صفحة جزء
وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك له حسنات فهي له أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها فهي لذلك ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
975 959 - ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم المدني ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) بائع السمن ( عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الخيل ) زاد القعنبي لثلاثة ( لرجل أجر ) أي ثواب ( ولرجل ستر ) بكسر فسكون أي ساتر لفقره ولحاله ( وعلى رجل وزر ) أي إثم ، ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية وهو الأخير أو لا ولا وهو الثاني .

( فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ) أي أعدها للجهاد ( فأطال لها ) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح الرعي ( في مرج ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم موضع كلأ ، وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أو روضة ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فما أصابت ) أي أكلت وشربت ومشت ( في طيلها ) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام : حبلها الذي تربط به ويطول لها لترعى ، ويقال له طول بالواو المفتوحة أيضا [ ص: 9 ] ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم ، إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفا عند البخاري : " إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات " ( ذلك من المرج ) الأرض الواسعة ذات كلأ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت .

( أو الروضة ) بالشك من الراوي كسابقه ( كان ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرا لمعنى ما ( له حسنات ) يوم القيامة يجدها موفورة ( ولو أنها قطعت طيلها ذلك ، فاستنت ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شرفا أو شرفين ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما شوطا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه ، والشرف : العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كانت آثارها ) بالمد والمثلثة في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وأرواثها ) بمثلثة جمع روث أي ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حسنات له ) أي لصاحبها يوم القيامة ( ولو أنها مرت بنهر ) بفتح الهاء وسكونها ( فشربت منه ) بغير قصد صاحبها ( و ) الحال أنه ( لم يرد أن يسقي ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( به ) أي من ذلك النهر ( كان ذلك ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( له حسنات ) يوم القيامة ، وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها .

وقال ابن المنير : قيل إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر ، وقيل إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر ، وكل ذلك عدول عن القصد ( فهي له أجر ) في الوجهين .

( و ) القسم الثاني الذي هي له ستر ( رجل ربطها تغنيا ) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس ، يقال : تغنيت بما رزقني الله تغنيا ، وتغانيت تغانيا ، واستغنيت استغناء كلها بمعنى ، والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيا عن سؤال الناس ( وتعففا ) عن مسألتهم .

وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم : أما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففا وتكرما وتجملا ( ولم ينس حق الله في رقابها ) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها ، وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى : ( فتحرير رقبة ) ( سورة النساء : الآية 92 ) ( ولا ) في ( ظهورها ) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك ، هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور ، وقيل : المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد [ ص: 10 ] وأبي حنيفة وخالفه صاحباه ، قال أبو عمر : لا أعلم أحدا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فهي لذلك ستر ) ساتر من المسكنة ( و ) الثالث الذي هي له وزر ( رجل ربطها فخرا ) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظما ( ورياء ) أي إظهارا للطاعة ، والباطن بخلافه ، وفي رواية سهيل : وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرا وبطرا ورياء للناس ( ونواء ) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لأهل الإسلام ) قال الخليل : ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة ، وحكى عياض فتح النون والقصر ، وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدا .

وقال البوني : يروى نوى بفتح النون وكسرها ويروى نواء بالمد مصدر انتهى .

والظاهر أن الواو فيه فيما قبله بمعنى : " أو " ، لأن هذه الأشياء قد تفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته ، وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فهي على ذلك وزر ) أي إثم ، وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال : اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبا أو مباحا أو ممنوعا ، فدخل في المطلوب : الواجب والمندوب ، وفي الممنوع : المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد ، واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله : ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب ، والسر فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - غالبا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع ، أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو ، ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب .

( وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها ؟ وبه جزم الخطابي ، قال الحافظ : لم أقف على تسمية السائل صريحا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله : قدمت على النبي فسمعته يقول : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) ( سورة الزلزلة : الآية 7 ) إلى آخر السورة ، فقلت ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي .

رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الاحتمال ( فقال : لم ينزل ) بالبناء للمفعول ( على فيها شيء ) منصوص ، وفي رواية : " ما أنزل الله على فيها " ( إلا هذه الآية الجامعة ) لكل الخيرات والمسرات ( الفاذة ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها .

قال أبو عبد الملك : يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ، ويحتمل أنها نزلت وحدها ، والفاذ هو [ ص: 11 ] المنفرد انتهى .

وقال ابن التين : المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك ، وإن عمل معصية رأى عقابها .

وقال ابن عبد البر يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير وشر ، فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه ، وأما الشر فتحت المشيئة .

قال : وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في : " الحمر لم ينزل على فيها شيء إلا " . . . إلخ ، وهذا يعضد قول من قال : أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ( سورة النجم : الآية 3 ، 4 ) واحتج بحديث : " أوتيت الكتاب ومثله معه " وبقول عبد الله بن عمرو : " يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم ، قال : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم فإني لا أقول إلا حقا " ( فمن يعمل مثقال ذرة ) أي نملة صغيرة ، وقيل : الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ( خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) قال ابن بطال : فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرة من خير أو شر ، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده ، وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافا لمن أنكر أو وقف ، وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص ، وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة ، وهو حجة أيضا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو : ( من عمل صالحا فلنفسه ) ( سورة فصلت : الآية 46 ) وقد اتفق العلماء على عموم آية ( فمن يعمل ) القائلون بالعموم ومن لم يقل به .

قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن وأصدق .

وقال كعب الأحبار : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ( سورة الزلزلة : الآية 7 ، 8 ) الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوة وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ، ورواه مسلم في الزكاة مطولا من طرق عن زيد بن أسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية