو أثبت الناس في ابن شهاب ، ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه ابن أبي حفصة الذي روى ذلك عن ابن شهاب ، وإن كان صدوقا ، وروى له الشيخان ، لكنه يخطئ بل ضعفه النسائي ، واختلف قول ابن معين في تضعيفه ، وكان يحيى بن سعيد يتكلم فيه ، وقال أحمد في رواية : إن كان ناسيا أو جاهلا ، فلا شيء عليه ، وإن كان عالما ، فلا لقوله : لم أشعر .

وأجيب بأن الترتيب لو وجب لما سقط بالسهو ، كالترتيب بين السعي والطواف ، إذ لو سعى قبله وجبت إعادة السعي ، لكن قال ابن دقيق العيد : ما قاله أحمد قوي ، لأن الدليل دل على وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم - في الحج لقوله : " خذوا عني مناسككم " ، وهذه الأحاديث المرخصة قد قرنت بقول السائل : لم أشعر ، فيختص الحكم بهذه الحالة ، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج ، وأيضا الحكم إذا رتب على وصف يمكن أنه معتبر لم يجز طرحه ، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة ، وقد علق به الحكم ، فلا يمكن طرحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه ، والتمسك بقوله : فما سئل . . . إلخ ، لإشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى جوابه ، إن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه [ ص: 590 ] وهو مطلق بالنسبة إلى حالة السائل ، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين ، فلا يبقى فيه حجة في حالة العمد ، انتهى .

وفيه وجوب اتباع أفعاله ، لأن الذين خالفوه لما علموا سألوا عن حكم ذلك وجواز سؤال العالم واقفا وراكبا ، ولا يعارضه ما روي عن مالك من كراهة ذكر العلم والحديث في الطريق ، لأن الوقوف بمنى لا يعد من الطرق ، لأنه موقف عبادة وذكر ووقت - حاجة إلى التعلم خوف الفوات - إما بالزمان أو المكان ، وأخرجه البخاري في العلم عن إسماعيل ، وهنا عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك ، وتابعه جماعة عن ابن شهاب به في الصحيحين ، وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية