صفحة جزء
باب ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض

حدثني يحيى عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء
21 - باب ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض

1220 1205 - ( مالك ، عن نافع : أن عبد الله بن عمر ) كذا في رواية يحيى ، وظاهرها الإرسال ; إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد ، فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري وإسماعيل وغيرهما ، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته ) هي آمنة ، بمد الهمزة وكسر الميم ، بنت غفار ، بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء ، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضيل بن ناصر ، أو بنت عمار ، بفتح العين المهملة والميم المشددة ، قال الحافظ : والأول أولى . وفي مسند أحمد : اسمها النوار ، فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار ، صحابية ( وهي حائض ) جملة حالية ، زاد الليث عن نافع عن ابن عمر : تطليقة واحدة ، أخرجه مسلم وقال : جود الليث في قوله تطليقة واحدة ، قال عياض : يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق ، وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثا ( على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة ، زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه : فتغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم . قال ابن العربي : يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ، ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ) ( سورة الطلاق : الآية 1 ) ، وقوله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ( سورة البقرة : الآية 228 ) والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ، [ ص: 304 ] ويحتمل أن يكون سمع النهي ، والأوسط أقواها ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) لعمر ( مره ) أصله اأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعا للعين مثل افعل والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفا من جنس حركة سابقتها فيقال اومر ، فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى : ( وأمر أهلك بالصلاة ) ( سورة طه : الآية 132 ) لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا " مر " لكثرة الدور ; لأنهم حذفوا أولا الهمزة الثانية تخفيفا ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها ، أي مر ابنك عبد الله ( فليراجعها ) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة ، وصححه صاحب الهداية من الحنفية ، وللندب عند الأئمة الثلاثة ، ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه ، وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مبلغ عنه ، وأما استدلالهم بقوله تعالى : ( فأمسكوهن بمعروف ) ( سورة الطلاق : الآية 2 ) وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها ، فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعا بينهما فليس بناهض ; إذ الأصل في الأمر الوجوب ، فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها ) أي يديم إمساكها وإلا فالرجعة إمساك ، وفي رواية يحيى التميمي : ثم ليتركها ، ولإسماعيل : ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها بقراءة : ( ثم ليقضوا تفثهم ) ( سورة الحج : الآية 29 ) فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل ، وفي رواية : ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض ) حيضة أخرى ( ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق ) وفي رواية إسماعيل : طلقها ( قبل أن يمس ) ولإسماعيل : يمسها أي يجامعها ، فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع أو لا فبالأقراء ، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق ، وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض ، فإن قيل : لم أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني ؟ أجيب بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد ، فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد ، وليس ذلك بطلاق السنة ، وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض ، وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته ، قاله المازري ، وأجيب بأن تغيظه - صلى الله عليه وسلم - دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد ، وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال ، وليكون ذلك زجرا لغيره [ ص: 305 ] بعده .

وقيل : إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني ، وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له ، واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح ، وقيل : ليطول مقامه معها ، والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء ، فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها ، فيكون ذلك حرصا على رفع الطلاق وحضا على بقاء الزوجية ، حكى ذلك المازري أيضا ، قال ابن عبد البر : رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم بن عمر بلفظ : حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها ، فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع ، نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود ، وزيادة الثقة مقبولة خصوصا إذا كان حافظا . ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين : " مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها " . ( فتلك العدة التي أمر الله ) أي أذن ( أن يطلق لها النساء ) في قوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ) ( سورة الطلاق : الآية 1 ) وفي رواية لمسلم : قال ابن عمر : وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ) . قالعياض : أي في استقبال عدتهن ، وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس . وفي قراءة ابن مسعود : " لقبل طهرهن " . قال القشيري وغيره : وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة ، وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين ، زاد في رواية سالم في الصحيح : وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها ، وراجعها عبد الله كما أمره - صلى الله عليه وسلم - وفيه أن الطلاق يقع في الحيض ، وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة ، قال الباجي : إذ المراجعة لا تستعمل غالبا إلا بعد طلاق يعتد به ، فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم : لا يقع الطلاق على الحائض . وفي بعض طرق الحديث : فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها ، فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره - صلى الله عليه وسلم - ومن جهة القياس : أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف ; لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران ; لأنه عاص ، فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى . وقال أبو عمر : جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض وإن كرهه جميعهم ، ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع ، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء ، وقد سئل ابن عمر : أيعتد بتلك الطلقة ؟ قال : نعم ، روي ذلك عنه من طرق ، وفي بعضها قال : فمه [ ص: 306 ] أرأيت إن عجز واستحمق ، أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به ، أكان يعذر ؟ وكان إذا سئل يقول : إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها ، وإن طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثا كان أو واحدة ، ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة ، فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ، ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي ، فيكون أحسن حالا من المطيع ، وقد قال - تعالى - : ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) ( سورة الطلاق : الآية 1 ) أي عصى ربه وفارق امرأته ، وكذلك المطلق في الحيض ، وقد قال النووي : أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها ، فإن طلقها أثم ووقع ، وشذ بعض أهل الظاهر فقال : لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية ، والصواب الأول وبه قال العلماء كافة ; لأمره - عليه السلام - بالمراجعة ، فلو لم يقع لم تكن رجعة ، وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول ، غلط ; لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ، ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة . اهـ .

وقد روى الدارقطني : فقال عمر : " يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة ؟ قال : نعم " . فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه . وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر : " فقال - صلى الله عليه وسلم - : ليراجعها ، فردها ، وقال : إذا طهرت فليطلق أو يمسك " . وزاد النسائي وأبو داود فيه : ولم يرها ، أعله أبو داود فقال : روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة ، وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير ، وقال ابن عبد البر : لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه ؟ وقال الخطابي : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا . وقال الشافعي : نافع أثبت من أبي الزبير ، والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا ، وقد وافق نافعا غيره من أهل التثبت ، وحمل قوله : لم يرها شيئا ، على أنه لم يعدها شيئا صوابا ، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه : لم يصنع شيئا ، أي شيئا صوابا . وقال الخطابي : لم يرها شيئا تحرم معه المراجعة ، وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر : " أنه طلق امرأته وهي حائض ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ليس ذلك بشيء " . رواه سعيد بن منصور ، وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات . قال ابن دقيق العيد : ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا ؟ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر : " مره ، فأمره بأمره " . وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة ، والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفا آخر بفعل شيء ، فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا ، وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع " . لم يكن الأمر بالشيء أمرا بالشيء ; لأن [ ص: 307 ] الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوه ، وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه ، لم يكن الآمر بالشيء آمرا بالشيء أيضا بل هو متعد بأمره للأول أن يأمر الثاني ، وفي الحديث فوائد غير ما ذكر . وأخرجه البخاري عن إسماعيل ، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ، وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم ، كلاهما عن نافع ، وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية