صفحة جزء
وحدثني عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي
138 135 - ( مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ) قال ابن عبد البر : هكذا رواه مالك وأيوب ورواه الليث بن سعد وصخر بن جويرية وعبيد الله بن عمر عن نافع عن سليمان بن يسار أن رجلا أخبره عن أم سلمة فأدخلوا بينها وبين سليمان رجلا .

وقال النووي في الخلاصة : حديث صحيح رواه مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو داود ، والنسائي بأسانيد على شرط البخاري ومسلم ، انتهى .

فلم يعرج على دعوى الانقطاع ، ونازعه ابن عبد البر بأنهما حديثان متغايران إذ قد يمكن أن سليمان سمعه من رجل عن أم سلمة ثم سمعه منها فحدث به على الوجهين .

( أن امرأة ) قال أيوب السختياني : هي فاطمة بنت أبي حبيش ( كانت تهراق ) بضم التاء وفتح الهاء ( الدماء ) بالنصب ، قال الباجي : يريد أنها من كثرة الدم بها كأنها كانت تهريقه .

وقال ابن الأثير : جاء الحديث على ما لم يسم فاعله أي تهراق هي الدماء منصوب على التمييز وإن كان معرفة ، وله نظائر أي كقوله تعالى : سفه نفسه ( سورة البقرة : الآية 130 ) وهو مطرد عند الكوفيين وشاذ عند البصريين ، أو أجرى تهراق مجرى نفست المرأة غلاما ، ونتج الفرس مهرا ، قال ويجوز الرفع بتقدير " تهراق " دماؤها ، وأول بدل من الإضافة كقوله : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ( سورة البقرة : الآية 237 ) أي عقدة نكاحه ونكاحها ، قال : والهاء في هراق بدل من همزة أراق يقال : أراق الماء يريقه ، وهراقه يهريقه بفتح الهاء هراقة .

وقال أبو حيان في شرح التسهيل : أجاز بعض المتأخرين تشبيه الفعل اللازم بالمتعدي كما شبه وصفه باسم الفاعل المتعدي مستدلا بحديث " تهراق الدماء " ومنعه الشلوبين وقال : لا يكون ذلك إلا في الصفات ، وتأول الحديث على أنه على إسقاط حرف الجر أي بالدماء ، أو على إضمار فاعل أي يهريق الله الدماء منها ، قال أبو حيان : وهذا هو الصحيح إذ لم يثبت ذلك من لسان العرب ( في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتت لها أم سلمة ) بأمرها إياها بذلك ، ففي رواية الدارقطني أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت حتى كان المركن ينقل من تحتها وأعلاه [ ص: 241 ] الدم قال : فأمرت أم سلمة أن تسأل لها ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) كذا في هذه الرواية ، وفي حديث عائشة السابق : أن فاطمة هي السائلة ، ولأبي داود عن عروة كذلك عن فاطمة نفسها أنها قالت : سألت رسول الله ، وفي حديث آخر أن أسماء بنت عميس سألت لها ، قال الحافظ ولي الدين العراقي : ولعل الجمع بينها أن فاطمة سألت كلا من أم سلمة وأسماء أن تسأل لها فسألتا مجتمعتين أو سألت كل واحدة منهما مع عدم علمها بسؤال الأخرى ، وصح إطلاق السؤال على فاطمة باعتبار أمرها بالسؤال وأنها حضرت معهما فلما بدأتا بالكلام تكلمت هي حينئذ ، انتهى .

وهو مبني على أن تسليم هذه المرأة المبهمة فاطمة ، وقد قال ابن عبد البر : قال أيوب السختياني هذه المرأة هي فاطمة المذكورة في الحديث الأول وهو عندنا حديث آخر ، وكذا جعله ابن حنبل حديثا غير الأول فإنه في امرأة عرفت إقبال حيضتها وإدبارها ، وهذا الحديث في امرأة كان لها أيام معروفة فزادها الدم وأطبق عليها فلم تميزها فأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تترك الصلاة قدر أيامها من الشهر .

( فقال : لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة ) والصوم ونحوهما ( قدر ذلك من الشهر ) وأجاب ابن العراقي بأنه إن صح أن المبهمة فاطمة فلعلها كانت لها أحوال كانت في بعضها مميزة وفي بعضها ليست مميزة ، وجاء الجواب لها باعتبار حالتيها ، قال : وفيه تصريح بأنها لم تكن مبتدأة بل كانت لها عادة تعرفها وليس فيه بيان كونها مميزة أم لا فاحتج به من قال : إن المستحاضة المعتادة ترد لعادتها ميزت أم لا ، وافق تمييزها عادتها أم خالفها ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأشهر الروايتين عن أحمد وهو مأخوذ من قاعدة ترك الاستفصال فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسألها هل هي مميزة أم لا ، وأصح قولي الشافعي وهو مذهب مالك أنها إنما ترد لعادتها إذا لم تكن مميزة وإلا ردت إلى تمييزها ، ويدل له قوله في حديث فاطمة بنت حبيش : " إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف " رواه أبو داود ، وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنها غير مميزة فحكم عليها بذلك ، والذي اضطرهم إلى حمله على ذلك معارضة الحديث الآخر له والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من طرح أحدهما ، ومتى ردت إلى العادة مطلقا ألغي الحديث الآخر بالكلية .

( فإذا خلفت ذلك ) بفتح المعجمة واللام الثقيلة والفاء أي تركت أيام الحيض الذي كانت تعهده وراءها ( فلتغتسل ثم لتستثفر ) بفتح الفوقية وإسكان السين المهملة وفتح الفوقية وإسكان المثلثة وكسر الفاء أي تشد فرجها ( بثوب ) خرقة عريضة بعد أن تحتشي قطنا وتوثق طرفي الخرقة في شيء تشده على وسطها فيمنع بذلك سيل الدم مأخوذ من ثفر [ ص: 242 ] الدابة بفتح الفاء الذي يجعل تحت ذنبها وقيل مأخوذ من الثفر بإسكان الفاء وهو الفرج وإن كان أصله للسباع فاستعير لغيرها ، قال أبو عبد الملك : رواه الأكثر عن مالك بمثلثة ، ورواه مطرف عنه لتستذفر بذال معجمة بدلها أي تجفف الدم بالخرقة ( ثم لتصلي ) بإثبات الياء للإشباع كقوله تعالى : إنه من يتق ويصبر ( سورة يوسف : الآية 90 ) كذا قاله الشيخ ولي الدين العراقي ، لا يقال فيه نظر لأنه أمر لأنثى .

لأنا نقول هو ليس خطابا وإنما هو مسند لضمير الغائب أي لتصلي هي ، فكان الواجب حذف الياء للام الأمر فجيء بها للإشباع فحذف الجازم ياء العلة والموجودة إشباع ، وفيه أن حكم المستحاضة حكم الطاهرة في الصلاة وغيرها كصيام واعتكاف وقراءة ومس مصحف وحمله وسجود تلاوة وسائر العبادات وهذا أمر مجمع عليه ، وإنما اختلف في إباحة وطئها والجمهور على الجواز ، وقد استدل الشافعي بالأمر بالصلاة على جواز الوطء قال : لأن الله أمر باعتزالها حائضا وأذن في إتيانها طاهرا ، فلما حكم - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة في أن تغتسل وتصلي دل ذلك على جواز وطئها .

وفي البخاري عن ابن عباس : ويأتيها زوجها إذا صلت ، الصلاة أعظم ، وفيه أن العادة في الحيض تثبت بمرة لأنه - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى الشهر الذي يلي شهر الاستحاضة وهو الأصح عند المالكية والشافعية ، ولا يرد أنه قال : كانت تحيضهن لأن الصحيح في الأصول أن كان لا تدل على تكرر الفعل ولا دوامه ، وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن عبد الله بن سلمة ، والنسائي عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ، وتابعه أيوب السختياني عن أبي داود وعبيد الله بن عمر عند ابن ماجه كلاهما عن نافع به ، والنسائي من طرق عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة : سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره ، وأخرجه أبو داود من طريق أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن سليمان عن رجل من الأنصار أن امرأة . . . إلخ ، فاختلف على عبيد الله في إسناده .

التالي السابق


الخدمات العلمية